تذهب دراسات أكاديمية حديثة إلى أن استئناس الجمل العربي هو العامل الأهم في النقلة الحضارية الكبرى خلال "العصر الحديدي" (من 1200 إلى 500 قبل الميلاد)، فبواسطته بات زمن الانتقال برا من اليمن والخليج إلى بلاد الشام لا يتجاوز الشهر الواحد، بعدما كان قبل ذلك ضربا من المستحيل، وأصبح نقل البضائع أضعاف أضعاف ما كانت وسائل النقل السابقة تستطيعه، وبذلك ازدهرت حضارة ومدن اليمن القديم، وطوّرت منتوجاتها العطرية التي أغرقت أسواق العالم في ذلك الوقت، من بابل وآشور شرقا، إلى جزر ومدن اليونان والرومان غربا، فنشأ نوع من التقاسم الوظيفي بين الممالك المنتجة للبخور واللبان والمرّ في جنوب الجزيرة العربية، وبين القبائل البدوية التي كانت تذرع الفيافي بإبلها، فنشأت مدن القوافل وازدهرت كمحطات تجارية وأسواق وتدفقت العائدات المالية على الجميع فغدا العرب من أغنى أمم الأرض في تلك الأزمنة.
الجمل العملاق
سادت لسنوات طويلة نظرية المنشأ الأميركي للجمال في الأوساط الأكاديمية والبحثية الغربية، وأنها انتقلت عبر مضيق "بيرينغ" إلى آسيا والصين على وجه التحديد، قبل أن تعبر إلى شمال أفريقيا قبل عشرة آلاف عام أو أكثر، مع نهاية العصر الجليدي الأخير. لكن اكتشافات موقع حوض الكوم في البادية السورية قرب تدمر، أثبتت أصالة وجود الجمل في هذه المنطقة منذ العصور السحيقة، حيث بيّنت مكتشفات البعثة السويسرية وجود بقايا إبل تعود إلى أكثر من 400 ألف سنة. الأكثر إثارة هو العثور على بقايا عظام الجمل العملاق في طبقة تعود إلى "الحقبة الموستيرية" أي في الفترة ما بين 120 ألف عام و80 ألف عام قبل الميلاد.
موقع النقوش الصخرية في الشويمس
يقول البروفسور جون ماري لوتانسورر، رئيس الجانب السويسري في البعثة الأثرية السورية السويسرية في منطقة الكوم: "عند العثور على القطعة الأولى لهذا الجمل العملاق اعتقدنا أن الأمر يتعلق بهيكل عظمي لزرافة نظرا لضخامته، لكننا تأكدنا في ما بعد أن الأمر يتعلق بعظام جمل يفوق حجم أكبر الجمال العادية بمرة ونصف مرة أو مرتين".ورأى عالم الآثار السويسري أن "هذا الاكتشاف يعدّ أهم اكتشاف نعثر عليه إذ يتعلّق الأمر بصنف حيواني جديد من فصيلة الجمال، وأن هذا يعني أن هناك مناطق وحقبا زمنية في المنطقة، لم يتم التنقيب فيها وإلا لكنا عثرنا على بقايا هذا الجمل في مناطق أخرى، من المؤكد أنها كانت أساسية ومركزية لتطور الجمال بكل أصنافها".
استئناس الجمل
على الرغم من قدم وجود الجمل في الصحراء العربية، إلا أن استئناسه لم يقع إلا قبل ثلاثة آلاف عام، بحسب نتائج البحوث الآثارية والتاريخية. إذ أن أقدم لوحة تمثّل جملا مستأنسا، عليه شداد وراكب، اكتشفت في موقع تل حلف في الجزيرة الفراتية، وتعود إلى أواخر الألفية الثانية ومطالع الألفية الأولى قبل الميلاد، وهي تمثل تاجرا عربيا. أما أقدم ذكر للجمل فيعود إلى منتصف القرن التاسع قبل الميلاد حين عدّد الملك الآشوري شلمنصر الثالث (حكم من 858-823 ق.م) القوات التي واجهها في معركة قرقر، حيث أكّد أن ملك العرب جندب، أو جنديبو بحسب الكتابة الآكادية، كان يقود جيشه المكوّن من مشاة وراكبي جمال.
ثراء فاحش
ارتبط العرب في مخيلة الشعوب المجاورة لهم بالثراء الفاحش والغموض، إذ كانوا ينقلون البضائع الثمينة على ظهور الجمال، عبر طرق عرفوها جيدا وخبروا أسرارها، فكوّنوا ثروات طائلة جرَّت عليهم حسد جيرانهم الآشوريين. وكان الآشوريون يراقبون غنى العرب الفاحش من بعيد، فيغيرون عليهم ويسطون على قوافلهم القادمة من محطات التوزيع على سواحل الخليج، ومن مدن الجنوب العربي، في اتجاه المناطق المحاذية لمواضع نفوذهم، من الصحراء الممتدة إلى الغرب من بابل إلى تدمر وسط البادية السورية.ولم يكن الآشوريون يكتفون بنهب تجارة العرب، بل كانوا يأخذون الملوك وأبناءهم وأنصابهم رهائن، ولا يفرجون عنهم إلاَّ بدفع أتاوات باهظة.
وتخبرنا حولية تغلات فلاصر الثالث (حكم من 745- 727 ق.م) ذات الرقم(III A) عن نوعية الأتاوات التي كان يتقاضاها ذلك الملك الآشوري من ملكة العرب زبيبي (زبيبة) التي كان شعبها يسيطر على الواحات والمحطات التجارية الممتدة من شمال الخليج إلى دومة الجندل، فحوران وتدمر، وصولا إلى بادية حلب شمالا.
موقع النقوش الصخرية في الشويمس
وكانت هذه الأتاوات تتكوّن من "الذهب والفضة والرصاص والحديد وجلود الفيلة والعاج والقماش الملون والكتان والأرجوان الأزرق والأحمر والخشب المستوي وخشب القيف النفيس، وكافة أصناف الخزائن الملكية الثمينة، ونعاج حية صوفها لونه أرجواني أحمر، وطيور السماء ذات الأجنحة الزرقاء، وجياد وبغال وأبقار وقطعان ماشية، وجمال ونوق مع صغارها تسلم سنويا في أشوريا".
ويذكر الملك الآشوري أسرحدون في نص مكتوب عام 676 ق.م، أنه فرض أتاوة على ملك العرب يثع بن حزائيل، "عشرة مانا من الذهب و1000 حجر كريم و50 جملا و100 حزمة من البخور، أضفتها على أتاوة أبيه حزائيل".
حملات بابلية
ومع أن بعض العرب انضووا تحت السيادة الآشورية، إلا أن الغالبية الساحقة منهم لم تفرّط بحريتها، ولا بسيطرتها على أسرار الطريق التجارية في مجاهل الصحراء الممتدّة، وقد حفظ لنا ملكان بابليان من سلالة الكلدانيين أخبارا عن حملتين لهما على شمال الجزيرة العربية، هما نابو كادورو (نبوخذ نصر) ونابو نيد، في محاولة للقبض على أسرار تجارة العرب المربحة، التي كانت تستهلك مبالغ طائلة من خزائن ممالك العالم القديم.