الرجل الذي تحدى "القيصر"

عن الإزالة غير المفاجئة لبريغوجين

AFP
AFP
شموع وصورة لبريغوجين في شارع في موسكو في 24 اغسطس

الرجل الذي تحدى "القيصر"

كان ينبغي لقائد مجموعة فاغنر يفغيني بريغوجين، وقد سبق له أن عمل كمزود طعام شخصي لبوتين، أن يكون على دراية بشخصية الرئيس الروسي، الذي يحب أن يكون انتقامه باردا، ولكن في الوقت عينه ساخنا بما يكفي ليكون رسالة واضحة وعبرة.

من المؤكد أن تحطم الطائرة الروسية قد وضع نهاية متفجّرة لملحمة بريغوجين، مع وجود كثير من الأسئلة التي لم تتم الإجابة عليها بعد. لكن الأمر الواضح هو أن تداعيات هذا الحادث سوف يتردد صداها لبعض الوقت في المستقبل.

وبعد شهرين بالضبط من موافقته على إنهاء تمرده الذي لم يدم طويلا، والذي أوصله ورجاله إلى مسافة ساعتين فقط من موسكو، سقطت طائرة بريغوجين من السماء. وذكرت وكالة الطيران المدني الروسية، روزافياتسيا، أن اسمه، ومعه الرجل الثاني في القيادة ديمتري أوتكين، كانا على قائمة الركاب. واعترفت قنوات كثيرة مرتبطة بفاغنر منذ ذلك الحين بوفاة المرتزق الروسي، الذي كان قبل أيام قليلة في زيارة لبلد أفريقي لم يكشف عنه، ونقل عنه وقتها وعده بـ"جعل دور روسيا أعظم في جميع قارات العالم".

وأفاد شهود عيان أنهم سمعوا انفجارا قبل تحطم الطائرة، وأعرب بعض المدونين العسكريين الموالين للحكومة الروسية عن اعتقادهم بأن الدفاعات الجوية الروسية هي التي تقف وراء سقوط الطائرة، بينما تزعم تقارير أخرى قادمة من روسيا أن الحادث قد يكون بسبب انفجار داخل الطائرة مما أدى إلى سقوطها المميت. كلتا الحالتين يمكن أن تتوافق مع الهبوط المفاجئ والحاد الذي يمكن متابعته على منصات تتبع الرحلات الجوية.

ولكن بغض النظر عن الطريقة المستخدمة، تتجه كل الأنظار نحو بوتين، الذي بدا مبتسما وهو يحتفل بالذكرى السنوية لمعركة كورسك، بعد ساعات فقط من قيام طائرة بريغوجين برحلتها الأخيرة وسقوطها الأخير. وبعد يوم من موت رئيس "فاغنر"، اصدر الرئيس الروسي بيانا فاترا مشيرا الى ان بريغوجين كان "موهوبا" لكنه ارتكب "أخطاء خطيرة" اثناء حياته. وكانت هذه هي المرة الاولى في الواقع التي ينطق فيها بوتين اسم بريغوجين منذ تمرد 24 يونيو/حزيران. فمنذ تلك الحركة، امتنع بوتين عن ذكر اسم بريغوجين على لسانه، بل رفض قول اسم زعيم "فاغنر" اثناء خطابات تتعلق بالتمرد ذاته. كانت تلك مقدمات معتادة "لازالة" بريغوجين نهائيا من الوجود.

بغض النظر عن الطريقة المستخدمة، تتجه كل الأنظار نحو بوتين، الذي بدا مبتسما وهو يحتفل بالذكرى السنوية لمعركة كورسك، بعد ساعات فقط من قيام طائرة بريغوجين برحلتها الأخيرة وسقوطها الأخير

الرسالة واضحة، ولا يبدو أن الرئيس الروسي في عجلة من أمره لإنكارها. كان الانفجار الدرامي هو الفصل الأخير من حقبة ما بعد التمرد الغريبة. وخلال الأسابيع الماضية، أرسل الرئيس الروسي رسائل سرية، ولكن واضحة مفادها أنه لن يلتزم بمطالب بريغوجين، التي طالب بها خلال تمرده الذي لم يدم طويلا، وتضمنت إقالة وزير الدفاع سيرغي شويغو، ومعه رئيس الأركان الروسي ورئيس العمليات العسكرية في أوكرانيا، الجنرال فاليري غيراسيموف. وبدلا من ذلك، استمر كل من شويغو وغيراسيموف في العمل وكأن شيئا لم يحدث. 

AFP
بوتين اثناء حفل تكريم لطاقم دبابة روسية من طراز "تي 80" دمر قافلة مدرعة اوكرانية في 24 اغسطس

وفي إشارة خفية أخرى، قام بوتين بزيارة إلى متحف كرونشتاد– وهو موقع مرتبط بالتمرد الذي قمعته الحكومة البلشفية إبان المرحلة السوفياتية– وصحبه في تلك الزيارة حليفه البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، وهو "الضامن" للاتفاقية التي أبرمت لوضع حد لتمرد بريغوجين.

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يسافر فيها بريغوجين إلى روسيا ويخرج منها، بل إنه قام بعدة رحلات بين موسكو وسان بطرسبرغ (حيث لا يزال المقر الرئيس لفاغنر) وبيلاروسيا، حيث استقرت المجموعة بعد التمرد، على متن الطائرة عينها التي سقطت قبل يومين. يمكن للمرء أن يتساءل لماذا شعر بريغوجين بالثقة الكبيرة في قدرته على الطيران والعمل في روسيا. ربما لن تكون لدينا إجابة واضحة، ولكن على الرغم من كل قسوته الخالية من الشفقة، فإن بريغوجين يبدو وكأن لديه بعض الأوهام التي ثبت أنها قاتلة. أحد هذه الأوهام أن بوتين سيترفع عن الخلاف بين بريغوجين من جهة وشويغو وغيراسيموف من جهة أخرى، وأنه سيلعب دور الحكم في النزاع. وحتى عندما بات واضحا بجلاء وقوف بوتين في الواقع إلى جانب وزير دفاعه ورئيس أركانه، وأن فاغنر في طريقها إلى التفكك، صاغ بريغوجين خطة لتنفيذ "مسيرة العدالة،" التي اعتبرها بوتين محاولة انقلابية، وغالبا ما توصف تلك الخطة على هذا النحو، لكن من الواضح أن بريغوجين لم تكن لديه أي فكرة أين يضع قدميه، ولعله فوجئ حقيقة بقدرة قواته على الاقتراب من العاصمة الروسية إلى ذلك الحد.

ربما كان لفكرة أن بوتين هو الحكم بشكل أو بآخر في الصراعات التافهة لجهاز الأمن الروسي دور في قرار بريغوجين المصيري بالعودة إلى روسيا من أفريقيا. وفي الواقع، تزعم بعض المصادر الموالية لروسيا أن زعيم فاغنر عاد إلى روسيا بعد سماعه عن خطة لاستبدال وجود فاغنر في القارة. في الواقع، تكهن بعض المدونين العسكريين الموالين لروسيا بأن الرجل كان في طريقه للقاء الرئيس الروسي نفسه (الذي التقى به آخر مرة بعد خمسة أيام من تمرد 24 يونيو/حزيران)، لمحاولة إقناعه بوقف الخطة. وتحطمت طائرة بريغوجين بينما كانت في طريقها من موسكو إلى سانت بطرسبرغ، حيث تزعم بعض المصادر الموالية لروسيا أنه ربما كان في طريقه للقاء الرئيس بوتين نفسه في مجمع فالداي التابع للرئيس الروسي، والذي يقع– بالمصادفة –على مقربة من مكان "الحادث". قبل الحادث، كانت هناك دلائل على أنه تم تفكيك معسكر فاغنر الرئيس في بيلاروسيا، حيث نقلت المجموعة عملياتها إلى أفريقيا. وكما ذكرنا سابقا، نشر بريغوجين نفسه رسالة من القارة، كانت توحي بأن المجموعة وجدت موطئ قدم لها أخيرا، وعادت إلى المسار الصحيح لتحقيق أشياء أكبر، وقد أكد ذلك الرجل الثاني في قيادة المجموعة في مقطع فيديو آخر.

ربما كان لفكرة أن بوتين هو الحكم بشكل أو بآخر في الصراعات التافهة لجهاز الأمن الروسي دور في قرار بريغوجين المصيري بالعودة إلى روسيا من أفريقيا

وثمة وهم آخر، وهو الوهم الذي يردده أحيانا الخبراء الذين يغطون الشؤون الروسية، والقائل إن بريغوجين كان بكل بساطة أكبر بكثير من التفكير بقتله. إن الغرور خطيئة مميتة، ومن المؤكد أن بريغوجين اعتبر نفسه وفاغنر "أكبر من أن يفشلا". وكان زعيم فاغنر يلعب دورا محوريا في النفوذ الروسي الناشئ في أفريقيا، وذلك من بين أمور أخرى. كما أن الرئيس بوتين قد حرّك الشعور بالأنانية لدى بريغوجين من خلال دعوته للمشاركة في قمة أفريقيا التي نظمتها روسيا بعد محاولته الانقلابية، والتي عُقدت في سان بطرسبرغ. ربما نظر بريغوجين إلى هذه الدعوة باعتبارها إشارة إلى استمرار اعتراف الرئيس الروسي بالحاجة إلى فاغنر، وذلك على الرغم من كل الشعور السيئ الذي كان ينتابه. 

يثير مقتل بريغوجين تساؤلاتٍ حول الكيفية التي ستتمكن بها موسكو من سد الفجوة التي ستخلّفها نهاية فاغنر. ولكن هذا الأمر أيضا يغفل عن فهم حقيقة آلية صنع القرار في الكرملين، حيث يحتل الحفاظ على الذات مرتبة الصدارة دائما على حساب أي نوع من الاعتبارات الأخرى. وذلك كما اكتشف بريغوجين نفسه، فالنظام الروسي هو نظام يفضل الولاء على الكفاءة، وبهذا المعنى فإن المنفعة للقضية الروسية لا تعوض عن الخيانة. ومن المرجح أن يُنظر إلى تكلفة وفاة بريغوجين في الكرملين باعتبارها تافهة، مقارنة بالهدف المتمثل بإرسال رسالة واضحة إلى أولئك الذين يعتقدون أنهم قادرون على مهاجمة القيصر والبقاء على قيد الحياة ليرووا القصة للأجيال اللاحقة.

AFP
صورة من مقطع فيديو يتوجه فيه بريغوجين الى قادة الجيش الروسي امام مرتزقته من مكان غير محدد في 5 مايو

بالطبع هذا لا يعني أن وفاة بريغوجين لن يكون لها أي تأثير على روسيا، أو على نفوذها في العالم، كما أنها لا تخلو من المخاطر. فقد أدت نهاية بريغوجين بالفعل إلى بعض السخط في أوساط فاغنر، وكذلك في أوساط الشخصيات الروسية الأكثر قومية. وأشاد أحدهم، وهو ألكسندر دوجين، ببريغوجين وأوتكين باعتبارهما بطلين، وانتقد بشدة "الأعداء الشيطانيين" الذين قتلوه؛ ولكنه لم يصل إلى حد تحديد هوية هؤلاء الأعداء. ولكنه تذكّر ابنته داريا– التي سبق أن قُتلت في انفجار كان من المرجح أن هدفه بريغوجين ذاته– حين قال بأن بريغوجين كان رجلا "قويا وواثقا" إضافة إلى كونه "جريئا وذكيا". ولكن بريغوجين لم يتمتع على ما يبدو بما يكفي من الذكاء لرؤية السحب المظلمة التي هوت به من السماء.

وعلى الرغم من هذا وذاك، فإن وفاة بريغوجين تشير إلى أن لدى الكرملين شعورا وافرا بالثقة في قدرته على تسوية الأمور. سبقت وفاةَ مؤسس فاغنر الإقالةُ الرسمية للجنرال سيرغي سوروفيكين، الذي كان اختفى منذ عصيان فاغنر. وبعد أسابيع من الشائعات التي دارت، أكد الكرملين فعليا أن سوروفيكين، الذي اتُهم بأنه مقرب من بريغوجين، وحتى بأنه ربما يكون على علم بخطط بريغوجين للتمرد، قد فقد حظوته لدى الكرملين. ومن غير المحتمل أن يكون التوقيت مجرد صدفة في حادثة اعتقال إيغور ستريلكوف قبل بضعة أسابيع، وهو الناقد المتشدد الذي رفع من مستوى انتقاده لنهج موسكو الخجول في أوكرانيا، وهو مؤشر على التطورات المقبلة. ومثل بريغوجين، انتقد ستريلكوف، الذي سبق وأن أدين من محكمة هولندية بتهمة إسقاط الطائرة "MH17" في أوكرانيا، انتقد الكرملين علنا وكان يهدف إلى إطلاق برنامجه السياسي. ورغم أن البعض انتقد عملية الاعتقال بشكل موارب، إلا أن ذلك لم يولد أي إجراء ملموس، مما يؤكد التأثير المحدود للفصيل القومي المتطرف.

وفاة بريغوجين تشير إلى أن لدى الكرملين شعورا وافرا بالثقة في قدرته على تسوية الأمور

font change

مقالات ذات صلة