السفر والتحولات الاجتماعية... قصة عائلة فلسطينية

تحول بنيوي وشراكة أكبر بين الجنسين

 Nesma Moharam
Nesma Moharam

السفر والتحولات الاجتماعية... قصة عائلة فلسطينية

بيت لحم: تسرد المقالة قصة عائلة فلسطينية، شاب وشابة من قرى جبال الخليل جنوب فلسطين؛ أحب أحدهما الآخر وتزوجا في منتصف سبعينات القرن الماضي، وسافرا معا إلى الخليج العربي، واستقرا في منطقة نجران جنوب المملكة العربية السعودية، وكأن قدر الجنوب أن يكون في الجنوب، من جنوب فلسطين إلى جنوب السعودية ضمن الجنوب العالمي، وهذا ربما يعاكس حركة الهجرة من الجنوب إلى الشمال، كما عبّر ذات يوم الروائي السوداني الطيب صالح في روايته "موسم الهجرة إلى الشمال"، 1966.

كان السفر للفلسطيني بمثابة نافذة للحرية والتحرر وضمان المستقبل، لكن السفر غربة، والغربة تجعل العائلة الفلسطينية مرنة توسع أفقها في العلاقات ضمن الدوائر والعائلات الفلسطينية والعربية الأخرى. وتعزز الغربة طبائع الصبر والتحمل والحلم بما هو أفضل. وقد أدى السفر إلى تحولات مركزية في بنية العائلة الفلسطينية مثل تلاشي السلطوية والأبوية، وألقت التحولات بظلالها على بعض العائلات ولم تتأثر عائلات أخرى بها. بنيت هذه القصة على معايشة الكاتب وعلاقته مع هذه الأسرة، وفي حوار دائم مع أفراد تلك العائلة، ربما يمكن القول إن هذه القصة مبنية على الملاحظة بالمشاركة والاستماع والتأمل في القصص والذكريات وألبومات الصور وحكايات تمتد من فلسطين إلى المملكة العربية السعودية مرورا بالمملكة الأردنية الهاشمية.

رحل م. م عن هذه الدنيا بتاريخ 1/12/1992، وكان يبلغ من العمر 45 عاما، وبعدها بأسبوعين ولدت ابنته الصغرى بتاريخ 16/12/1992، وكانت رقم عشرة للعائلة، فعائلتها مكونة من خمسة ذكور وخمس إناث، وُلِد غالبية أفراد العائلة في المملكة العربية السعودية، باستثناء البنت الصغرى التي وُلدت في فلسطين. تخرج الوالد في جامعة النجاح الوطنية في مدينة نابلس متخصصا في الاجتماعيات (تعليم تاريخ وجغرافيا)، وسافر للعمل إلى المملكة العربية السعودية مصطحبا زوجته الشابة التي لم تكن تبلغ من العمر عند سفرها سوى 17 عاما، وهذه ليست حال هذه العائلة وحدها، وإنما حال الكثير من العائلات الفلسطينية التي اغتربت ورحلت إلى بلاد الخليج وبلاد أخرى لغرض العمل وبناء الأسرة، والمساهمة في تأمين مستقبل العائلة الفلسطينية التي عصفت بها الكثير من المآسي سواء في النكبة أو النكسة أو الاحتلال المستمر، إلى جانب الظروف الاجتماعية والاقتصادية القاهرة من فقر وبطالة وذكورية وعصبية قبلية وتخلف اجتماعي.

ساهمت الهجرة في تشكل العائلة كعائلة نووية، في الوقت الذي كانت فيه عائلات القرى الأخرى لا تزال عائلات ممتدة يعيش فيها الأجداد والأعمام والعمات

أَحَبَّ الوالد الشاب المتخرج الجامعي، الشابة الجميلة التي كان يتنافس على خطبتها غالبية شباب القرية وخصوصا شباب عائلتها. كان الشاب يمتلك آنذاك رأسمالا اجتماعيا وثقافيا بلغة عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، مغايرا للرأسمال الاجتماعي التقليدي في القرية الفلسطينية، المبني على قوة العائلة أو العشيرة وامتلاكها للأرض والقوة الاقتصادية والزعامة الاجتماعية، فالرأسمال الحديث لشاب متعلم في أواخر السبعينات من القرن الماضي يمثل نقلة حداثية داخل المجتمع الفلسطيني الريفي. إلا أن ذلك لا يشفع له بأن تكون خياراته حرة وخارج بنية التفكير التقليدي العشائري والقبلي، وهذا يتفق مع  مقولة حليم بركات أن العائلة العربية تقوم على الهرمية والتراتبية وفق العمر والجنس ("المجتمع العربي في القرن العشرين"، 2000). ينتمي الوالد إلى عائلة، والزوجة إلى عائلة أخرى من أكبر عشائر القرية، فكيف تقبل العشيرة أو القبيلة وأبناء عمومة الزوجة، بخطبتها لشاب من عائلة أخرى في القرية؟ هذا خلق تنافسا وتحديا داخل العائلات، إلا أن الحسم العاطفي كان هو المقرر، فالوالد على ما يبدو كان بطريقة الشباب في تلك القرية وذلك الزمان، يلمح لزوجته -قبل الزواج- بمشاعره ورغبته بالخطوبة، وهذا في العادة يحصل في القرية بالقرب من نبع الماء.

AFP
خلال مسيرة بمناسبة يوم "النكبة" في وسط مدينة رام الله بالضفة الغربية المحتلة، في 15 مايو/ أيار 2023.

تزوج الشاب الشابة التي أحبها. وبعدها بفترة وجيزة سافرا إلى المملكة العربية السعودية، وعمل الوالد مدرسا ولاحقا مدير مدرسة، وعاشت الزوجة في الغربة ما يقارب 20 عاما، حملت هناك وأنجبت وربت أطفالها، وهذا كان بداية تكوّن العائلة النووية، بحكم ابتعادها عن العائلة الممتدة المتمثلة في الأجداد والأعمام والعمات وباقي الأقارب الذين يعيشون في فلسطين، فالهجرة ساهمت في تشكل العائلة كعائلة نووية، في الوقت الذي كانت فيه عائلات القرية/ القرى لا تزال عائلات ممتدة يعيش فيها الأجداد والأعمام والعمات. شكلت العائلة النووية المهاجرة في المملكة السعودية صداقات وعلاقات اجتماعية في الغربة مع عائلات فلسطينية أخرى مغتربة، ومثلت تلك العائلات سندا وعونا بعضها لبعض، ما زالت علاقة العائلة (بعد عودتها إلى فلسطين) مع تلك العائلات حتى هذه الأيام على الرغم من عودة العائلات إلى فلسطين واستقرارها فيها بعد سنوات الغربة الطويلة. تعلمت الزوجة الشابة أمور المنزل وتدبيرها في الغربة، فلم تكن تتقن جميع الأعمال المنزلية من طبخ وغسل وغيرها، فالغربة كانت دافعا وحافزا لتتعلم أشياء جديدة، انطلاقا من أن "الحاجة أم الاختراع".

 

من العائلة الممتدة إلى النووية

خلال عمل الوالد في الخارج، بدأت العائلة بالتفكير في رحلة العودة والاستقرار في فلسطين، كون الغرض الأساسي من العمل والغربة هو تأمين مستقبل العائلة في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الصعبة في فلسطين، فكان الوالد يرسل الأموال إلى إخوته لغرض بناء وتجهيز بيت له في قرية مجاورة لقريتهم. وفعلا قام الأخوة باستقبال الأموال وتجهيز البيت.

عادت العائلة على دفعات إلى فلسطين، فقد عادت الأم والأخوة والأخوات، وبقي الوالد مدة عام آخر في عمله، ثم عاد بشكل نهائي في السنة التالية. عاش الوالد بعد عودته إلى منزله الجديد في فلسطين لشهور قصيرة قبل أن يتوفى. بعدها تحمّلت الزوجة عبء العائلة، ورفضت أن تبقى في القرية، وينظر إليها بعين الشفقة ضمن البنية الهرمية للعائلة العربية التي وصَفَها حليم بركات بأن "العائلة العربية منظمة في بنيتها الأساسية تنظيما هرميا على أساس دونية المرأة والصغار وسيطرة الرجال الكبار" ("المجتمع العربي في القرن العشرين"، 2000)، وكذلك رفضت الزوجة فكرة الاستبداد المجتمعي والعائلي، حيث "النظام الأبوي الاستبدادي لا يقتصر على العائلة بل يتعداها إلى المجتمع ككل" (المصدر السابق نفسه). فالخروج من العائلة الممتدة أهم خطوة لتطور العائلة النووية وتقدّمها بعيدا من الاستبداد والذكورية. قرّرت الزوجة شد الرحال إلى القدس، تحمل الزوجة الهوية المقدسية (البطاقة الزرقاء)، وذلك من طريق والدها، الذي حصل على الهوية المقدسية بعد حرب عام 1967، وسجّل جميع أبنائه وبناته على أنهم يعيشون في القدس، وقد فقدوا أوراقهم الثبوتية ومنازلهم خلال حرب يونيو/حزيران 1967، وهم في الأصل لم يكونوا في القدس، وهذا جزء من أساليب المقاومة بالحيلة في منطق جيمس سكوت، بالتحايل على السلطات الاستعمارية، للحصول على الهوية المقدسية.

مثّل التعليم والعمل إحدى أدوات تفكك الذكورية المجتمعية والعائلية، وأصبحت الزوجة لها مكانة ودور أكبر داخل العائلة، وفي قراراتها المستقبلية

استغلّت الزوجة هذا الامتياز، وهو امتلاكها هوية مقدسية، فرحلت إلى القدس وأجرت لمّ الشمل للأبناء والبنات وسجلتهم في هويتها (ليحصلوا على الهوية المقدسية)، وكان أكبر الأولاد سنا وقتها يبلغ 14 عاما، فكان الرحيل إلى القدس طوق النجاة للعائلة من المجتمع الذكوري والقبلي الذي يتحكم بالأطفال والمرأة، ولم تحتج الزوجة إلى العمل، وإنما كانت مكتفية بضمان الدخل من التأمين الوطني الإسرائيلي إلى جانب تأمين الأطفال الذي تحصل عليه بشكل شهري. وهذا يتفق مع طرح أفنان مصاروة عندما تحدثت عن تفكك العائلة الكلاسيكية بفعل عوامل عديدة منها التحول من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي، وقيام الدولة بمسؤوليات الرفاه الاجتماعية والرعاية ("الطفولة في المجتمع العربي في إسرائيل"، 2006)، وهذا ما قلص وظيفة العائلة كحامٍ وراعٍ لأفرادها وفق مقولة أفنان مصاورة، وهذا يتقاطع مع ما أشار إليه محمود ميعاري بقوله "إن السلطة في الأسرة الفلسطينية المعاصرة لم تعد بطركية (أو أبوية تسلطية)" ("السلطة في الأسرة الفلسطينية: اتجاهات وممارسة"، 2006).  

بعد إنهاء الابن الأكبر الصف الثاني عشر، ساعدته والدته للحصول على رخصة قيادة مركبة، وعمل على تلك المركبة في نقل الأشخاص والبضائع من أجل إعالة والدته وأخوته، وأصبح على رأس العائلة بالتعاون مع والدته. وبعدها بدأ الأخوة بالنمو والنضج، وكان الصغار يعملون في أوقات الفراغ والعطل المدرسية من أجل مساندة الأسرة. وبعد إنهائهم مراحل مدرسية مختلفة التحقوا بسوق العمل المنتظم. تزوج الأبناء تباعا، باستثناء فرد واحد لم يتزوج بعد، وكوّنوا أسرا متنوعة من حيث عدد الأطفال وجنسهم.

AFP
متظاهر يخرج من حافلة قديمة كان الفلسطينيون يستخدمونها للسفر البري إلى العواصم العربية قبل عام 1948، خلال مسيرة بمناسبة يوم "النكبة" في وسط مدينة رام الله بالضفة الغربية المحتلة، في 15 مايو/ أيار 2023.

أما البنات فتلقين تعليما مدرسيا متميزا في مدارس خاصة وأخريات في مدارس البلدية (بلدية القدس)، والبنات الخمس حصلن على تعليم جامعي في جامعات فلسطينية مختلفة، سواء جامعة بيت لحم، وبيرزيت، والقدس، والقدس المفتوحة، والبنات الأربع الكبار متزوجات ولديهن أطفال، وعملن على لمّ شمل أبنائهن وخصوصا هؤلاء المتزوجات من أشخاص لا يحملون الهوية المقدسية، وهم من سكان الضفة الغربية، وإحدى البنات نجحت في لمّ شمل زوجها إلى جانب أولادها. فقد مثّل التعليم والعمل إحدى أدوات تفكك الذكورية المجتمعية والعائلية، وأصبحت الزوجة لها مكانة ودور أكبر داخل العائلة، وفي قراراتها المستقبلية، وهذا ينطبق على عائلات البنات اللواتي قررن الحفاظ على الهوية المقدسية وكذلك تسجيل أولادهن كمقدسيين، وبهذا كان لهن قرار في اختيار مكان السكن ضمن حدود بلدية القدس من أجل الحفاظ على الهوية المقدسية، وكانت قراراتهن في اختيار الشريك ذاتية وبالتشاور مع الأم والأخوة، وهذا مؤشر الى بعض التحول في هرمية وبنية وسلطوية الأسرة الفلسطينية.

تجاوزت العائلة الفلسطينية البنية الهرمية القائمة على مركزية الذكور كبار السن، إلا أن هناك أسرا تحرّرت من عبودية النظام الأبوي عبر تجارب حياتية مختلفة

تعيش العائلة كعائلة نووية. وقد بيّن هشام شرابي أن العائلة العربية تفضل العيش ضمن العائلة الممتدة، كون العائلة الممتدة هي تجسيد للسيطرة الأبوية والذكورية، أما العائلة النووية فهي تمتاز بالديموقراطية وتكافؤ العلاقات ("النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي"، 1992). إن تكون العائلة كعائلة نووية، ولاحقا تشكلت عائلات الأخوة والأخوات، ساهما في تطور تلك العائلات وقدرتها على الحراك الاجتماعي والاقتصادي والطبقي. فقد انتقلت تلك العائلات بشكل لافت على المستويات الاجتماعية والاقتصادية، كونها تحررت من سيطرة البنى الذكورية والتقليدية التي تكبح آفاق التطور والتقدم.يمكن القول إن العائلة وعائلات الأخوة والأخوات كعائلات نووية تهدد النظام الأبوي الحديث، وخصوصا في قضايا التحول الاقتصادي والعلاقات الديموقراطية ومكانة المرأة. وهذا ما يسم العائلة بالحداثة، فهناك حرية في اختيار الشريك وهناك تقاسم أدوار ومرونة داخل العائلة.

أخيرا، يمكن القول إن السفر والتعليم والعمل كعوامل متفرقة عملت وتعمل على خلخلة النظام الأبوي التقليدي في بنية العائلة الفلسطينية وممارساتها الاجتماعية والثقافية والحياتية بشكل عام. وهذا لا يعني أن العائلة الفلسطينية تجاوزت البنية الهرمية القائمة على مركزية الذكور كبار السن، إلا أن هناك أسرا تحرّرت من عبودية النظام الأبوي عبر تجارب حياتية مختلفة، كانت تلك التجارب والظروف حافزا لها للخروج من كهف الأبوية والسلطوية الاجتماعية.

font change

مقالات ذات صلة