هل تتحول البصرة إلى إقليم يُدار بعيدا عن بغداد؟

دعوات إلى تحويل البصرة إلى إقليم، على غرار "كردستان العراق"

AFP
AFP
نهر شط العرب مقابل حقل نهر بن عمر النفطي في محافظة البصرة جنوب العراق في 18 يوليو / تموز 2022

هل تتحول البصرة إلى إقليم يُدار بعيدا عن بغداد؟

في اليوم الذي وصلت فيه "المجلة" إلى مدينة البصرة، أقصى جنوب العراق، كان سياسيون وناشطون مدنيون من أبناء المدينة يعقدون المؤتمر التأسيسي لإطلاق "حركة ناشطون السياسية المستقلة"، الساعية إلى تشكيل "إقليم البصرة". حيث ورد في البيان التأسيسي للمجتمعين: "تمكنت ثلة من الكفاءات البصرية المستقلة والمخلصة من إقامة المؤتمر التأسيسي الأول لحركة (ناشطون) المستقلة، والتصويت على أعضاء المجلس السياسي للحركة وبحضور ممثلين عن المفوضية المستقلة للانتخابات... تستوعب الحركة كل بصري مخلص يدعو إلى مشروع إقليم البصرة للقضاء على ديكتاتورية المركز المقيتة".

الناشطون في هذه الحركة السياسية/المدنية الجديدة، الذين التقتهم "المجلة"، عبروا عن سعي تقليدي لسكان المنطقة، الممتد منذ السنوات الأولى لتأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، وثمة وقائع حياتية وركائز جماهيرية لتلك الطروحات المناطقية في عموم طبقات مجتمع المدينة ومختلف قطاعاته وجهاته؛ فمن الجدارية الكُبرى في الصالة الرئيسة لمطار المدينة، المطابقة من حيث النمط لـ"جدارية الحرية" للفنان جواد سليم في العاصمة العراقية بغداد، لكن المتمايزة عنها بكثافة حضور المعاني والرموز التاريخية الخاصة بالبصرة، مرورا بالعلم المحلي الموحد– الأخضر والأبيض والأزرق- الذي يرفعه النشطاء السياسيون والمدنيون أثناء مظاهراتهم أو فعالياتهم، مما يدل على قوة النزعة المحلية في المدينة.

من خلال السبر العام لآراء المنخرطين في الحراك المطالب بتحويل البصرة إلى إقليم فيدرالي، سواء في حركة "ناشطون"، أو تنظيمات أخرى، مثل "تجمع الفيحاء الفيدرالي"، فإن مسألتي الاقتصاد المحلي والتغيرات الديموغرافية التي تطرأ على هوية محافظة البصرة هما السببان الرئيسان لزيادة المطالبات المحلية بتحقيق الفيدرالية لمنطقة البصرة، أو أي هوية أو علاقة إدارية/سياسية لها بالمركز، تخفف من قدرة السلطات والمؤسسات المركزية على التحكم في الحياة العامة في البصرة.

وثمة شعور محلي سائد، يعتقد أن البصرة وسكانها لا يحصلون على "حصة مالية عادلة" من الخزينة العامة، على الرغم من الثروة النفطية الهائلة التي في منطقتهم، المُلبية لثلثي حاجات العراق الاقتصادية.

يُرجع "النشطاء البصريون" أسباب حدوث ذلك إلى "هيمنة المركز"، الذي يمنع منطقتهم من خلق تنمية اقتصادية شاملة، عبر السيطرة على المشاريع المنفذة في المحافظة، وإدارة الملفات والقرارات الاقتصادية الخاصة بالمحافظة حسب حاجات ورؤية المركز. مذكرين بتشريع البرلمان لقانون "البصرة عاصمة العراق الاقتصادية"، الذي صدر عام 2017، لكنه بقي طي الأدراج المركزية منذ ذلك الوقت، لأن تنفيذه يعني المزيد من الأدوات وحرية التصرف الاقتصادي للبصرة، والذي سيكون على حساب القدرات المالية الكبرى المتاحة للسلطات المركزية. بالذات من حيث قدرة الأحزاب والقوى المركزية على التصرف في تلك الأموال، وصرفها بطرائق تقوي من نفوذهم وقدرتهم من حيث السيطرة على مختلف مجتمعات العراق.

الاقتصاد المحلي والتغيرات الديموغرافية التي تطرأ على هوية محافظة البصرة هما السببان الرئيسان لزيادة المطالبات المحلية بتحقيق الفيدرالية لمنطقة البصرة

كذلك يشير النشطاء إلى التبدلات الديموغرافية الهائلة التي طرأت على عموم المحافظة، لكن بالذات على مدينة البصرة، بسبب الهجرات المحلية إليها خلال العقدين الماضيين. فالبصرة تضخمت سكانيا إلى ضعف ما كانت عليه خلال عقد واحد فحسب، حيث تفاقمت فيها العشوائيات السكنية، وصارت منتشرة في كل أنحاء المدينة، فيما تراجعت الخدمات العامة بسبب ذلك، وتدهورت أحوال البيئة الطبيعية المحيطة بكل حواضر المحافظة، من جداول وأنهار وبساتين، كانت الكثافة السكانية سببا رئيسا لحدوث ذلك.

وقد اتخذت الحكومة المحلية في البصرة قرارا خلال العام الماضي، حددت فيه شروط ومستلزمات "نقل الإقامة والنفوس المدني" من المحافظات الأخرى إلى البصرة، بغية ضبط الانفجار السكاني داخلها. لكن، وبسبب محدودية السلطة التي تتمتع بها كإدارة محلية، لم تظهر حتى الآن نتائج واضحة للقرار. فالمواطنون العراقيون، بالذات من المحافظات القريبة، مثل ميسان وذي قار، أو حتى من مناطق الفرات الأوسط، ما يزالون يتدفقون على محافظة البصرة.

يمثل إقليم كردستان العراق نموذجا اقتصاديا للمقارنة بالنسبة للمطالبين بإقليم البصرة؛ إذ يعتقدون أن حصة الفرد الواحد في إقليم كردستان، من الأموال التي تدفقت عليه خلال العقدين الماضيين، لم تكن أكثر مما خُصص "اسميا" لأبناء محافظة البصرة، ومع ذلك تمكن الإقليم من تحقيق نقلة تنموية اقتصادية خلال هذه الفترة القصيرة، بسبب "سيادته" على القرار الاقتصادي الخاص به، وضوابط وفاعلية المسؤولية المباشرة للمشرفين على التوجهات الاقتصادية فيه، وإحساسهم بإمكانية المحاسبة. على العكس من البصرة، التي تتبعثر المسؤوليات الاقتصادية والتخطيطية الخاصة به على أكثر من مستوى، فيتنصل القائمون من مسؤولياتهم، وليس من استراتيجية عليا ومتراكمة يمكن تنفيذها.

يمثل إقليم كردستان العراق نموذجا اقتصاديا للمقارنة بالنسبة للمطالبين بإقليم البصرة؛ إذ يعتقدون أن حصة الفرد الواحد في إقليم كردستان، من الأموال التي تدفقت عليه خلال العقدين الماضيين لم تكن أكثر مما خُصص "اسميا" لأبناء محافظة البصرة، ومع ذلك تمكن الإقليم من تحقيق نقلة تنموية اقتصادية خلال هذه الفترة القصيرة، بسبب "سيادته" على القرار الاقتصادي الخاص به

السياسي العراقي المعروف ومحافظ البصرة السابق وأحد الأعضاء البارزين في لجنة كتابة الدستور العراقي الحديث وائل عبد اللطيف، شرح في حديث مع "المجلة" الأحقية الدستورية التامة للبصرة بالتحول إلى إقليم، وهو ما يراه عبد اللطيف حلا لمشكلة تتفاقم بالتقادم، ووفاء لروح ومضامين الدستور العراقي، الذي كان قرارا جماعيا من كل الشعب العراقي.

يقول السياسي العراقي إن دستور العراق مُشيد بالأساس على أربعة أعمدة من اللامركزية، تمنح العراقيين الحق في اللامركزية الإدارية، والمؤسساتية/المرفقية، والسياسية، والفيدرالية. وجميعها مشيد على فكرة تقول بضرورة سحب كتلة من السلطات من يد الحكومة المركزية، وتمنحها لباقي الجهات، سواء للمحافظات ما لم تُنظم بأقاليم، أو للهيئات والمؤسسات المستقلة، مثل البنك المركزي والمفوضية العليا للانتخابات، أو للأقاليم الفيدرالية، مستثنية العاصمة بغداد، التي يمنعها الدستور من تشكيل إقليم أو الانضمام لأي إقليم.

AFP
صورة جوية لمتطوعين عراقيين يشاركون في حملة لتنظيف النفايات في جزيرة السندباد في ممر شط العرب المائي، والتي تشكلت عند التقاء نهري دجلة والفرات، في مدينة البصرة، في الأول من أبريل 2022

يرى عبد اللطيف أن البصرة وسكانها محرومون من حقهم الدستوري، رغم جميع المطالبات والدعوات التي طُرحت طوال السنوات الماضية، بفعل الأجندة المركزية، التي تمانع تفعيل القرارات المتخذة من الجهات السياسية والتمثيلية في المحافظة. واصفا هذه التوجهات بالالتفاف على الدستور وتجميده فعليا. فمجموع القوى السياسية والشعبية التي صوتت على الدستور، ومن بعده على القانون رقم 13 لعام 2008 "قانون الإجراءات التنفيذية الخاصة بتكوين الأقاليم"، أصبحت تعادي المرتكزات التي طرحتها وتوافقت عليها، سياسيا وشعبيا. معللا ذلك بمزيج من المخاوف المالية لدى سلطات المركز مع التدخلات الخارجية المناهضة للامركزية.

حساسيات وخطوات عملية

لا يبني البصريون دعوتهم لإنشاء إقليم فيدرالي خاص حسب "مزاحمة" مع السلطات المركزية فحسب، كما يشرح السياسي والقيادي في "تجمع الفيحاء الفيدرالي" كريم شواك المالكي، الذي حاورته "المجلة" وأخبرها كيف أن تنظيمهم السياسي يحمل رؤية سياسية شاملة لمشاكل العراق، مبنية أساسا على الدفع بكل المناطق والمحافظات العراقية لأن تطالب بالفيدرالية؛ لأنها- حسب وصفه- وحدها القادرة على الاستجابة لباقة التنوع الطائفي والقومي والديني في العراق، وحتى لا تتمكن أية جهة أو جماعة عراقية من الهيمنة على الأخرى عبر السلطة المركزية.

يذكّر المالكي بنوعي الفيدرالية المطبقة راهنا في العراق، المعلنة كما في إقليم كردستان، والمُستترة كما في محافظتي النجف وكربلاء، اللتين تتمتعان فعليا بكل الحقوق والآليات الفيدرالية، وإن دون إعلانها. من سيطرة قواها المحلية على مرافق كبرى مثل المطارات المدنية، أو تشييدها لمؤسسات خدمية صحية وإدارتها محليا فحسب، وصولا لامتلاك محافظيها الحق في تأسيس وتشريع برامج ومشاريع اقتصادية تتجاوز قيمتها 100 مليون دولار، وهو ما لا يسمح به القانون العراقي، ويصنفها ضمن السلطات الخاصة بالمركز، لكن ثمة وضعية خاصة للمحافظتين دون غيرهما من المحافظات، حسبما يذكر المالكي.

يسرد المالكي سلسلة من الخطوات العملية التي نفذتها التجمعات السياسية ومجلس محافظة البصرة، لكن دون أن "يتحقق المراد"، على الرغم من تلبية الشروط الثلاثة المُطلوبة لتحقيق الفيدرالية.

المرحلة الأولى المسماة "إبداء النية"، من خلال تقدم اثنين في المئة من سكان المحافظة لطلب الانتظام في إقليم، وهو ما حدث خلال عام 2008، حينما تقدم أكثر من 36 ألف مواطن من البصرة لطلب تحقيق الفيدرالية، وتم رفض طلبهم، فعادوا خلال العام 2015 وتقدم 56 ألف مواطن بنفس الطلب، مما دفع المفوضية العليا للانتخابات لأن تطالب الحكومة برصد الأموال لإجراء المرحلة الثانية من الطلب، حيث يجب الحصول على موافقة 10 في المائة من السكان، لإجراء الاستفتاء العام.

ورفضت الحكومة المركزية العراقية ذلك الطلب، فتقدم 23 من أعضاء مجلس المحافظة بطلب إلى الحكومة، كانوا يشكلون أكثر من ثلثي أعضاء مجلس المحافظة، وكان المالكي واحدا منهم، وبذا تم تحقيق المرحلة الثانية من المُتطلبات، لكن العملية توقفت عند ذلك الحد، لأن السلطة المركزية لم تنظم الاستفتاء المحلي العام.

يرفض المالكي تشبيه دعوات "أقلمة البصرة" بما تقدم به رئيس "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق" عبد العزيز الحكيم عام 2005، الذي طالب بضم 9 محافظات جنوبية وفي وسط العراق في إقليم فيدرالي واحد "شيعي". فالمالكي يؤكد أن نزعتهم السياسية جغرافية محلية خاصة بمحافظة البصرة فحسب، وتبتغي الحفاظ على كامل النسيج الاجتماعي والتنوع الديني والطائفي داخلها، من مسلمين شيعة وسُنة، ومعهم المسيحيون والصابئة وغيرهم؛ مذكرا بالتواصل الدائم لقادة "الحراك البصري" مع النظراء في المحافظات الأخرى، نينوى "الموصل" والناصرية بالذات، التي وصلت العلاقة معهم إلى مجموعة من التفاهمات، وإلى حد كبير مع السماوة.

يشير المالكي إلى المزاحمة بين تياراتهم المحلية مع القوى السياسية المركزية، التي تحتكر كل السلطات ومنابع الثروة، وتعتقد أن البنى الفيدرالية ستسحب تلك الميزات منهم. كاشفا مجموعة من الضغوط التي يتعرضون لها من قِبل جهات محسوبة على تلك الأحزاب المناهضة لهم تماما.

تعود النزعات المطالبة بتشكيل "فيدرالية البصرة" إلى السنوات الأولى لتأسيس الدولة العراقية، والتي كانت تُسمى "الوضع الخاص للبصرة"، عبر المذكرة الشهيرة التي تقدم بها 4500 من أعيان البصرة إلى الحاكم العسكري الإنكليزي وقتئذ

تعود النزعات المطالبة بتشكيل "فيدرالية البصرة" إلى السنوات الأولى لتأسيس الدولة العراقية، والتي كانت تُسمى "الوضع الخاص للبصرة"، عبر المذكرة الشهيرة التي تقدم بها 4500 من أعيان البصرة إلى الحاكم العسكري الإنكليزي وقتئذ، ويذكرها السياسي العراقي مزاحم الباجه جي في كتاب مذكراته، مُشيرا إلى الانقسام السياسي الشديد بشأنها وقتئذ، والصراع الداخلي الذي أدى في المحصلة لأن تُرفض تلك المذكرة.

ولأسباب معقدة، مرتبطة تحديدا بالرهاب من إمكانية تصاعد دعوات الاستقلال/ الانفصال في حال إقرار الفيدرالية، بسبب التنوع القومي والديني والطائفي في العراق، فإن مختلف الدساتير العراقية التي أُقرت منذ التأسيس كانت شديدة المركزية. حتى الدستور المؤقت في عام 1970، الذي وضعه حزب البعث الحاكم وقتئذ، كان يُشير إلى اللامركزية بدلالتها الإدارية المبسطة.

شكلت اللامركزية الموسعة أهم ركائز الدستور العراقي الجديد بعد عام 2005، وبكل مستوياتها. ولأجل ذلك بدأ سكان البصرة باتخاذ كثير من الخطوات نحو تحقيق "الفيدرالية"، أو أي وضع خاص خارج السيطرة التامة من السلطات المركزية. منذ المحاولة الأولى عام 2008، بدعم من حزب الفضيلة، وإعادة الكرة مرة أخرى خلال عام 2010، عبر تقديم طلب من قِبل مجلس المحافظة، وتم تجاهله من رئيس الوزراء حينها نوري المالكي، فانطلقت عام 2014 "الحملة الشعبية لتكوين إقليم البصرة". ومن بعده صار ذلك المطلب مادة أولية ودائمة في كافة المظاهرات الاعتراضية بعد عام 2018.

ويعتقد النشطاء المحليون في محافظة البصرة أن الحكومة المركزية تحاول "وأد" مطالبهم عبر زيادة المخصصات المالية لمحافظتهم، التي يعتقدون أنها زيادة لا تحقق أية نتائج، لأن سلطة وآلية التخطيط والصرف الخاصة بها تكون في المحصلة خاضعة لسلطة المركز؛ مذكرين بالانتخابات المحلية المنوي إجراؤها أواخر هذا العام، متوعدين بدخولها بزخم استثنائي، بغية تحقيق أغلبية في مجلس المحافظة، وخلق اندفاعة سياسية وقانونية لمطالبهم.

font change

مقالات ذات صلة