الحرب في السودان... سردية نصر غامضة

الفشل في تقديم سردية متماسكة ومنطقية ومقنعة للنصر

AFP
AFP

الحرب في السودان... سردية نصر غامضة

من بين ما تفردت به حرب السودان المدمرة والطاحنة، فشل طرفي الصراع في تقديم سردية متماسكة ومنطقية ومقنعة للنصر الذي يسعيان إليه ويقدمان في سبيله أرواح آلاف الجنود والمواطنين الأبرياء، وتدمر في سبيله الممتلكات العامة والخاصة. واكتفى كل طرف بسردية عامة غير واضحة المعالم للنصر الذي يريد أن يحتفي به بعد نهاية الحرب.

وفي الوقت الذي يختصر فيه الجيش سردية نصره في "القضاء على متمردي الدعم السريع" نجد سردية "قوات الدعم السريع" تُختصر في "القضاء على عناصر النظام البائد في الجيش وتسليم السلطة للمدنيين". وهذا الغموض في سرديتي الطرفين ونصرهما الموعود يزيد من تعقيدات المعركة ويعزز من عبثها كما وصفها قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان.

الإعلان عن إبادة الآلاف من جنود العدو المدججين بالسلاح وسحقهم بالكامل كما يرد في خطابات قادة الجيش ومن بينها خطاب البرهان الأخير، ربما لا يخرج من دائرة الخطاب التعبوي للجيوش. وإذا كان ما يعنيه هؤلاء الجنرالات يتلخص في القضاء على أكبر عدد من "قوات الدعم السريع" وتدمير مقدراتها ودفعها للاستسلام والكف عن القتال والبحث عن مخارج آمنة، فقد ينظر إلى هذا المفهوم على أنه صحيح، غير أن شواهد الحروب العديدة التي خاضها الجيش السوداني تقول إنه صحيح يصعب تحقيقه، وإن شئت الدقة حتى شواهد حروب العصابات وقتال المدن العالمية تؤكد أن فرضية النصر التي يتبناها الجيش مكلفة للغاية وتحيل النصر إلى هزيمة بعد أن تدمر البلاد بالكامل وتطول الحرب ويطول معها عذاب السودانيين ومعاناتهم، ولا يستطيع أحد التنبؤ بمآلاتها كلما زاد أجلها يوما جديدا. ولعل ذاكرة السودانيين تحتفظ بتفاصيل حرب الجنوب التي خاضها الجيش في مواجهة الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق والتي انتهت على طاولة التفاوض بعد عشرين عاما من الحرب الضروس، خسر فيها السودان أرواحا غالية وانتهى التفاوض بانفصال جنوب السودان.

أما حرب الجيش مع الحركات المسلحة في دارفور والتي تعاون فيها مع "الدعم السريع" نفسه للقضاء عليها، فقد انتهت بأساليب متعددة ليس من بينها القضاء على حركة مسلحة بالكامل وإجبارها على الجلوس والتفاوض على تسليم السلاح والاستسلام والخروج من المعركة. ومن بين الأساليب التي نجحت في وقت من الأوقات أسلوب التفاوض الذي اقتنعت عبره حركة جيش تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي- حاكم دارفور الحالي– بتوقيع اتفاق سلام مع حكومة النظام البائد، عرف بـ"اتفاق أبوجا" أو اتفاق سلام دارفور. لم يكن تفاوض مهزوم ومنتصر بأي حال من الأحوال، وحصل بموجبه مناوي وقتها على منصب مساعد الرئيس السابق عمر البشير، قبل أن يعود لحمل السلاح في وجه الحكومة مرة أخرى، وبشكل أشد بعد أن انتهى أجل الاتفاقية.

في الوقت الذي يختصر فيه الجيش سردية نصره في "القضاء على متمردي الدعم السريع" نجد سردية الدعم السريع تُختصر في "القضاء على عناصر النظام البائد في الجيش وتسليم السلطة للمدنيين"

سعى نظام الإسلاميين للقضاء على "حركة العدل والمساواة" واستهدفها بمواجهات عنيفة خاض فيها الجيش معارك ضارية لكون مؤسسها الدكتور خليل إبراهيم إسلاميا منشقا عنهم وصاحب إدراك سياسي متقدم، الأمر الذي حملهم على تدبير عملية نوعية لاغتياله أودت بحياته في 2011 كما أن الحركة نفذت عملية عسكرية مكنتها من دخول العاصمة الخرطوم في وضح النهار عام 2008 عرفت بعملية الذراع الطويلة. وقاتلت الجيش في شوارع أم درمان بدلا من دارفور. وهي المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك في تاريخ السودان إضافة إلى أن عمليتها النوعية هذه أظهرتها حركة قوية رغم تمكن الجيش من صدها وتحلق حولها عدد من أبناء دارفور من المقاتلين والسياسيين، كما ظل نظام الإسلاميين يتهم حركة العدل والمساواة بأنها الظهير العسكري لحزب المؤتمر الشعبي بقيادة عراب حكومة الإنقاذ حسن عبدالله الترابي.

وفعليا تمكن النظام من ضرب "حركة العدل والمساواة" في كمين محكم نفذته قوات الدعم السريع الحالية عرف بمعركة وادي هور عام 2017 أعلنت الحكومة بعدها أنها قضت على "حركة العدل" نهائيا وفي الحقيقة خسرت الحركة في تلك المعركة ما يقارب 70 في المئة من قواتها وأراضيها غير أنها لم تستسلم ولم تتخل عن السلاح أو تتفاوض بمنطق المهزوم، وظلت تعمل على تخطي المعركة وترتيب صفوفها من جديد ولم توقع على اتفاق سلام أو تستسلم إلى أن سقط نظام الإسلاميين.

وآخر النماذج التي تشير إلى أن الحروب الداخلية التي تدور في المدن والبلدات يصعب سحقها بالكامل وتظل مهددة للاستقرار والأمن، نموذجا "حركة جيش تحرير السودان" بقيادة عبدالواحد محمد نور، و"الحركة الشعبية- شمال" بقيادة عبدالعزيز آدم الحلو؛ فحركة عبدالواحد على الرغم من أن جيشها أقل عددا وتسليحا مقارنة بـ"حركة العدل والمساواة" إلا أنها ظلت تسيطر على مناطق وطرق مهمة في منطقة جبل مرة ولديها أراض واسعة حول جبل مرة تحت سيطرتها لأكثر من عشرين سنة، وكذلك الحركة الشعبية التي لديها سلطة حقيقية على أراض واسعة في مناطق جنوب كردفان والنيل الأزرق وتحظى بتأييد في تلك المناطق، وظلت تحارب الجيش لأكثر من ثلاثين سنة منذ أن كانت فصيلا في جيش الحركة الشعبية قبل انفصال أو استقلال جنوب السودان. وخلال هذه الحرب التي اندلعت في 15 أبريل/نيسان الماضي وقعت بينها وبين الجيش اشتباكات في مناطق عديدة في ولاية النيل الأزرق وجنوب كردفان. 

AFP
صبي يقود عربة يجرها في قرية عصار، جنوبي مدينة القضارف، في 4 سبتمبر 2023

لذا وفقا لهذه الشواهد التي يظل الجيش السوداني طرفا فيها، يصعب تحقيق فرضية سحق قوات متمردة على الجيش، أو القضاء عليها عن طريق الحرب وإجبارها على الاستسلام وهي تقاتل وسط المدن. ومن أوجه الأزمة أن كثيرا من المراقبين والمحللين وحتى رجل الشارع ينظرون إلى النصر في هذه المعركة في حدود تطهير ولاية الخرطوم من الدعم السريع وإخراجه من منازل المواطنين. وفي هذا السياق، قال عضو مجلس السيادة ومساعد القائد العام للجيش، الفريق أول ياسر العطا، في خطاب مسجل: "على قوات المتمردين الخروج من الخرطوم أولا وبعدها يتحدثون عن تفاوض"، دون اعتبار لتمدد الحرب في ولايات كردفان ودارفور واستيلائه على كثير من المناطق هناك. ومن المعلوم أن دارفور تعتبر مناطق نفوذ عشائري لـ"الدعم السريع"، ويتخطى هذا النفوذ حدود دارفور إلى تشاد والنيجر.

ومما يجعل مهمة سحق قوات الدعم السريع بالكامل بالغة الصعوبة أو شبه مستحيلة أن هذه القوات تلقت تدريبا متقدما على يد قوات الجيش نفسها، وانتدب لها أفضل الضباط من الجيش السوداني، ولديها تسليح وقدرات قتالية تفوق جميع الحركات المسلحة التي استشهدنا بها، ودخلت في حرب مع الجيش من قبل، إلى جانب تفوق عددي هائل ومقدرات اقتصادية كبيرة ظلت تراكمها منذ تأسيسها في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير.

غير أن السردية الأكثر غموضا وضبابية وتعقيدا على مستقبل السودان هي سردية قوات الدعم السريع التي ترى أن نصرها يتمثل في "القضاء على فلول نظام الإسلاميين في الجيش وضرب ميليشيات حزب الرئيس المخلوع" عمر البشير- المؤتمر الوطني.

يقول المثل: "من يمسك بالقلم لن يكتب نفسه شقيا"، وعندما يكون "الدعم السريع" ممسكا بالقلم والبندقية سيكتب نفسه في الخانة الأفضل بين أطراف المعادلة، وعندها سيكون المنتصر هو "قوات الدعم السريع"، والمهزوم هو السودان وثورته ومدنيته

ولا أحد ينكر وجود عناصر الإسلاميين في الجيش، ولكن القضاء عليهم عبر حرب مدمرة مهمة وخيمة العواقب ولا يمكن التحكم في مآلاتها. أما بخصوص الجزئية الثانية من المهمة المعلنة لـ "قوات الدعم" السريع فهي تسليم السلطة للمدنيين، وهنا شواهد التاريخ تشير إلى غير ذلك ولا يمكن أن يبلغ حسن الظن بأحد للدرجة التي يمكن أن يتصور معها أن تخوض قوة مسلحة حربا تستنزف فيها قدرات بشرية وعسكرية مهولة ثم تتحول لفاعل خير (سياسي) يسلم السلطة بالكامل دون شروط للآخرين.

في نهاية الحرب اللبنانية- الإسرائيلية التي تعرف بـ"حرب تموز 2006"، والتي حقق فيها "حزب الله" مكاسب عسكرية على العدو الإسرائيلي بعيدا عن الجيش اللبناني الرسمي، قال السياسي اللبناني الجهير والشهير وليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي: "انتصر نصرالله وحزب الله، وانهزم لبنان". وفعليا عاش لبنان منذ ذلك اليوم ولا زال تحت سطوة "حزب الله" ونصرالله الخفية. وقد يجد السودان في حال تحققت سردية "قوات الدعم السريع" الضبابية نموذجا مشابها، إن لم يكن مطابقا، لما جرى في لبنان، لجهة أن سردية الدعم السريع التي تصوره كفاعل خير سياسي سكتت عن وضعه بعد الانتصار، وكما يقول المثل "من يمسك بالقلم لن يكتب نفسه شقيا"، وعندما يكون الدعم السريع ممسكا بالقلم والبندقية سيكتب نفسه في الخانة الأفضل بين أطراف المعادلة، وعندها سيكون المنتصر هو "قوات الدعم السريع"، والمهزوم هو السودان وثورته ومدنيته.

مع غياب الحجة الواضحة للنصر النبيل في حرب يجتهد كل طرف في ادعاء أنها فرضت عليه، تظل فضيلة إيقافها بأسرع ما تيسر ضرورة من ضرورات بقاء السودان في حد ذاته.

font change

مقالات ذات صلة