هل ألهم "بهاء الله" جبران لكتابة "النبي"؟

أحد أكثر الكتب مبيعا في التاريخ

Getty Images
Getty Images
جبران خليل جبران

هل ألهم "بهاء الله" جبران لكتابة "النبي"؟

تحلّ في هذه الأيام مئوية كتاب "النبي" للشاعر والفنان التشكيلي والفيلسوف اللبناني- الأميركي جبران خليل جبران (1883 –1931)، وقد تجاوز عدد النسخ التي طبعتها دار ألفرد أ. نوف في نيويورك منه، منذ سبتمبر/أيلول 1923، التسعة ملايين نسخة، ناهيك بالطبعات والترجمات التي صدرت في معظم دول العالم بما يتجاوز المئة ترجمة، مما يجعل "نبي جبران" واحداً من أكثر الكتب مبيعاً في التاريخ.

منذ صدور "النبي" اقترح النقاد عددا من المصادر المحتملة الملهمة لفكرة الكتاب، أبرزها كتاب الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844 – 1900) "هكذا تكلم زرادشت"، حيث تصدر الحكمة من فم زعيم ديني كبير، لكن الفوارق بين الكتابين مبنى ومعنى تجعل هذا الاحتمال جد واهٍ، وذهب آخرون إلى تأثيرات الشاعر الرومانسي البريطاني وليام بليك (1757-1827) على جبران، وتشابه الاهتمامات والاشتغالات بين الرجلين، لكن أحدا لم يشر إلى عمل محدد لبليك يمكن اعتباره الملهم المباشر لجبران. ويشير فريق ثالث إلى وجود تأثيرات صوفية إسلامية، أو بوذية، أو هندوسية. لكن نادرا ما يتحدث أحد عن تأثير زعيم الطائفة البهائية عباس أفندي، الشهير باسم عبد البهاء (1844 – 1921) على جبران عموما، وعلى كتاب "النبي" خصوصا.

تعود قصة تعرُّف جبران خليل جبران إلى عبد البهاء إلى ربيع العام 1912، حين زار الأخير رعيته في الولايات المتحدة، وحل ضيفا على الفنانة التشكيلية جولييت تومسون (1873–1956)، إحدى أشهر الشخصيات البهائية الأميركية التي كانت تربطها صداقة قوية بجبران، بحكم الاهتمامات المشتركة، والجيرة في السكن، حيث كان يفصل مرسم جبران عن بيتها في مانهاتن شارع واحد.

تخصّص الكاتبة الإيرانية - الأميركية مرزية جيل (1908 - 1993) فصلا كاملا عن جبران خليل جبران في اليوميات التي حرّرتها لتومسون، وصدرت في العام 1983 عن دار "كلمات" في لوس أنجليس.

تعود قصة تعرُّف جبران خليل جبران إلى عبد البهاء إلى ربيع العام 1912، حين زار الأخير رعيته في الولايات المتحدة، وحلّ ضيفا على جولييت تومسون إحدى أشهر الشخصيات البهائية الأميركية التي كانت تربطها صداقة قوية بجبران

تتحدّث تومسون في يومياتها عن جارها "السوري القديم" خليل جبران: "كان يعيش قبالة الشارع، لم يكن فقيرا ولا غنيا، هو في حالة متوسطة. كان يعمل في صحيفة عربية؛ حر في الرسم والكتابة. كانت صحته على ما يرام في سنواته الأولى، ولكن الحزن سيطر عليه في سنواته الأخيرة بعد اكتشاف مرضه، حيث كان يعلم أن حياته ستنتهي في وقت قريب جدا، وقد توفي في التاسعة والأربعين من العمر".

وتضيف: "كانت رسوماته وتخطيطاته أجمل من لوحاته الملونة. لوحاته ضبابية للغاية، غامضة تعبر عن الفقد، ولكنها شعرية للغاية... أحضره سوري لرؤيتي، لا أتذكر اسمه الآن. كان خليل يقول إنني صديقته المفضلة في نيويورك. لقد أصبحنا صديقين مقرّبين جدا، وكان يقرأ عليّ جميع كتبه قبل دفعها للنشر".

النسخة الأولى من كتاب "النبي"

حول كتاب "النبي" تقول تومسون: "سمعت منه كتاب النبي حين كان مخطوطة. أحب كتاب 'النبي' كثيرا، ولا أظن أن ثمة صلة بين 'النبي' وعبد البهاء. لكنه قال لي إنه فكَّر بحضرة البهاء عندما كتب "يسوع ابن الإنسان" على الرغم من أن حضرة البهاء مات قبل أن يكتب هذا الكتاب، لقد أكّد لي أن ابن الإنسان تأثر بعبد البهاء".

 

حب من نوع آخر

تفصح تومسون عن وجود علاقة حب بينها وبين جبران، لكنه لم يكن مجرد حبيب كما تقول، لأنه هو نفسه لم يكن من ذلك النوع من الرجال. وتلفت النظر إلى المكانة الكبيرة التي كان يحظى بها جبران بين أبناء وطنه المهاجرين، إذ كانت ترى "الأرمن والسوريين يقبلون يده ويسمونه السيد، وهو أمر كان يسبّب ازعاجا لجبران"، بحيث بدا زعيم طائفة دينية، كما تقول.

تتذكر تومسون صوت جبران المميز: "كان صوته مرتفعا وحادا ولكن بطريقة خجولة إلى حد ما، لا أعرف كيف أصفه. وحين كنت أقول له إنه صورة طبق الأصل عن تشارلي شابلن، كان ذلك يخرجه عن طوره".

تتحدث طومسون عن بداية تواصله مع البهائيين فتنقل إعجابه الشديد بلغة بهاء الله العربية، حتى أنه قال لها إنه لم يكن يعرف اللغة العربية حتى لمس لغة بهاء الله. وتقول إن فكرة الاتصال المباشر مع الله استحوذت على عقله منذ أن تعرف إلى البهائيين، فكان ينهض ويقول ما حاجتنا إلى شكل من أشكال الإله طالما أننا نستطيع التواصل مباشرة مع الله!

بوتريه عبد البهاء بتوقيع جبران خليل جبران أبريل 1912

بورتريه عبد البهاء

تروي تومسون قصة اللقاء بين عبد البهاء وجبران وقصة البورتريه الذي رسمه له فتقول: "أخبرته أن السيد قادم. فسألني إن كنت سأطلب منه أن يجلس لكي يرسمه. أعطاه السيد ساعة واحدة في في السادسة والنصف صباحاً. لقد رسم بورتريها رائعا. لا يبدو مثل السيد، ثمة شبه خفيف جدا، لكنه بورتريه يبدو ذا قوة عظيمة من خلال الكتفين، وإشراق الوجه. إنها ليست صورة للسيد ولكنها عمل فنان عظيم. أنا أعتبره فنانا رائعا".

تحدّثنا تومسون عن ملازمة جبران لعبد البهاء خلال وجوده في نيويورك وسفره معه إلى بوسطن، حيث تؤكّد أن صداقة عميقة نشأت بين الرجلين، فقد أحبّ جبران عبد البهاء بكل بساطة، وكان ملازما له قدر استطاعته.

تقول: "ذهب السيد عبد البهاء بعيدا، واستقر خليل ليكتب كتبه، لكنه غالباً ما كان يتحدث عنه بتعاطف وحب كبيرين. لم يعد يقبل بوجود وسيط. كان يريد التواصل المباشر مع الله".

بوتريه عبد البهاء بتوقيع جبران خليل جبران أبريل 1912

وتتابع: "بعد سنوات، في إحدى الليالي، حين كانت صورة السيد ستُعرض في المركز البهائي، جلس جبران إلى جانبي في الصف الأمامي، ورأى الصورة، وبدأ يبكي، لقد طلبنا منه أن يتكلم بضع كلمات، وعندما حان الوقت ليتحدّث، سيطر على نفسه وتوجّه إلى المنصة وهو يبكي ثم قال: "أشهد أن  حضرة البهاء تجلى هنا هذا اليوم"، ثم استمر بالبكاء، ويبدو أن رؤية الصورة أعادت إليه الذكريات، ثم هرب من القاعة.

تروي تومسون شيئا من أواخر أيام جبران حين اشتدّ عليه المرض، وكيف خرج في ليلة كان الثلج يتساقط فيها بغزارة إلى "سنترال بارك"، ولخص لها حواره مع شرطي استغرب وجوده في هذا الجو والوقت، وكيف شكا له الشرطي تغير حال زوجته بعدما بدأت بقراءة كتب جبران، فغدت متمرّدة عليه.

 

تأثيرات بهائية

يعتبر الكاتب الأميركي ديفيد لانغنس محرر موقع "تعاليم البهاء" أن تأثيرات عبد البهاء في كتاب "النبي" كبيرة، ويقول إن جبران أخبر أصدقاءه أنه بدأ بكتابة "النبي" في عام 1912، أي في العام نفسه الذي التقى فيها عبد البهاء. ويرصد لانغنس التقاطعات بين زيارة عبد البهاء وشخصية النبي في كتاب جبران فيقول: "بدأ الكتاب بالمصطفى وهو على وشك مغادرة منفاه والسفر على متن سفينة، تماماً كما فعل عبد البهاء بالضبط. في 'النبي' صاغ جبران مضمون الكتاب على شكل ردود على أسئلة طلب سكان البلدة منه أن يجيبهم عنها، تماماً كما رأى سكان نيويورك يفعلون مع عبد البهاء. وفي 'النبي' يسمي القرويون المصطفى باسم "السيد"، تماماً كما سمع البهائيين يخاطبون عبد البهاء باعتباره السيد".

 يعتبر الكاتب الأميركي ديفيد لانغنس أن تأثيرات عبد البهاء في كتاب "النبي" كبيرة، ويقول إن جبران أخبر أصدقاءه أنه بدأ بكتابة "النبي" في عام 1912، أي في العام نفسه الذي التقى فيه عبد البهاء


لا يتوقف الأمر عند ذلك إذ يقول لانغنس إن ثمة نصوصا في "النبي" تشبه تماما بعض التعاليم البهائية، ومنها الفقرة الثالثة من فصل "العمل" من كتاب النبي: "فالحقَّ أقول لكم، إن الحياة تكون بالحقيقة ظلمة حالكة إذا لم ترافقها الحركة، والحركة تكون عمياء لا بركة فيها إن لم ترافقها المعرفة، والمعرفة تكون عميقة سقيمة إن لم يرافقها العمل، والعمل يكون باطلا  وبلا ثمر إن لم يقترن بالمحبة؛ لأنكم إذا اشتغلتم بمحبة فإنما تربطون أنفسكم وأفرادكم بعضها ببعض، ويرتبط كل واحد منكم بربه". ويقول لانغنس إن هذه الفقرة تشبه اللوح 76 من ألواح بهاء الله.

font change

مقالات ذات صلة