مواجهة إنكلترا وإسبانيا… "الحروب الثقافية" على جسد المرأة

التعبير عن الذات على طريقة ديلاكروا

EPA
EPA
منتخب انكلترا

مواجهة إنكلترا وإسبانيا… "الحروب الثقافية" على جسد المرأة

منذ أكثر من عام مضى، شهد مشجّعو كرة القدم في نهائي بطولة كأس الأمم الأوروبية للسيدات لحظة مميزة ومفاجئة بعد أن سجّلت كلوي كيلي هدف الفوز للمنتخب الإنكليزي للسيدات الملقب باللبؤات محرزة أول نصر لهن على الإطلاق في هذه البطولة.

لقد كانت لحظة غامرة في تاريخ كرة القدم فلو كان منتخب الرجال هو الذي أحرز هذا الفوز لرأينا مسجّل الهدف يتزحلق على أرض الملعب بعد القيام بشقلبة ثلاثية وربما شقلبة خلفية أيضاً.

ولكن رد فعل كلوي جاء مختلفاً تماماً، فقد خلعت قميصها وركضت في أنحاء الملعب بصدريتها الرياضية وقد تبعتها في ذلك عضوات فريقها المنتشيات. جسّد هذا التصرّف العفوي والتلقائي لحظة صرفة من السعادة الحقيقية، حتى أن الصحافة اليمينية البريطانية لم تطاوعها نفسها على توجيه أي توبيخ للاعبة. كما أقدمت صحيفة "ديلي ميل" المتزمتة والمعروفة بمواقفها المتحفظة على الإشادة بهذه الحماسة الحقيقية وهو ما أسهم في إبراز "الصورة النسوية النموذجية للعقد الحالي"، على حدّ قول الصحيفة.

ولا يمكننا بأي حال التقليل من قدر السعادة التي يُجسّدها هذا التصرف، غير أنه تجدر الإشارة إلى أنها لم تكن المرة الأولى التي يتجسّد فيها احتفال لاعبات كرة القدم بهذه الطريقة. فقد سبق أن احتفلت براندي تشاستين بالطريقة نفسها قبل وقت طويل في عام 1999 بعد تسجيل هدف الفوز بضربة جزاء لصالح منتخب الولايات المتحدة الأميركية. وبما أن كيلي كانت لا تزال طفلة صغيرة حينها، فليس من الممكن أن تتهمها تشاستين بسرقة أفكارها.

 اتخذت الحرب الثقافية المستعرة في جميع أنحاء الحضارة الغربية شكلها الخاص في المجتمع الإسباني، لا سيما من خلال تأسيس حزب "فوكس" ودعواته لقيم اجتماعية أكثر تحفظا


يشهد اليوم المباراة النهائية في كأس العالم للسيدات، وليس هناك حاليا سوى قلة ممن ليسوا على دراية بذلك. فقد تصدّرت كرة القدم النسائية المشهد نتيجة التقدير والاحترام اللذين طال انتظارهما لأسلوب اللاعبات ومهارتهن. حتى إن هذه الحماسة امتدّت لتطال النصف الجنوبي من المعمورة. ذلك أن الأستراليين – المشاركين في استضافة البطولة مع نيوزيلاندا – لم يكونوا في أي وقت مضى مغرمين بهذه اللعبة بمثل هذه الدرجة ناهيك عن النسخة النسائية منها. ولا يرجع ذلك لمناهضة اللعبة في حدّ ذاتها، ولكن لأنهم كانوا يفضلون عليها لعبة الكريكت. 

ومنذ عدة أيام، نجح المنتخب الإنكليزي خارج أرضه في هزيمة المنتخب الأسترالي في عقر داره بثلاثة أهداف مقابل هدف واحد، وهو يستعد لملاقاة المنتخب الإسباني. ومن الحكمة أن تتوخّى لاعبات المنتخب الإنكليزي الحذر من المنتخب الإسباني وبخاصة نجمة الهجوم سلمى بارالويلو صاحبة التسعة عشر ربيعا والتي لها باع في ألعاب القوى وتبدو مؤهلة لتسابق الريح في أنحاء الملعب ليلهث وراءها الجميع تماما مثلما فعلت كلوي كيلي.

AFP
مشجعات قبل المباراة النهائية بين إسبانيا وإنكلترا على ملعب أستراليا في سيدني في 20 أغسطس/ آب 2023

إن تأثير لفتة كيلي، إذا ما تكرّرت في مباراة اليوم، فسيتردد صداه في إسبانيا، ولكن بخلفية خاصة جدا وببعد سياسي واضح، وهو الأمر الذي ربما استمدّتهإسبانيا من حركة "فيمن" النسوية والتي بدأت في أوكرانيا وكان لها تأثيرا كبيرا على الحركة النسويةالإسبانية.

فمنذ فترة ليست بالقليلة، اتخذت الحرب الثقافية المستعرة في جميع أنحاء الحضارة الغربية شكلها الخاص في المجتمعالإسباني، لا سيما من خلال تأسيس حزب "فوكس"ودعواته لقيم اجتماعية أكثر تحفظا. ومن الأمثلة الصارخة على تلك الدعوة ما أثير أخيرا من جدل واسع حول إحدى اللوحات الجدارية،حيث اعترض حزب "فوكس"على تصوير اللوحة لسيدات مثل الفنانة التشكيلية المكسيكية فريدا كالو والمغنّية الأميركية نينا سيمون بدعوى أنه ينطوي على شكل من أشكال  الدعاية السياسية.

صرح جورج نونو وهو عضو من أعضاء فريق "أنلوجيك كوليكتيف"الذين قاموا برسم هذه الجدارية بأن هذه اللوحة تمثل عرفانا بالإنجازات التي قامت بها السيدات الخمس عشرة اللواتي يظهرن في اللوحة، وأنه يصعب عليه فهم الجدل الدائرحولها قائلا للجريدة الإلكترونية "إل دياريو" أنه لم يستطع تخيل كيف أنه "في خضم الجائحة ... يحتدم النقاش بين أعضاء مجلس المدينة حول لوحة جدارية رُسمت على جدار أحد المراكز الرياضية منذ ثلاث سنوات". واختتم نونو حديثه قائلا: "الفن لا يخلق المشاكل – بل التفكير في التفاصيل".

ولم تكن اللوحات التصويرية لسيدات شهيرات،وربما متطرفات في أفكارهن بعض الشيء، هي السبب الوحيد في نشوب مثل هذه المشاحنات.فعلى الر غم من وجود قوانين تحمي حق الفرد في خلع ملابسه علناً، إلّا أن هناك جدلاً دائراً حول التعري العلني. ولكن الأمر الآن يتمثل في شكوى أحد المنتمين لجماعة العراة من اختراق الشواطئ الخاصة بهم من قبل المصطافين الذين يرتدون ملابس السباحة وهو ما يجعلهم يشعرون بعدم الارتياح وفي بعض الأحيان بأنهم عرضة لمسترقي النظر. وتتركز مخاوفهم في أن يُجبروا على اللجوء إلى مناطق شديدة الانعزال أكثر من أي وقت مضى.

AFP
المنتخب الاسباني

قد لا تكون الحفلات الموسيقية مقصداً لمن ينشدون العزلة، ولكنها ظاهرة جديدةتفشت بين نجماتالغناء اللاتي صرنيظهرن عاريات الصدر أثناء غنائهن. وفي آخر حادثة من نوعها، كانت المطربة إيفا أمارال على وشك قيادة فرقتها الغنائية في تقديم أغنيتها "ريفولوشين"، عندما خلعت قميصها الأحمر اللامع ورمتهأرضا.

قالت أمارال "هذا من أجل روشيو ومن أجل ريغوبيرتا ومن أجل زاهارا ومن أجل ميرين ومن أجل بيبي ومن أجلنا جميعاً" ومضت تذكر أسماء زملائها الفنانات قبل أن تشرع في خلع قميصها، وأكملت كلامها "لأنه لن يستطيع أحد أن ينتزع منا احترام التعرّي، احترام ضعفنا واحترام قوتنا لأننا كثيرات جداً".

وافق الحفل عيد ميلاد فرقتها الخامس والعشرين في مجال الغناء، ولكن ظهورها عارية الصدر كان يستهدف بالنسبة إليها تأكيد أمر أكثر أهمية، ألا وهو احترام المرأة وحريتها. وقالت أمارال لجريدة "إل بيز" : "لقد كانت لحظة في غاية الأهمية". وهنا نلاحظ تكرار كلمة "لحظة".

وسرعان ما أشاد السياسيون النسويون باللفتة اللي قامت بها أمارال بمن فيهم نائب رئيس الوزراء يولاندا دياز والتي شكرتها على "تمثيل كافة النساء في البلاد" وعلى"الدفاع عن الحقوق المهدّدة في الوقت الحاضر" . وأعادت وزيرة المساواة إريني مونتيرو نشر صورة لأمارال على حسابها على تويتر تحمل هذه الكلمات "من أجل احترام ضعفنا ومن أجل احترام قوتنا".

قد لا تكون الحفلات الموسيقية مقصداً لمن ينشدون العزلة، ولكنها ظاهرة جديدة تفشت بين نجمات الغناء اللاتي صرن يظهرن عاريات الصدر أثناء غنائهن

ومن بين النساء اللاتي جاءت أمارال على ذكرهن، كانت ريغوبيرتا بانديني هي على الأرجح أكثرهن إسهاما في سبر غور هذه القضية، حيث يقدم الفيديو المذهل لأغنيتها "آي ماما" –التي قد تترجم حرفياً إلى "أوه ، ماما" -طيفا استثنائيا من الصورالرقيقة لبعد الحنان والأمومة التي يمثلها جسد المرأة، إلى تحويله بصورة فكاهية وساخرة إلى سلاح فتاك يذكرنا بصدرية مادونا المخروطية الشكل، أو بظهور كاتي باري وهي تستخدم مضخة حليب الثدي.    

ومما يدعو للسخرية، إقرار بانديني برحابة صدربأن الفضل في هذه الحالة يعود إلى رجل، وتحديداًالرسام أوجين ديلاكروا. فلم تسلم لوحته"ليبرتي تتقدم صفوف الشعب"، التي حملت ما يكفي من معاني الوطنية للظهور على الأوراق النقدية الفرنسية القديمة، من الجدل. فقد رُسمت في عام 1830 تقريباً، في انتفاضة أقل شهرة من الثورة الفرنسية في عام 1789، واضطر الرسام إلى إخفائها عن الأعين عدة مرات لاسترضاء الملكيين وغيرهم من اليمينيين.

AFP
رئيس الفيفا جياني إنفانتينو يصافح حارسة مرمى السويد رزيسيرا موسوفيتش خلال حفل الميدالية البرونزية بعد انتهاء مباراة تحديد المركز الثالث في كأس العالم للسيدات في أستراليا ونيوزيلندا 2023.

ويمكن القول إن اللوحة هي في الوقت الحالي أكثر صورة شيوعًا للعري (الجزئي) الذي يستخدملإثبات وجهة نظر سياسية. يقولون إن الثورات تلتهم الأطفال، ولكن يبدو أن بطلة ديلاكروا تعد بعكس ذلك تمامًا، لما لجسدها من قدرة واضحة على إرضاعهم. فليس من المستغرب إذن أن تستخدم بانديني هذه الصورة كنوع من الاختزال، متحدّية مستمعاتها من الإناث "أن يوقفن حركة المدينة بإظهار ثدي واحد بأسلوب ديلاكروا".ومع ذلك ، فإن رغبتها في إقناع المستمع تفوق شهيتها للمواجهة. وقد قالت في النهاية "لا أعرف لماذا يخاف الناس من صدورنا... بدونها، لن تكون هناك إنسانية أو جمال".

REUTERS/Dan Peled
احتفال السويديتين ليندا سيمبرانت وصوفيا جاكوبسون بعد حصولهما على المركز الثالث

إن نجاح كرة القدم للسيدات له معانٍ تتجاوز مثل هذه الرسائل المعقدة. وبغض النظر عمن سيفوز الأحد، ستكون كرة قدم السيدات قد حققت انتصاراً خالداً، وستجدالمنتصرات بالتأكيد طرقهنالخاصة للاحتفال.

ولكن قد يكون من الجدير بالذكر أن الإيماءة البسيطة التي قامت بها كلوي كيلي كانت فعالة بشكل لا يصدق. وبدلاً من الخلط بين الأنوثة والأمومة (الجانب الإيجابي) والجاذبية الجنسية (الجانب السلبي) ، فقد قدّمتللعالم عرضًا لا لبس فيه من البهجة المطلقة. لم يكن بوسع  أي من جانبي الحرب الثقافية الاعتراض عليه.

font change

مقالات ذات صلة