قمة العشرين... الهند وسياسة التوجهات المتعددة

استراتيجية الهند في إجراء المعاملات التجارية مع روسيا بالإضافة إلى الولايات المتحدة وقوى أوروبية أخرى

AFP
AFP

قمة العشرين... الهند وسياسة التوجهات المتعددة

بدا رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، مبتهجا وهو يرفع عاليا المطرقة الرمزية التي سلمها إليه، الرئيس الإندونيسي جوكو ويديدو، كجزء من عملية تداول الرئاسة، في قمة بالي لمجموعة العشرين عام 2022، ليبدأ مهمته في رئاسة القمة المقبلة التي ستعقد في نيودلهي، بالهند.

وعلى الرغم من أن هذه القمم، التي تتيح لعشرين دولة من أهم دول العالم الالتقاء لمواجهة قضايا الاقتصاد العالمي، باتت روتينية بعض الشيء، إلا أن رئيس الوزراء مودي أمسك بالمطرقة بكلتا يديه ليحول استضافة قمة مجموعة العشرين إلى فرصة لعرض الإنجازات التي تحققت في فترة ولايته أمام مواطنيه والعالم، وهو يجهد للفوز في ولاية ثانية.

ربما لم يدرك رئيس الوزراء مودي، عند توليه رئاسة مجموعة العشرين، مدى السرعة التي سيتغير بها توازن القوى العالمي عام 2023، وكذلك مدى صعوبة مهمته في استضافة قمة هادفة ذات نتائج ملموسة.

أثبتت مجموعة العشرين، التي تأسست عام 2008، فعاليتها في إيجاد الحلول لمواجهة الانهيار العالمي الذي اجتاح العالم بعد انهيار شركة الاستثمار الأميركية ليمان براذرز.

وفي هذا المنتدى، جلس رؤساء دول من عشرين دولة ومستشاروهم، لتبادل وجهات نظرهم بصراحة من أجل وضع استراتيجيات لرفع مستوى الاقتصاد العالمي خلال فترة التباطؤ.

ويشير نجاحهم في استخدام أدوات التدخل النقدي لإنعاش الاقتصادات المتعثرة إلى أن مجموعة العشرين قد نجحت في مهمتها. وكان مردّ نجاحها في السابق إلى عدم وجود خلافات سياسية بين الدول المشاركة،

ولكن بعد حرب موسكو على أوكرانيا يوم 24 فبراير/شباط، 2022، انهار النظام العالمي. ومع أن قمة بالي نجحت في الانعقاد على الرغم من التوتر الحاصل بين الولايات المتحدة ودول "حلف وارسو" المنحل بشأن الغزو الروسي، إلا أن نيودلهي ربما لا تكون لسوء الطالع محظوظة بالقدر نفسه؛ فبسبب خشيتها من الانحياز إلى أي طرف في حرب أوكرانيا الفوضوية والتعامل بحذر كي لا تكسب عداء أي من الأطراف المتحاربة، شهدت قمة دلهي انتكاسات عديدة، بما في ذلك امتناع الرئيس الصيني شي جين بينغ وعدد آخر من الرؤساء عن المشاركة في هذا الحدث. وإلى جانب ذلك، تواجه الحكومة الهندية صعوبات في صياغة إعلان مشترك يحظى بموافقة كافة الدول المشاركة في القمة.

ربما لم يدرك رئيس الوزراء مودي، عند توليه رئاسة مجموعة العشرين، مدى السرعة التي سيتغير بها توازن القوى العالمي عام 2023، وكذلك مدى صعوبة مهمته في استضافة قمة هادفة ذات نتائج ملموسة

وكانت ملامح التغيير الذي من شأنه أن يؤثر على قمة دلهي واضحة خلال اجتماع مجموعة بريكس الأخير الذي عقد في جوهانسبرغ أوائل أغسطس/آب 2023؛ فحتى العام الماضي، كان يُنظر إلى مجموعة بريكس على أنها هيئة محتضرة، ولكن منذ حرب أوكرانيا وبعد أن فرضت الولايات المتحدة عقوبات على روسيا، بدأت المجموعة في إحراز تقدم واضح. وراحت المجموعة تبرز رغبة قادة الجنوب العالمي في بناء نظير مضاد للولايات المتحدة ودول حلف الناتو، مما أعطاها دفعة جديدة.

وبدافع من الصين ودعم من روسيا، التي اختار رئيسها فلاديمير بوتين التغيب عن قمة بريكس في جنوب أفريقيا لتجنب مذكرة الاعتقال الصادرة من المحكمة الجنائية الدولية بحقه، أظهرت هذه التغييرات نفسها بطرق أثرت على جوهر الهيمنة الغربية على شؤون العالم.

التصدي للهيمنة الغربية 

أولا، قررت مجموعة بريكس توسيع هيئتها بدعوة ستّ دول أخرى إلى الدول الخمس الحالية، ومن بين هذه الدول المملكة العربية السعودية وإثيوبيا والإمارات العربية المتحدة ومصر وإيران والأرجنتين. وهي دول يتعامل كثير منها مع الولايات المتحدة بشكل روتيني.

ويؤكد إلقاء نظرة واحدة إلى الدول الجديدة التي دُعيت للانضمام للهيئة– والتي يعتبر الكثير منها دولا منتجة للنفط والغاز– أن سلطة اتخاذ القرار بشأن كمية إنتاج النفط والسعر والعملة التي ينبغي استخدامها في الصفقات المتعلقة به قد انتقلت إلى يد هذه الكتلة الجديدة.

AFP
رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي (إلى اليمين) ووزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف يتصافحان قبل قمة قادة مجموعة العشرين في نيودلهي في 9 سبتمبر 2023

وما جعل الأمر أكثر إثارة للاهتمام هو وجود الهند والصين إلى جانب مجموعة منتجي الطاقة ضمن دول بريكس، إذ تمتلك هاتان الدولتان أكبر عدد من مستهلكي الطاقة في العالم. ولعل أكثر ما يزعج الولايات المتحدة حقيقةً الطريقةُ التي ساهمت بها الصين في التقارب الحاصل بين المملكة العربية السعودية وإيران، وهو أمر ينطوي على آثار تتجاوز كثيرا الفهم المشترك.

بعبارات بسيطة، تمكنت بكين من جمع حليف الولايات المتحدة (المملكة العربية السعودية)، وعدوها (إيران) معا، لمناقشة موضوع السلام بينهما. وأصبحت هذه الخطوة من جانب الصين أساس النظام العالمي الجديد الذي يشق طريقه لجعل مجموعة العشرين غير ذات أهمية إلى حد ما؛ فهو لا يهدد التفوق الذي يتمتع به الدولار الأميركي من خلال تشجيع التجارة بالعملات الوطنية فحسب، بل إنه يشكك أيضا في سلوك الولايات المتحدة فيما يتعلق بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا ودول أخرى؛ فهناك حوالي 30 دولة ترغب في الانضمام إلى مجموعة بريكس، وقد بدأ كثير منها في استخدام عملات غير الدولار في تجارتها مع الصين ودول أخرى.

كانت ملامح التغيير الذي من شأنه أن يؤثر على قمة دلهي واضحة خلال اجتماع مجموعة بريكس الأخير الذي عقد في جوهانسبرغ أوائل أغسطس/آب 2023

وتقود الصين، التي تبلغ قوتها الاقتصادية الآن 18.75 تريليون دولار، والتي تعذبها واشنطن بسبب قيود التكنولوجيا ورغبتها في الحصول على السيادة في بحر الصين الجنوبي، هذه المقاومة ضد الغرب؛ إذ عملت على حماية نفسها من أي مواجهة في المنطقة مع الولايات المتحدة. وبحسب كثير من الآراء، فإن تمكين مجموعة بريكس هو وسيلتها للقيام بهذا. ومن المتوقع أن يحدث هذا في وقت تستضيف فيه الهند مجموعة العشرين، وهي الهيئة التي تتمتع فيها الولايات المتحدة بنفوذ مفرط.

وحتى الآن يتمتع الرئيس الصيني شي جين بينغ بسجل ناصع بما يتعلق بحضور جميع مؤتمرات قمة مجموعة العشرين. وفي الواقع، استفادت بكين من مشاركتها في الأحداث متعددة الأطراف حيث إنها ترفع من مكانتها وتضفي على نتائج هذه الأحداث الشرعية الضرورية، خاصة عندما يذكر المعلقون أن الرئيسين الأميركي والصيني التقيا مع بعضهما البعض واتفقا على إصدار تصريح مشترك. وهذا هو سبب نجاح قمة بالي، حيث كان اللقاء بين الرئيس شي جين بينغ والرئيس الأميركي جو بايدن هو أهم ما فيها، وساهم الاجتماع في تحسين العلاقات بينهما بعض الشيء. وسيحضر الرئيس الأميركي جو بايدن إلى دلهي، إلا أنه عبّر عن استيائه من وجود مخططات أخرى لدى الرئيس شي جين بينغ.

AFP
الرئيس الأمريكي جو بايدن (يسار) ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي يتصافحان قبل قمة قادة مجموعة العشرين في نيودلهي في 9 سبتمبر 2023

على الرغم من التوتر الحاصل بين الولايات المتحدة والصين، إلا أنه لا يزال من الصعب تفسير سبب قرار الرئيس شي جين بينغ بالتخلف عن حضور قمة مجموعة العشرين، الأمر الذي، وفقا لصحيفة "فايننشيال تايمز"، "يهز مكانة مجموعة العشرين باعتبارها المنتدى العالمي الأبرز".

ويحاول المسؤولون الهنود التقليل من خطورة غياب الرئيس الصيني وإبداء ثقتهم بنجاح قمة مجموعة العشرين لهذا العام، لكن المجتمع الاستراتيجي في دلهي يراقب بعناية بالغة التداعيات المترتبة على غيابه. وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ– الشخصية غير البارزة– سيمثل بلاده في هذا الحدث، إلا أن مدى التزامه بالمداولات التي ستجرى في دلهي ليس واضحا.

سبب تخلف الرئيس الصيني عن حضور القمة

وثمة رأي يشير إلى أن سبب تخلف الرئيس الصيني عن حضور قمة مجموعة العشرين في دلهي يعود إلى فشل محاولاته لجذب الهند بعيدا عن الغرب خلال السنوات السابقة. وكانت الصين قد دعمت محاولة الهند لاستضافة قمة شنغهاي للتعاون في دلهي بداية عام 2023.

وكان من شأن هذه القمة، المعروفة أيضا بشكل غير رسمي باسم "الناتو الآسيوي"، أن تعزز العلاقات بين الدول الأعضاء، بما في ذلك روسيا والصين وإيران وباكستان وكثير من دول آسيا الوسطى، إلا أن نيودلهي، وبسبب انشغالاتها وربما استخفافها بالقمة، قامت وبشكل أثار استياء بكين ودول أخرى بتحويل القمة من اجتماع فيزيائي يمتد ليومين إلى حدث افتراضي يستمر ساعتين فقط، زاعمة أن هذا الإجراء يتيح لرئيس الوزراء مودي القيام بزيارة رسمية إلى واشنطن.

وقالت مصادر في الحكومة الصينية إن بكين انزعجت من هذه الخطوة وتساءلت عن سبب إعطاء الحكومة الهندية كل تلك الأهمية لقمة مجموعة العشرين. وبحسب مصادر أخرى، تساءل المسؤولون الباكستانيون عن أسباب تغيير تاريخ قمة شنغهاي للتعاون ومن ثم تحويلها إلى حدث افتراضي.

وبعد ذلك، وبهدف إحراج الحكومة الهندية، أثار ممثلو الصين اعتراضات حول استخدام اقتباس من لغة قديمة، وهي السنسكريتية، في شعار قمة العشرين، مدعين أنه لم يُوافق عليه من قبل الأمم المتحدة.

ولكن مصادر أخرى تزعم أن السبب وراء عدم حضور الرئيس شي جين بينغ إلى دلهي هو فشل اجتماعه مع رئيس الوزراء مودي في جوهانسبرغ على هامش قمة بريكس. وعلى الرغم من الترويج لفكرة أن هذا الاجتماع سيحل المشاكل العالقة بينهما، بما فيها النزاع الحدودي طويل الأمد بين الجارين الذي شهد اشتباكا عنيفا عام 2020، إلا أن اختلافاتهما تبدو صعبة التجاوز؛ إذ تعتبر الصين بشكل متزايد أن الهند قريبة من الولايات المتحدة أكثر مما ينبغي وتشعر بالاستياء من عضويتها في مجموعة الأربع (كواد)، إلى جانب اليابان وأستراليا والولايات المتحدة، والتي تهدف للحد من نفوذ الصين.

تقود الصين، التي تبلغ قوتها الاقتصادية الآن 18.75 تريليون دولار، والتي تعذبها واشنطن بسبب قيود التكنولوجيا ورغبتها في الحصول على السيادة في بحر الصين الجنوبي، المقاومة ضد الغرب؛ إذ عملت على حماية نفسها من مواجهة في المنطقة مع الولايات المتحدة

على الجانب الآخر، اعتمدت الهند سياسات التوجهات المتعددة والتي تسمح لها بإجراء المعاملات التجارية مع روسيا بالإضافة إلى الولايات المتحدة وقوى أوروبية أخرى. وكانت الولايات المتحدة متسامحة مع الهند؛ إذ سمحت لها بشراء النفط الروسي وتكريره ثم إعادة بيعه للمستهلكين في الغرب. وهذا ما أعطى الهند شعورا بالثقة بأنها قادرة على أن تلعب دورا تصالحيا في الحرب الأوكرانية الجارية.

وبعيدا عن التحركات الروتينية، لم تسفر جهود نيودلهي في محاولة حمل كييف وموسكو على التفاوض عن أي نتائج ملموسة، بل إن كييف كانت عدائية تجاه نيودلهي بسبب تعاملها مع الروس. وسيبذل رئيس الوزراء مودي محاولات جديدة أثناء قمة دلهي للتطرق إلى قضية تسوية النزاع، ولكن وزير الخارجية الروسي لافروف قد أوضح أن بلاده لن تسمح بأي ذكر للنزاع في إعلان دلهي.

التنافس على أفريقيا

وفي ظل وجود كثير من العقبات، ما الذي يمكن أن تحققه الهند خلال هذه القمة؟ ستعلن الهند عن انضمام الاتحاد الأفريقي، وذلك في الوثيقة الختامية لقمة مجموعة العشرين في دلهي؛ إذ تتنافس جميع الدول تقريبا لجذب الاتحاد الأفريقي. ومن المتوقع أن تكون هناك اجتماعات كثيرة مع ممثلي الاتحاد البالغ عددهم 55 عضوا خلال قمة دلهي. ويعتقد أن المستشار الألماني أولاف شولتس يرتّب أيضا لاجتماعات مع بعض الدول الهامة من أفريقيا.

ومن المثير للاهتمام أن إثيوبيا، الدولة الوحيدة في أفريقيا التي لم تتعرض للاستعمار وتضم مقر الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا، انضمت إلى مجموعة بريكس.

ومن الواضح جدا أن هناك محاولات لجذب الاتحاد الأفريقي من قبل كلا الحلفين، ويظهر هذا الحرص جليا في قمة مجموعة العشرين. ويعزى ذلك أيضا إلى حقيقة أن الدول في منطقة الساحل في أفريقيا- حيث تقع النيجر ومالي- تتخلص من نير الاستعمار الفرنسي وتتجه نحو علاقات أوثق مع الصين وروسيا. وكانت موسكو نظمت في وقت سابق من هذا العام، اتصالا مع الاتحاد الأفريقي في سان بطرسبرغ وقالت إن الوقت حان لانضمام الاتحاد الأفريقي إلى مجموعة العشرين، أسوة بالاتحاد الأوروبي.

AFP
رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي (إلى اليمين) والرئيس النيجيري بولا أحمد تينوبو يتصافحان قبل قمة قادة مجموعة العشرين في نيودلهي في 9 سبتمبر 2023

وخلال العام الماضي وحده، نظمت الحكومة الهندية أكثر من 200 حدث بتكلفة تزيد على 100 مليون دولار في مدن متنوعة في البلاد بهدف استضافة الدبلوماسيين وإشراكهم. ومع ذلك، لا تزال إمكانية الوصول إلى توافق بشأن إعلان مشترك فيما يتعلق بالشؤون الخارجية والاقتصاد بعيد المنال بالنسبة للهند، نظرا لعدم رغبة روسيا والصين في ذكر أوكرانيا بأي شكل من الأشكال؛ إذ أصرت روسيا على أن الولايات المتحدة وأوروبا تريدان إدخال السياسة في منتدى أنشئ أساسا لمواجهة قضايا اقتصادية. بينما تصر القوى الأوروبية على أن الحرب في أوكرانيا زعزعت الاقتصاد العالمي، لذلك يجب مناقشة الحرب في اجتماع قمة مجموعة العشرين. ولذا، فإن المجالات التي يمكن أن يجد فيها مندوب الهند، أميتاب كانت، توافقا بين الدول، ستنحصر في التكنولوجيا والتحول الرقمي وتغير المناخ.

هل يمكن أن يسبب احتمال عدم التوصل إلى إعلان مشترك وغياب الرئيس الصيني شي جين بينغ، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عن الحدث، قلقا لرئيس الوزراء الهندي مودي الذي يهتم كثيرا بصورته؟ لا يبدو ذلك، نظرا إلى تحركاته وجهوده النشطة. ولا يزال رئيس الوزراء مودي يرغب في تحويل هذا الحدث إلى استعراض لشعبيته أمام العالم، والتي ظهرت جليّة في استطلاعات الرأي التي أجراها مركز بيو.

وسيفاخر الزعيم الهندي أيضا بتعامله مع زعماء العالم مثل الرئيس جو بايدن، ورئيس وزراء المملكة المتحدة ريشي سوناك، الأمر الذي سيوفر محتوى مهما لحملته الانتخابية القادمة. ولكن الوقت وحده كفيل بتحديد ما إذا كان هذا الحفل الضخم سيرفع من حظوظ رئيس الوزراء مودي الذي سيبدأ حملة جديدة للحصول على ولاية أخرى في غضون بضعة أشهر من الآن في مايو/أيار 2024.

font change

مقالات ذات صلة