النهوض الهندي وقمة العشرين... 6 قضايا للمتابعة

AFP
AFP

النهوض الهندي وقمة العشرين... 6 قضايا للمتابعة

وضع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي على المائدة أمامه كلمة "بهارات" للتعريف ببلده أثناء اجتماعات قمة الدول العشرين الأخيرة في نيودلهي، كتأكيد على تمسكه بما يقول إنه مرحلة جديدة من تاريخ الهند تؤكد نهوضها وابتعادها عن ماضيها المثقل بالعوائق والاضطرابات.

وحري بالهند الاحتفال بما حققته في الأعوام القليلة الماضية من عودة قوية إلى الساحة الدولية والإصرار على سياسة خارجية مستقلة تسير بين ألغام الاستقطاب العالمي المتفاقم بين الولايات المتحدة والصين، والذي جاءت الحرب الروسية في أوكرانيا لتزيد من اشتعال نيرانه. وباتت معروفةً الإنجازات الهندية الأخيرة التي سعى مودي إلى إظهارها أثناء الاستعدادات لاجتماعات قمة العشرين والتي أرادها تكريسا لنهوض الهند وإسقاطها للصور النمطية التي أحاطت بها منذ عقود.

صحيح أن اعتماد اسم "بهارات" للهند لم يصبح نهائيا بعد، وأنه ناجم في الأصل عن المنافسة بين حزب "بهاراتيا جناتا" الحاكم، والمعارضة التي شكلت قبل شهور قليلة ائتلافا يحمل اسم "إنديا" (الهند) وصحيح أيضا أن سياسة مودي تشدد على التخلص من "الإرث الاستعماري" الذي جاء اسم الهند منه، بما فيه الإرث الإسلامي الذي يزيد على ألف عام، وساهم في رسم وجه الهند الحالي من خلال إمبراطوريات عدة أهمها الإمبراطورية الموغلية (أو المغولية) إلا أن العامل الداخلي يسير يدا بيد مع الانفتاح على الخارج والبحث عن مكان تحت شمس العالم الذي يغلي بتغييرات ترى نيودلهي فيها فرصة لإثبات الذات والحضور.

AFP
رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي وامامه كلمة "بهارات" للتعريف ببلده بدلا من الهند اثناء جلسة العمل الثانية لقمة العشرين في نيودلهي في 9 سبتمبر

مقابل الإنجازات المعروفة في مجال السياسة الخارجية والتقدم العلمي والتكنولوجي وآخره هبوط مركبة هندية على القطب الجنوبي للقمر في خطوة فشلت فيها دول تمتلك تراثا عريقا في استكشاف الفضاء، تواجه الهند عددا من القضايا التي تستحق المتابعة والتي قد تشكل عوائق كبيرة أمام تحقيق رؤاها والوصول إلى أهدافها المستقبلية. هنا سرد لها.

1- الحصة من السوق العالمية: وصلت الهند إلى المرتبة الخامسة في إجمالي الناتج المحلي مع 3.74 تريليون دولار متقدمة بذلك على بريطانيا وفرنسا. بيد أن المنافسة على حصة من الاقتصاد العالمي لن تكون سهلة، خصوصا أن على الهند العثور على المجال الذي يمكن أن تتفوق فيه إضافة إلى إدخال تغييرات عميقة في قواها العاملة التي لا زال 59 في المئة منها يعمل في القطاع الزراعي الذي تتراجع مساهمته في الاقتصاد الهندي؛ فعلى سبيل المثال، وعلى الرغم من الشهرة الكبيرة التي تحظى الهند بها كبلد يعج بالكفاءات المتقدمة في مجال برمجة الكمبيوتر والاتصالات بفضل انتهاجها سياسة تعليمية ركزت على التكنولوجيا والهندسة، إلا أنها تفتقر إلى القدرة على إنتاج الرقائق الإلكترونية المتطورة التي لا زالت الصين والولايات المتحدة وتايوان تحتل مراكزها الأولى.

حري بالهند الاحتفال بما حققته في الأعوام القليلة الماضية من عودة قوية إلى الساحة الدولية والإصرار على سياسة خارجية مستقلة تسير بين ألغام الاستقطاب العالمي المتفاقم بين الولايات المتحدة والصين، والذي جاءت الحرب الروسية في أوكرانيا لتزيد من اشتعال نيرانه

يضاف إلى ذلك أن النظر إلى لائحة الصادرات الهندية يفيد بوجود عدد كبير من السلع التحويلية والخفيفة كالملابس والنسيج والآليات منخفضة الأسعار، وهو ما يعني أن القيمة المضافة للسلع هذه ضئيلة، مقارنة مع تلك التي تصدرها الصين أو أوروبا أو المعتمدة على براءات الاختراع مثل تلك الأميركية. الانتقال إلى اقتصاد المعرفة مهمة شاقة تنتظر الهند. 

2 -  النظام السياسي: ثمة من يحذر من أن التغييرات التي يعتزم مودي و"بهاراتيا جناتا" إدخالها إلى طبيعة الحكم في البلاد، ستجعل من الهند "باكستان ثانية" بمعنى تفتيت قدرة المركز على إدارة شؤون دولة فيدرالية شاسعة ومعقدة التركيب الاجتماعي والسياسي ما يفتح المجال أمام صعود قوى لا تؤمن بتداول السلطة دوريا. ويبدو أن إزالة آثار الاستعمار ورموزه من خلال تغيير أسماء بريطانية وإسلامية (حيث يصنف القوميون الهنود الحكم الذي أقامه المسلمون في أنحاء من الهند ضمن الاستعمار)، سيف ذو حدين؛ فهو إذ يرفع من الحمية الوطنية ويدعو إلى استعادة الهند كرامتها من خلال العودة إلى تاريخها المجيد، يدفع في الوقت ذاته إلى تعميق التناقضات الداخلية بين الهندوس والمسلمين. ولعل من الدروس الأولى في كتب إقامة "الأنظمة القوية" اختيار أقلية، قومية أو دينية أو سياسية وتصويرها كدخيلة على المجتمع النقي الذي لوثه "الأغيار" الساعون إلى إبقائه متخلفا. 
غني عن البيان أن المسؤولين الهنود ينفون في كل مناسبة وتصريح وجود أي تمييز بين المواطنين الهنود. لكن، وبغض النظر عن حالات الاضطهاد التي يتعرض لها المسلمون، فإن البنية الاجتماعية الهندية التقليدية بنظام طوائفها وطبقاتها، قد تسهل قيام نظام قومي متشدد وهو ما يغض الغرب النظر عنه حاليا في سعيه إلى كسب ود الهند الجديدة.
 
3 – بناء على ما يتعلق بالبنية الاجتماعية الهندية، ينبغي ملاحظة كيفية توزيع الثروات خصوصا الناتجة عن النشاط الاقتصادي المستجد في مجالات الصناعات والتصدير. ففي تقرير أصدرته منظمة "أوكسفام" مطلع العام الحالي، جاء أن  40.5 في المئة من الثروة كان يتركز في العام 2021 بيد واحد في المئة من السكان، في حين أن القسم الأكبر من المواطنين يعجز عن تحصيل ضروراته الحياتية على الرغم من أن 64 في المئة من الضرائب على السلع والخدمات تأتي من الفقراء. 
ما دخل هذا بمشروع نهوض الهند؟ فالعالم اعتاد على الفوارق الهائلة في الدخل وهو ما لم يعق صعود عمالقة الاقتصاد. تتعين ملاحظة أن اعتماد النظام الديمقراطي في الهند يفترض مشاركة واسعة في العملية السياسية على نحو يسمح بتجديد النخب الحاكمة ويتلاءم مع تطور الاقتصاد. بقاء الفارق الشاسع بين الأغنياء والفقراء يعيق ظهور الطبقة الوسطى التي تشكل مكمن التفاعلات الكبيرة في عملية النهوض الاقتصادي. ولعل ظاهرة تزايد عدد أصحاب المليارات في الهند لا يقدم صورة وافية عن حقيقة أن دينامو النمو لا يقع عندهم بل في أوساط الفئات المتوسطة التي تستهلك السلع والخدمات والتي تتمتع بتأهيل علمي يناسب سوق عمل دولي شديد التنافسية. 

4- يجدر إجراء مقارنة هنا مع الصين المجاورة والتي سبقت الهند بالنهوض في ثمانينات القرن الماضي. الملاحظة الأولى أن الصين يحكمها حزب يؤمن بالمركزية الشديدة في القرارات الكبرى. تحرير الاقتصاد جرى بقرار حزبي على يد الأمين العام الأسبق دينغ كسياو بينغ الذي أجاب مرة عن سؤال يتعلق بالطبيعة الاشتراكية للنظام الصيني بالقول: "لا يهم إذا كان لون القطة أسود أم أبيض. المهم أن تصطاد الفئران". أي إن الاشتراكية أو الرأسمالية هما أداتان لتحقيق هدف واحد هو إبعاد شبح الفقر عن الصينيين. 

AFP
عدد من قادة مجموعة العشرين اثناء زيارة ضريح المهاتما غاندي في راج غات في 10 سبتمبر


في الهند النظام لا مركزي ولا يمكن التحكم في الكثير من توجهات الولايات من خلال قرار يتخذ في العاصمة، خلافا للصين. يضاف إلى ذلك أن الصين تعاني حاليا من أزمات عدة تسبب النظام القائم على حصر السلطة في الحزب الشيوعي وأمينه العام في كثير منها. كما أن انخفاض عدد السكان الذي سجل في الأعوام القليلة الماضية جاء بسبب سياسة الطفل الواحد التي فرضها الحزب في مراحل سابقة للحيلولة دون الانفجار السكاني. وقد عاد هذا القرار اليوم ليطرح على الصين مشكلات كبيرة في مجالات الأعباء التي تشكلها شيخوخة السكان والحاجة إلى قوى عاملة شابة وما شابه. 
 

تخوض الهند اشتباكين استراتيجيين معقدين وطويلي المدى مع باكستان والصين. وتتشابك المعطيات التاريخية والدينية والاقتصادية والحدودية في كل من الملفين الصيني والباكستاني

قضية التمثيل السياسي واختلافها بين البلدين، لا تقل أهمية. فاحتكار بيروقراطية الحزب الشيوعي الصيني للمفاصل الرئيسة في السلطة تسبب في سيادة رؤية واحدة إلى السبيل الذي ينبغي أن تسلكه البلاد من أجل الوصول إلى الرفاهية والتقدم. وعلى الرغم من النجاحات الضخمة التي حققتها هذه الرؤية، إلا أنها تبقى في معزل عن المراجعة الدورية والتعديل الضروريين في كل مجتمع بشري متحرك. وفي المقابل، ليس في الهند بيروقراطية حزبية متحكمة بالسلطة لكن المبالغة في تصوير مودي كمخلص للهند وكمؤسس جديد لها، قد يقود إلى نتائج عكسية. 

5- تخوض الهند اشتباكين استراتيجيين معقدين وطويلي المدى مع باكستان والصين. وتتشابك المعطيات التاريخية والدينية والاقتصادية والحدودية في كل من الملفين الصيني والباكستاني. يمثل هذان الاشتباكان عنصري توتر دائمين مع جارتي الهند ويخلقان مناخا قد لا يكون مواتيا لمشاريع تنموية كبرى كالتي تطمح الهند إليها حاليا. 
باكستان والصين دولتان نوويتان ولديهما خلافات حدودية مع الهند. وخاضت الصين حربا ضد الهند في 1962، وتستمر الاشتباكات بوتيرة متقطعة في مرتفعات الهمالايا. كما تواجهت الهند وباكستان في عدد من الحروب والمعارك منذ 1947. ويشكل ذلك معطى قد يطغى على المشهد الإقليمي والدولي على الرغم من محاولات التطويق والمصالحة. وقد يضع علامات استفهام على إمكان تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى الهند التي تريد أن تحافظ على استقلال قرارها السياسي، من جهة، والاستفادة من الاستقطاب الصيني الأميركي من جهة ثانية في تحصيل مكاسب اقتصادية مهمة. 

AFP
سياح يتجهون الى تاج محل في اغرا في 9 سبتمبر

6- أخيرا، وعلى الرغم من عمل الهند على تغيير صورتها، إلا أنها لا زالت متمسكة بأداء دور المتحدث باسم "الجنوب العالمي" في وجه الهيمنة الغربية. كما أن إصرارها على ضم الاتحاد الأفريقي إلى مجموعة العشرين أسوة بالاتحاد الأوروبي، دليل أخير على ذلك. وليست قليلة تلك المواقف التي اتخذ فيها ممثلو الهند دور المدافع عن مصالح ووجهات نظر العالم الثالث في كثير من المفاوضات العالمية، سواء تعلقت بالتغير المناخي أو بمعالجة مشكلات ديون الدول الفقيرة أو التعويض عن النهب الاستعماري. 
"الجنوب العالمي" عثر مع الهند على صوته الأكثر فصاحة وشجاعة. لكن إلى أي مدى سيصل التطابق بين مصالح الهند التي تتحول إلى لاعب دولي كبير وباقي دول الجنوب؟ 

القضايا هذه تشكل بعض أبرز ما يواجهه مشروع النهوض الهندي الذي كانت قمة مجموعة الدول العشرين استعراضا له، ومثّل الإعلان عن الممرات التجارية التي تصل الهند بأوروبا إنجازا كبيرا في مواجهة مشروع "الحزام والطريق" الصيني، خصوصا أن الممرات بين الهند وأوروبا نالت مباركة الغرب على ما يبدو. والسؤال مباح عمن يمتلك الفرص الأكبر في النجاح ورسم وجه الأعوام المقبلة من القرن الحادي والعشرين.

font change

مقالات ذات صلة