إنجازات قمة إردوغان- بوتين... المتواضعة

Reuters
Reuters

إنجازات قمة إردوغان- بوتين... المتواضعة

عادت العلاقات التركية الروسية إلى الواجهة مرة أخرى بعد الزيارة التي قام بها الرئيس رجب طيب إردوغان إلى سوتشي، حيث التقى هناك بالرئيس فلاديمير بوتين، في الرابع من سبتمبر/أيلول الحالي.

وقد تعاظمت العلاقات الثنائية، وفق إردوغان، فبلغت العلاقات التجارية ما يقارب 69 مليار دولار أميركي في العام 2022، بعدما كانت 34 مليارا في العام الذي سبقه؛ كما بلغ عدد السياح الروس إلى تركيا في العام الماضي 5.2 مليون سائح، بينما سجلت الشهور السبعة الأولى من هذا العام زيارة 3.5 مليون سائح روسي إلى تركيا.

أما في ما يخص استخدام العملات المحلية بدلا من الدولار واليورو، فقد تم تبادل 20 مليار قدم مكعب من الغاز الطبيعي عبر خط أنابيب "التيار التركي"، و"بلوستريم" باستخدام العملات المحلية، بالإضافة إلى بناء محطة طاقة نووية وعد الروس بها الأتراك، يتم فيها تحديد التكاليف بالعملتين الروسية أو التركية أيضا.

وعلى الخريطة الدولية، يتشارك البلدان جملة من القضايا ذات الاهتمام المشترك، بينها الملف الأوكراني. وهذه القضايا ستجعل البلدين يميلان إلى إيجاد أرضية مشتركة قوامها مزيد من المناقشات والتفاهمات، بل ويمكن أن تضعهما في خانة الشراكة الاستراتيجية.

وفي هذا الصدد ذكر إردوغان في المؤتمر المشترك بعد القمة أنه ناقش مع نظيره الروسي عدة ملفات على رأسها الحرب في أوكرانيا وقضايا مشتركة أخرى أهمها الملف السوري وجنوب القوقاز وليبيا وأفريقيا. وصحيح أن تركيا وقفت إلى جانب دعم وحدة الأراضي الأوكرانية، وامتنعت عن الاعتراف بضم شبه جزيرة القرم لروسيا، بالإضافة إلى إغلاقها المضائق التركية أمام السفن الروسية، بل وتقديمها دعما عسكريا لأوكرانيا، سوى أنها امتنعت أيضا عن المشاركة في العقوبات على روسيا، وحرصت على إبقاء العلاقات ودية معها. وبذلك ظهرت تركيا كدولة قادرة على محادثة طرفي النزاع روسيا وأوكرانيا.

وربما وفرت صفقة الحبوب التي أبرمتها تركيا بمشاركة الأمم المتحدة غطاء لها أمام الانتقادات التي كانت ستطالها لعدم انضمامها إلى العقوبات ضد روسيا، بالإضافة إلى كون روسيا قد تستغلها للتهرب من العقوبات المفروضة عليها. ومن دون شك فإن هذه مسألة خطيرة يمكنها أن تضع تركيا، التي تواجه مصاعب اقتصادية جدية، في موقف أكثر صعوبة. ومن أجل هذه القضية زار عدد من المسؤلين الأميركيين رفيعي المستوى تركيا لإيضاح هذه النقطة.

تم تبادل 20 مليار قدم مكعب من الغاز الطبيعي عبر خط أنابيب "التيار التركي"، و"بلوستريم" باستخدام العملات المحلية، بالإضافة إلى بناء محطة طاقة نووية وعد الروس بها الأتراك

ومن الواضح أن تركيا تحاول تحسين علاقاتها المتوترة مع كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وقد ساعدت صفقة الحبوب تركيا في ذلك، ومن المحتمل أن يساعدها انسحاب روسيا منها في يوليو/تموز على الأمر نفسه. ذلك أن جميع توقعات المجتمع الدولي من قمة سوتشي تجسدت في إحياء هذه الصفقة من جديد.   

وفي هذا السياق توالت زيارات وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، بين مختلف العواصم؛ حيث كانت أولى زياراته لأوكرانيا وروسيا، بفارق أيام قليلة في الأسبوع الأخير من أغسطس/آب الماضي، وبداية سبتمبر/أيلول الحالي. وفي الثالث من سبتمبر/أيلول كان قد زار إيران حيث التقى نظيره عبداللهيان ليستقبله بعدها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي. وينبغي قراءة هذه الزيارات كجزء من الجهود الرامية إلى إعداد أرضية مناسبة لتناول القضايا الكبرى (أوكرانيا وروسيا) التي سيتم تناولها في اجتماع الرؤساء. 

وغالبا ما توصف العلاقات بين إردوغان وبوتين بأنها علاقات "وثيقة ودافئة". وقد كان أمر بوتين في تأجيل التكاليف التركية للغاز الروسي مساهمة قيمة في جهود إردوغان الانتخابية في مايو/أيار الماضي، حيث انعكس ذلك بشكل إيجابي على توطيد العلاقات بين البلدين. 

ومع ذلك كله، لم تكن تلك العلاقات سلسة دائما وسهلة، بل شابتها كثرة من من العثرات، خاصة في الآونة الأخيرة؛ فالحلفاء في الناتو، حتى وقت قريب، لم يكونوا مرتاحين للعلاقات التركية الودية مع روسيا. وفي المقابل، أبدت روسيا، قبل فترة قصيرة، استياءها من محاولات تركيا فيما يبدو لتحسين علاقاتها مع حلفائها في حلف الأطلسي، وشركائها في الاتحاد الأوروبي. 

Reuters
سفينة شحن تركية تنتظر في مضيق البوسفور في 31 اكتوبر 2022

وفي زيارته الرسمية لتركيا في يوليو/تموز الماضي، اصحطب الرئيس الأوكراني زيلينسكي خمسة من قادة ماريوبول، حيث تم إطلاق سراح القادة في عملية تبادل للأسرى بين روسيا وأوكرانيا، شريطة مكوثهم في تركيا حتى نهاية الحرب. لكن روسيا عبرت عن استيائها من خلال تصريحات رسمية. 

وفي منتصف أغسطس/آب الماضي أطلقت سفينة حربية روسية طلقات تحذيرية وصعد جنود روس على متن سفينة تركية (تحمل علم بالاو) للتفتيش، في حادثة لا يمكن أن تقنع حتى السذّج بأنها حدث عابر. 
وقبل سوتشي كان الرئيسان قد تحدثا هاتفيا عدة مرات منذ آخر لقاء جمعهما في أكتوبر/تشرين الأول 2020 في آستانه، في قمة مؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا (CICA). 

ويعطي المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقده الرئيسان بعد اجتماعهما المطول لثلاث ساعات مؤشرات حول ما أشرنا إليه. لا توجد مفاجآت فيما يتعلق بالبنود التي تمت مناقشتها، ولكن بعض الذين توقعوا حدوث شيء ملموس في صفقة الحبوب أصيبوا بخيبة أمل من النتائج المتواضعة. 

وكانت روسيا قد انسحبت من صفقة الحبوب بحجة تنصل الطرف الآخر من التزاماته رغم التزامها التام بالبنود. وزعم الرئيس الروسي بأن الممرات الإنسانية استغلت لأغراض عسكرية، وأكد أن روسيا غير قادرة على تصدير منتجاتها الزراعية والأسمدة بسبب العقوبات. كما تحاول روسيا إعادة البنك الزراعي الروسي إلى نظام الدفع الدولي "سويفت". 

وإلى جانب ذلك، انتقد بوتين طريقة نقل الحبوب، حيث صرح بأن معظم حمولات الحبوب الأوكرانية لم تذهب إلى البلدان الفقيرة المحتاجة، بل يتم تصديرها إلى البلدان الغنية. وهذه هي النقطة التي أكد عليها الرئيس إردوغان أيضا. 

وفي مؤتمره الصحافي تحدث بوتين عن مبادرتين، تتمثل إحداهما في توريد مليون طن من الحبوب الروسية إلى تركيا بأسعار منخفضة، ومن المقرر معالجتها في المصانع التركية ومن ثم إرسالها إلى البلدان المحتاجة إليها، أما المبادرة الثانية فهي عبارة عن خطة لتزويد كل من بوركينا فاسو وزيمبابوي ومالي والصومال وجمهورية أفريقيا الوسطى وإريتريا 50 ألف طن من الحبوب مجانا، لكل دولة.
 

ذكر إردوغان في المؤتمر المشترك بعد قمة سوتشي أنه ناقش مع نظيره الروسي عدة ملفات على رأسها الحرب في أوكرانيا وقضايا مشتركة أخرى أهمها الملف السوري وجنوب القوقاز وليبيا وأفريقيا

وقد حظيت هذه المبادرة بتأييد من إردوغان أيضا، لكنني أعتقد أنه ليس من الواضح ما إذا كانت هذه الخطة ستحل محل صفقة الحبوب أم ينبغي النظر إليها كخطة منفصلة. 

وفي الحالتين فإن ما يبدو واضحا هو أن بوتين يريد الاستمرار في استخدام "الدول الفقيرة والدول الأفريقية المحتاجة للحبوب" كأداة من أدواته السياسية. 

ولم يكتف الجانب الروسي بالانسحاب من صفقة الحبوب فحسب، بل هدد بمهاجمة السفن التي تغادر الموانئ الأوكرانية، بل إن روسيا استهدفت بالفعل الموانئ الأوكرانية وصوامع الحبوب ومخازنها. 

وفي ظل هذه الظروف تحرص كييف على إيجاد خطط متعددة. لأنها بصراحة لا تثق بروسيا، وتبحث عن بدائل تتجنب بها التهديد الروسي والتعاون مع روسيا في الآن ذاته. ومن هذه المساعي محاولات أوكرانيا نقل حبوبها عبر رومانيا وبلغاريا عن طريق البر والبحر. 

وفي 19 أغسطس/آب الماضي وقعت أوكرانيا ورومانيا اتقافية للعمل من أجل إرسال الحبوب الأوكرانية عن طريق رومانيا، باستخدام أنهارها وسككها الحديدية والممرات البحرية. وقد ذكر الطرف الروماني أن الإمكانيات والطرق المتوفرة تتيح إرسال أكثر من 60 في المئة من الحبوب وتصديرها. 

ويطرح الأوكرانيون إلى جانب ذلك خطة تقوم بموجبها سفن حلف الشمال الأطلسي الحربية بمرافقة السفن التي تحمل الحبوب الأوكرانية. 
ومن التطورات المهمة الأخرى قرار زيلينسكي تغيير وزير الدفاع في إشارة منه إلى ضرورة طرح أساليب جديدة في هذه الوزارة. وينحدر وزير الدفاع الجديد، رستم عمروف، من تتار القرم، وهم من أتراك جزيرة القرم وسكانها الأصليين.

ويبدو أن رغبة إردوغان والأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، تنشيط ممر الحبوب؛ فقد قال إردوغان في المؤتمر الصحافي مع بوتين إن مبادرة الحبوب عبر البحر الأسود يجب أن تستمر وإنْ تطلبت إجراء تعديلات لازمة عليها، ودعا أوكرانيا إلى بذل مزيد من الجهد، وكان متفائلا بإمكانية إحياء الاتفاق قريبا. 

من جانبه أبلغ غوتيريش الصحافيين قبل أيام بأنه بعث رسالة إلى وزير الخارجية الروسي لافروف تضمنت مجموعة من المقترحات الملموسة لمعالجة المخاوف الروسية. 
 

زعم الرئيس الروسي أن الممرات الإنسانية استغلت لأغراض عسكرية، وأكد أن روسيا غير قادرة على تصدير منتجاتها الزراعية والأسمدة بسبب العقوبات

قد تكون تركيا والأمم المتحدة على استعداد لمعالجة بعض المخاوف الروسية على الأقل، ولكن يبدو أن الغرب غير راغب في استرضاء بوتين؛ حيث يعد ذلك استسلاما للتكتيكات المتخذة من جانب بوتين، المتمثلة في استخدام الحبوب كسلاح وورقة مساومة. 

Reuters
عودة الاضطرابات الى سوريا. متظاهرون في مدينة السويداء السورية احتجاجا على تدهور الاوضاع الاقتصادية في 5 سبتمبر

وقد كانت سوريا موضوعا ساخنا آخر على جدول أعمال الرئيسين. وكان الأسد، ربيب روسيا، قد صرح بأنه لا يرى حاجة في عقد لقاء مع إردوغان ما لم تنسحب القوات التركية من الشمال السوري. والصورة الراهنة هي أن الروس لم يتمكنوا من إقناع الأسد بما يرغبون، وإنْ يعتبر البعض أن ذلك محتمل تماما، وأن الروس يكررون هنا لعبتهم مرة أخرى. 

وفي خضم كل ذلك ما تزال سوريا بركانا مشتعلا، ينذر بانفجار كبير في كل لحظة، فقد بدأت الاحتجاجات المناهضة للأسد من السويداء، وامتددت إلى مدن وبلدات أخرى خاضعة لسيطرة الأسد. كما تتجاور وتتشابك وحدات حماية الشعب الكردية والقبائل العربية في دير الزور، بالإضافة إلى وجود وحدات الحماية هذه جنبا إلى جنب المعارضة المدعومة من تركيا في شمال سوريا، وهي تناهض بعضها. 

ولم تسفر قمة إردوغان بوتين، في الوقت الراهن على الأقل، عن أية نتيجة ملموسة، سواء فيما يتعلق بصفقة الحبوب أو القضية السورية. ومع ذلك فإن الوضع يفرض على كلا الجانبين مواصلة البحث عن سبل للتقدم، ومن يدرِ؟ فقد يجدّ جديد دون حساب مسبق.
 

font change

مقالات ذات صلة