ما السوء في عالم متعدد الأقطاب؟

النظام العالمي الجديد بين ظهرانينا

ما السوء في عالم متعدد الأقطاب؟

هو ذا النظام العالمي المتعدد الأقطاب بين ظهرانينا، أما متى بدأ بالضبط فذلك محط نقاش بين العلماء والمؤرخين؛ فالبعض يرى أنه جاء مع هجوم روسيا على أوكرانيا عام 2022، معلنا نهاية حقبة الهيمنة الأميركية والعودة إلى فترة جديدة من التنافس بين القوى العظمى، فيما يشير آخرون إلى الانهيار المالي عام 2008 الذي كان نقطة البداية في تحول الاقتصاد العالمي من الغرب إلى الشرق وكشف عن صعود الصين كمنافس واقعي للولايات المتحدة. ويعود آخرون في ذلك إلى حرب العراق عام 2003: لحظة غطرسة واشنطن التي كشفت حدود القوة الأميركية وشكلت بداية نهاية تفوقها العالمي بعد الحرب الباردة. ولكن أيا كانت بداية تعدد الأقطاب، فإن معظم المحللين متفقون على أن الانتقال إلى نظام عالمي جديد يجري الآن.

لكن وسط كثير من السياسيين والمعلقين الأميركيين والغربيين، عادة ما يؤطر ذلك على نحو سلبي. وكما يلاحظ ستيفن إم والت، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، تبدي إدارة بايدن على الأخص "حنينا إلى الحقبة القصيرة التي لم تواجه فيها الولايات المتحدة منافسين أندادا لها". ويشير والت إلى أن الخط المتشدد الذي يتبعه البيت الأبيض حاليا ضد روسيا والصين هو محاولة من الولايات المتحدة كي تؤكد مجددا قيادتها للعالم. وبما أن خصوم واشنطن في موسكو وبكين طالبوا منذ فترة طويلة بإنهاء هيمنة أميركا، فليس مستغربا أن يتخوف كثيرون في الولايات المتحدة وأماكن أخرى في الغرب من النظام العالمي الآخذ بالنمو اليوم.

Reuters
اسقاط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس في 9 أبريل 2003

إلا أن التعددية القطبية ها هي هنا، سواء أحببنا ذلك أم لم نحب، وكما يشير والت وآخرون، من الصعب أن نرى زعيما أميركيا يعيد بنجاح خلق التفوق الأميركي الذي كان في التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. علاوة على ذلك، وعلى الرغم من ذعر بعض مثيري القلق الغربيين، فإن النظام متعدد الأقطاب الجديد قد لا يثبت أنه غير مستقر أكثر من عصر الهيمنة الأميركية. في الواقع، تبين لنا نظرة عن كثب أولا، أن "لحظة القطب الواحد" كانت أقل استقرارا مما قد يرى المصفقون لها، وتبين ثانيا أن التعددية القطبية توفر كثيرا من المزايا، وعلى الأخص للبلدان غير الغربية.

أساطير "لحظة القطب الواحد"

صاغ الصحافي تشارلز كراوثامر مصطلح "اللحظة الأحادية القطب" أول مرة عام 1990. وأشار إلى أنه مع انتهاء الحرب الباردة وبينما الاتحاد السوفياتي على شفا الانهيار، فإن "النظام الثنائي القطب" الذي ساد العقود الأربعة الماضية ونصف العقد الماضي، حين كانت هناك قوتان عظميان عالميتان، قد انتهى الآن. وحل مكانه "قطب" الولايات المتحدة بلا منازع، وهو القطب الذي سيتماسك حوله النظام العالمي. وقد غدت هذه الفكرة خلال التسعينات محور الإدارات الأميركية المتعاقبة، كما هو في كثير من الوثائق الخاصة باستراتيجية الأمن القومي في عهد بوش الأب وكلينتون وبوش الابن التي تدعو إلى "تفوق الولايات المتحدة" في العالم. وأصر كثيرون على أن هذه الهيمنة الأميركية كانت جيدة ليس فقط للولايات المتحدة، إنما أيضا للعالم، لأنها تضمن انتشار "الحرية" والحفاظ عليها.

غير أن نزعة الانتصار هذه تخفي أن أحادية القطب لم تكن أكثر استقرارا من ثنائية القطب إبان الحرب الباردة. صحيح أن خطر التدمير المتبادل المؤكد قد انحسر وكان هناك عدد أقل من المخاوف النووية كما في أزمة الصواريخ الكوبية أو حرب أكتوبر/تشرين الأول أو حادثة "آبل آرتشر" في 1983 عندما اعتقد السوفيات أن المناورات التي يجريها حلف الناتو هي بداية الحرب النووية. وإذا كان الأميركيون ربما شعروا بمزيد من الأمان، إلا أن أحادية القطب لم تقدم ما يمنع حدوث بعض أكثر الصراعات فظاعة في العصر الحديث. فقد شهدت التسعينات في الواقع زيادة في القتل الإثني، كما حدث في يوغوسلافيا والاتحاد السوفياتي السابقين والإبادة الجماعية في رواندا. أظهر العالم السياسي أرييل أهرام، باستخدام بيانات معهد أبحاث السلام، مشروع بيانات الصراع في أوسلو/أوبسالا، أنه لم يكن هناك انخفاض ملحوظ في عدد النزاعات العالمية خلال "الحقبة الأحادية القطب" الممتدة من 1990-2015. فقد شهدت هذه الفترة، في الواقع، العدد نفسه تقريبا من الحروب التي شهدتها فترة الثمانينات، أشد فترات الحرب الباردة دموية، وشهدت نزاعات أكثر بكثير مما شهدته الحقبة ثنائية القطب في معظمها.

المدافعون عن ريادة الولايات المتحدة يشيرون إلى التدخلات الأميركية الإيجابية في التسعينات، مثل تحرير الكويت وفرض مناطق حظر للطيران فوق كردستان وجهود تحقيق الاستقرار في البوسنة وكوسوفو والصومال

يمكن القول إن هيمنة الولايات المتحدة ساهمت في ذلك، لا سيما غزوها للعراق عام 2003. أما المدافعون عن ريادة الولايات المتحدة فيشيرون إلى التدخلات الأميركية الإيجابية في التسعينات، مثل تحرير الكويت وفرض مناطق حظر للطيران فوق كردستان وجهود تحقيق الاستقرار في البوسنة وكوسوفو والصومال. إلا أن منتقديها يرون أن كل هذه الأمور تتلاشى قيمتها أمام قرار الإطاحة بصدام حسين، هذا النزاع الذي تسبب، حسب مجلة "لانسيت" البريطانية، في مقتل أكثر من 600 ألف شخص في السنوات الثلاث الأولى. وكان له تأثير هائل في زعزعة استقرار العراق وجواره، وساهم في تصاعد العنف الطائفي وتقوية إيران إقليميا وازدهار الإرهابيين الجهاديين مثل تنظيم الدولة الإسلامية. لقد كان غزو عام 2003 نتاج أحادية القطب من نواح عديدة. ومن الصعب علينا أن نتخيل أن تتحلى الولايات المتحدة بمثل هذه الثقة المتغطرسة لشن غزو مماثل إبان الحرب الباردة، خوفا من رد فعل السوفيات، كما لا تجرؤ على فعل شيء مشابه في عالم اليوم المتعدد الأقطاب.

وقد تجلى التأثير الضار لأحادية القطب مرة أخرى في الشرق الأوسط بعد بضع سنوات في أعقاب الانتفاضات العربية؛ ففي سوريا مثلا، توقع المتمردون الذين يقاتلون بشار الأسد، والدول الأجنبية العديدة التي تدعمهم أن تتدخل الولايات المتحدة إلى جانبهم. صحيح أن الولايات المتحدة تدخلت كثيرا في الشرق الأوسط في الماضي، وأصر قادتها المتعاقبون كجورج دبليو بوش ووالده على أنهم مدافعون عن "الحرية" التي أصر المتمردون في سوريا على أنهم يقاتلون من أجلها. 

Eduardo Ramon

هذا التوقع بالتدخل الأميركي دفع المتمردين السوريين وداعميهم الأجانب في نهاية المطاف إلى تبني نهج متطرف. وكما تذكرت بسمة قضماني، المتحدثة باسم أحد التنظيمات المتمردة، في وقت لاحق أن القوى الإقليمية أكدت لمعارضي الأسد أن "التدخل قادم بالتأكيد، إنه قادم". لكن الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي اشتهر عنه رفضه إرسال قوات أميركية مباشرة ضد دمشق، وهو ما سمح للأسد وبمساعدة روسية وإيرانية باقتحام وتدمير معظم قوات المتمردين في نهاية المطاف. هنا أثرت الهيمنة الأميركية والتوقعات المأمولة منها على سلوك الثوار السوريين وحلفائهم الإقليميين، مع ما حمله ذلك من نتائج مدمرة.
 
أخيرا، لم تكن أحادية القطب رادعا لمنافسي واشنطن كما يقول البعض الآن. فعندما غزا فلاديمير بوتين أوكرانيا عام 2022، رأى بعض المعلقين الأميركيين أن موسكو تجرأت على مهاجمة كييف فقط لأن خوفها من الولايات المتحدة بات أقل مما كان عليه في الماضي. ومع ذلك فحتى خلال لحظة القطب الواحد، لم ترتدع موسكو عام 2008 عن شن حرب عدوانية ضد جورجيا. كما أنها ضمت شبه جزيرة القرم ودعمت الانفصاليين في شرق أوكرانيا عام 2014. وقد يرى البعض أن تقاعس أميركا في هذه المناسبات كان مؤشرا على تلاشي الهيمنة الأميركية، ولكنه دليل آخر أيضا على أن أحادية القطب كانت أبعد ما تكون عن تلك الحقبة المستقرة التي يدعيها بعض المدافعين عنها على نحو رومانسي.

مزايا التعددية القطبية


بالإضافة إلى عدم استقرار القطبية الأحادية، ثمة أيضا مزايا لتعدد الأقطاب يمكن أن تفوت المراقبين الذين يركزون على الولايات المتحدة. من الواضح مثلا أن خصوم واشنطن من القوى العظمى مثل روسيا والصين يعتقدون أنهم أقل تقييدا ويتمتعون بقدر أكبر من حرية العمل مقارنة بالفترة التي كانت فيها الولايات المتحدة القوة العظمى المهيمنة. ولكنهم ليسوا الأشخاص الوحيدين. يمكن أن تستفيد "القوى الوسطى" غير الغربية أيضا من النظام الإقليمي المتغير. يمكن للقوى متوسطة الحجم التي تحتفظ بصداقات مع الولايات المتحدة وكذلك مع روسيا والصين الاستفادة من هذه العلاقات لتعظيم فوائدها. وباعتبارها كذلك، عادة ما تكون القوى "العظمى" بحاجة إلى هذا الشيء أو ذاك منها، مثل المواد الخام أو التجارة أو التحالف العسكري. في حقبة ثنائية القطب أيام الحرب الباردة وأحادية القطب فيما بعد، حدت ديناميكيات القوة العالمية من مدى قدرة القوى الوسطى على المناورة ومقدار التنازلات التي يمكن أن تنتزعها.
 

أثرت الهيمنة الأميركية والتوقعات المأمولة منها على سلوك الثوار السوريين وحلفائهم الإقليميين، مع ما حمله ذلك من نتائج مدمرة

تركيا هي مثال رائع للقوة المتوسطة التي تستخدم التعددية القطبية بشكل جيد. خلال الحرب الباردة، لم يكن أمام أنقرة خيار سوى الانضمام إلى الولايات المتحدة، نظرا لأنها كانت تشعر بتهديد الاتحاد السوفياتي المباشر لها. بعد الحرب الباردة، اتبعت إلى حد كبير خطى الولايات المتحدة دوليا، وانضمت إلى التحالف المناهض لصدام عام 1991 واقتربت من حليف الولايات المتحدة الإقليمي، إسرائيل، في التسعينات. ولكنها، في السنوات الأخيرة، مع تراجع الولايات المتحدة، كان لدى تركيا المزيد من الحرية لمتابعة أجندتها الخاصة. وبدا ذلك واضحا بشكل خاص في سوريا، فعلى الرغم من أن أنقرة لا تزال حليفا وثيقا للولايات المتحدة وعضوا في الناتو، إلا أن تركيا تعاونت مع خصم واشنطن، روسيا، لتقوية يدها في شمال سوريا. مثل هذا الوضع لم يكن من الممكن تصوره في عصر القطبين أو القطب الواحد. ومع ذلك، فإن واشنطن الآن ليست سوى واحدة من عدة قوى عالمية وهي تعلم يقينا أنها إن عاقبت تركيا على قربها من موسكو، فإن أنقرة لديها حليفان بديلان: روسيا والصين. 

Rob Carter

نتيجة لذلك، يمكن لتركيا الحصول على تنازلات أكبر من واشنطن، مع الحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا. وقد لعبت تركيا نفس الديناميكية فيما يتعلق بنهجها في حرب أوكرانيا. لقد تمكنت من البقاء على الحياد دون مواجهة الطرد من الناتو، بل إنها استخدمت موقعها في الحلف للضغط على تنازلات من الحلفاء الغربيين بشأن عضوية فنلندا والسويد.

هناك نوع آخر من القوى الوسطى، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان وكندا، وهي ترتبط ارتباطا عميقا بالولايات المتحدة وتدور في فلكها، بحيث لا يمكنها تحقيق نتائج مماثلة. ومع ذلك، فإن القوى الأخرى غير الغربية تفعل ذلك بالفعل؛ فقد حافظت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بمهارة على موقف الحياد بشأن حرب أوكرانيا، ورفضتا طلبات الولايات المتحدة رفع إنتاج النفط. وكلاهما يقتربان الآن أيضا من الصين، وينضمان إلى مبادرة الحزام والطريق. ومع ذلك، لم يضر هذا الأمر بعلاقات الرياض أو أبوظبي الوثيقة مع واشنطن، والتي لا تزال قوية. في أفريقيا، تستفيد إثيوبيا وجنوب أفريقيا من الوضع المستجد بشكل مماثل، فالأولى لا تزال حليفا وثيقا للولايات المتحدة وتتلقى دعما عسكريا من واشنطن، بيد أنها تحتفظ بعلاقات اقتصادية واسعة مع الصين، المستثمر الرئيس في البنية التحتية الإثيوبية. وأبلغت إدارة بايدن الكونغرس مؤخرا بأن أديس أبابا لم تعد في عداد من يرتكب انتهاكات لحقوق الإنسان، وهو الأمر الذي أعلنته خلال حرب تيغراي الإثيوبية، مما مهد الطريق أمام الولايات المتحدة لاستئناف تدفق المساعدات. 

ولعل المخاوف من فقدان نفوذها أمام منافسيها من القوى العظمى في الدولة التي تمتلك جيشا أفريقيا كبيرا هي التي أثرت على هذا القرار، على الرغم من وجود أدلة على استمرار حكومة أديس أبابا في انتهاك حقوق الإنسان. ويظهر هذا المثال كيف تستفيد إثيوبيا، على غرار تركيا، من النظام العالمي الجديد. وبالمثل، شاركت جنوب أفريقيا، على الرغم من بقائها حليفا للولايات المتحدة، مؤخرا في مناورة عسكرية في المحيط الهندي مع البحرية الروسية والصينية. وعلى الرغم من انتقادات واشنطن لهذه المشاركة، إلا أنها لم تمضِ أبعد من ذلك.

نظام عالمي غير غربي؟

باختصار، العالم متعدد الأقطاب الذي يتجلّى حاليا ليس تطورا سلبيا كما يحاول بعض المعلقين الغربيين، وخاصة الموالين للولايات المتحدة، تصويره. نعم، لقد كانت حرب أوكرانيا باهظة جدا، ولكن الحروب ذات النتائج غير السارة بالمثل اندلعت خلال عصر الهيمنة الأميركية أيضا. ولعل نظرة عالمية متبصرة إلى "اللحظة أحادية القطب" ترينا أن تلك المرحلة لم تكن أكثر سلاما أو استقرارا من النظام الثنائي القطب للحرب الباردة، حتى لو شعر الأميركيون وأولئك الذين يعيشون في الغرب بمزيد من الأمان. أما كيف سيتطور النظام متعدد الأقطاب الجديد فلا يزال طريقا غير واضح المعالم، وهذا بطبيعة الحال يجلب معه إحساسا بالخطر، خاصة بالنسبة لأولئك في الغرب الذين يرون هيمنتهم السابقة وهي تذوي. ومع ذلك، ليس هناك ما يؤكد أنه سيكون أسوأ وأكثر اضطرابا أو عنفا من العصر أحادي القطب، بل لعله سيكون– في أجزاء كثيرة من العالم– ذا قدرة على أن يعطي فوائد أكبر. لقد استفادت بالفعل كثير من "القوى الوسطى" غير الغربية من النظام العالمي الجديد للحصول على مزيد من حرية التصرف في شؤونها الدولية، ولا يبدو أن هذا سيتوقف، بل يمكن القول إن هذه الدول كانت أسرع في التكيف مع النظام العالمي الجديد وإن حلفاءها الغربيين هم الذين يحتاجون الآن إلى قبول أن العصر أحادي القطب قد انتهى وأن يغيروا توقعاتهم وسلوكياتهم.
 

font change

مقالات ذات صلة