وثائقي يستكشف أسرار العمر الطويل: دروس من الطبيعة

عوامل مشتركة تساهم في الوصول إلى شيخوخة سعيدة

وثائقي يستكشف أسرار العمر الطويل: دروس من الطبيعة

يعكف الأطباء وعلماء البيولوجيا والوراثة، عادة، على صوغ نظرياتهم، التي قد تصلح وصفات لإطالة العمر، في المختبرات ومراكز الأبحاث ووسط "الميكروسكوبات" وأنابيب التحليل، لكن الكاتب والمستكشف الأميركي دان بيوتنر يعكس المعادلة، إذ يهجر المختبرات والمكاتب المرفهة، ويضع جميع النظريات العلمية جانبا، لينطلق في جولات ميدانية في عدد من المناطق، سميت بـ"المناطق الزرقاء" تضم أكبر عدد من المعمرين في العالم، ساعيا لاستنتاج نظريات أو نصائح قد تفيد في إطالة العمر.

لا يزعم بيوتنر، في سلسلته الوثائقية المكونة من أربع حلقات، وعنوانها "العيش لمئة عام: أسرار المناطق الزرقاء" (Live to 100: Secrets of the Blue Zones) أن الخلاصات التي توصل إليها، خلال رحلاته بين المجتمعات التي يتمتع سكانها بالصحة والعمر المديد، هي حقائق علمية ثابتة، بل هي استنتاجات خلص إليها لدى رصده نمط حياة المعمّرين الذين لم يخطّطوا، أصلا، لأي نظام صحي قد يمدّد أعمارهم، فجل ما فعلوه هو أنهم ظلوا أوفياء لـ"فطرة الطبيعة" ولنمط المعيشة في بيئاتهم المختلفة، ثم وجدوا أنفسهم وقد بلغوا من العمر عتيا، من دون أن يطلع أحدهم على تلك الوصفات الجاهزة، التي تنجز في المختبرات، وتبشر بطول العمر.

من هنا نقرأ في بداية السلسلة الوثائقية، التي يتولى إخراجها كلاي جيتر، وبدأت "نتفليكس" بعرضها، عبارة استهلالية تقول: "المسلسل منتج بغرض الترفيه والتوعية، وليس لتقديم مشورة طبية أو صحية. استشر الطبيب دائما في شأن صحتك الشخصية"، ومثل هذه الملاحظة لا تعفي بيوتنر من التقيد باللوائح الصحية الصارمة فحسب، بل تتيح له كذلك مساحة واسعة لقول ما يشاء في شأن مسألة حساسة طبيا، وهي أسرار طول العمر، من دون أي حرج أو مسؤولية، تاركا لمتلقيه أن يفسروا ما يقدمه بطريقتهم الخاصة، دون أن يلزمهم شيئا.

 هناك خمس "مناطق زرقاء" في العالم يكثر فيها المعمّرون، وهي سردينيا وأوكيناوا، وجزيرة إيكاريا اليونانية، وشبه جزيرة نيكويا، في كوستاريكا بأميركا الوسطى، ومدينة لوما ليندا في ولاية كاليفورنيا


وفقا لهذا الاتفاق المعلن مع المتلقي، يخوض بيوتنر مغامرة شيّقة ومتعمّقة في مناطق عدة حول العالم يكثر فيها المعمّرون، اصطلح على تسميتها بـ"المناطق الزرقاء"، وهو مصطلح صاغه للمرة الأولى، منذ نحو عقدين، عالم الأوبئة الإيطالي جياني بيس، والباحث البلجيكي في علم السكان مايكل بولين، للإشارة إلى المناطق التي يعيش سكانها أعمارا أطول من المعتاد.

 

الحبر الأزرق

وكان العالمان قد اكتشفا في مقاطعة نورو بجزيرة سردينيا الايطالية أن نسبة عالية من الأشخاص المعمرين يعيشون في العديد من القرى الجبلية التابعة لهذه المقاطعة، وبعد تحديدهم منطقة تجمع هذه القرى قاما بتمييزها على الخريطة بنقاط باستخدام الحبر الزرق لتنتج من ذلك بقعة زرقاء على الخريطة سميت بـ"المنطقة الزرقاء"، لتمييزها عن سواها من المناطق، وسرعان ما شاع المصطلح في كتابات دان بيوتنر، وتبنته كذلك منظمة "ناشيونال جيوغرافيك" (تأسست العام 1888) في مطبوعاتها المختلفة وأفلامها.

الآن، هناك خمس "مناطق زرقاء" في العالم، هي إضافة إلى سردينيا الإيطالية، جزيرة أوكيناوا اليابانية، وجزيرة إيكاريا اليونانية في شمال شرق بحر إيجة، وشبه جزيرة نيكويا، في كوستاريكا بأميركا الوسطى، ومدينة لوما ليندا الأميركية في ولاية كاليفورنيا.

هذه المناطق الخمس المتباعدة جغرافيا، هي محور هذه السلسلة الوثائقية، التي يزورها بيوتنر، حيث يقوده فضوله إلى "التلصص" على يوميات سكانها، ويتشارك معهم أنشطتهم ونزهاتهم وجلساتهم، ويمضي معهم نحو الحقول والدروب والمنحدرات والشواطئ، ويدخل إلى المطابخ ليتعرّف إلى محتوياتها، ويخوض مع المعمّرين أحاديث لا تخلو من الطرافة والخفة، لينتزع، في غضون ذلك، أجوبة عفوية تعينه على كشف بعض أسرار وصولهم الى سن المئة وهم في صحة جيدة.

يحرص بيوتنر خلال زياراته على الابتعاد عن الرسميات، إذ يظهر فردا من أفراد عائلات هؤلاء المعمّرين الباسمين دوما والمفعمين بالحيوية والنشاط، والذين يسترسلون في أحاديث ودّية تعكس بساطة الحياة الطويلة التي أمضوها في مشاغل يومية، ولا يزالون يواظبون على إنجازها دون تأفّف، فيما ترصد الكاميرا، خلال ذلك، سحر الأمكنة وبهاء الطبيعة راسمة "مشهدية بصرية" حافلة بكل عناصر الجمال، لا نملّ من مشاهدتها في تلك البقاع الموزعة على جغرافيا الكرة الارضية من الأميركيتين مرورا بالمتوسط وصولا إلى الارخبيل الياباني البعيد.

وعلى الرغم من أن هذه البيئات، التي منحت سكانها "العمر المديد"، متباينة في تضاريسها ومناخها وخصوصيتها الجغرافية، من القرى الجبلية إلى زرقة الشواطئ في بعض الأمكنة وصولا إلى "الحاضرة الحداثية" مثل مدينة لوما ليندا في الولايات المتحدة، إلا أن هذه "المناطق الزرقاء" تشترك في كونها مناطق مشمسة وجيدة التهوية، وبعيدة عن التلوث، فضلا عن انتشار اللون الأخضر في كل بقعة، فتبدو تلك المناطق منتجعات مفتوحة في الهواء الطلق، وهو ما يعيد إلى الاذهان مفهوم "الاستشفاء بالطبيعة"، أحد أنواع الطب البديل الذي ظهرت أبحاث كثيرة في شأنه تتحدث عن مزاياه.

 

النظام الغذائي

تتميز "المناطق الزرقاء" بنظم غذائية صحية تعتمد على النباتات والخضروات والبقوليات والفاكهة والأطعمة الغنية بالألياف والكربوهيدرات الجيدة، وتقليل اللحوم، مع غياب تام للأطعمة المصنعة والمعلبة والوجبات الجاهزة، بل أن معظم ما يتناوله سكان تلك المناطق هو مما يزرعونه بأنفسهم، ولوحظ أن أكثر سكان هذه المناطق يأكلون باعتدال، إذ يتبع كبار السن في أوكيناوا، على سبيل المثل، حمية قائمة على عدم الأكل الى حد الإشباع والتخمة، وهو ما يعني استهلاك سعرات حرارية أقل، إذ تقول الدراسات الطبية "إن تقييد السعرات الحرارية يساهم في الحد من أخطار حدوث طفرات وراثية وتلف الحمض النووي، الذي قد يؤدي إلى الإصابة بالسرطان".

وإذا كان النظام الغذاء الصحي قد غدا من البديهيات، فلا تكاد تخلو دراسة عن أسرار تأخير الشيخوخة من الإشارة الى أهمية هذا النظام، فإن أسرار المناطق الزرقاء في ما يتعلق بالعمر الطويل، لا يمكن أن تقتصر على مسألة النظام الصحي، بل ثمة عوامل أكثر أهمية تمضي السلسلة في كشفها.

 

الرياضة بوصفها واجبا يوميا

لا تمارس الرياضة في المناطق الزرقاء وفقا لبرامج ومواعيد محدّدة في الصالات المغلقة، ولا تقام وفقا لقواعد يوصي بها المختصون في هذه المسألة، فرياضة سكان المناطق الزرقاء تتجلّى في تنقلاتهم ومشاغلهم اليومية، من أعمال البستنة وسقاية ورود ونباتات الحديقة، ورعي المواشي في السفوح، كما هي الحال في القرى الجبلية بسردينيا، وتحضير الطعام دون الاستعانة بأجهزة كهربائية مثلما يحدث في الجزيرة اليونانية، والقيام بحرف يدوية وأعمال تطوعية تتطلب الحركة، والذهاب سيرا أو على الدراجة الهوائية إلى الوظيفة أو للتسوق... هذه الواجبات اليومية هي التي توفر لسكان تلك المناطق "فسحة رياضية" تتيح لهم الحفاظ على لياقتهم البدنية، من دون تخطيط مسبق.

 

العامل النفسي والجانب الروحاني

لا مجال للتوتر والضغوط في مجتمعات المناطق الزرقاء، بل ثمة نوع من التوازن النفسي تفرضه طبيعة الحياة البسيطة والمتقشفة، والعامرة، في الآن ذاته، بـالهواء والضوء، فلا أحد ثريّاً بين سكان المناطق الزرقاء ولا يملكون أرصدة في البنوك، ولا يخشون على أية استثمارات أو مشاريع تجارية قد تتعرّض للإفلاس، فما يملكونه هو رصيد معنوي واسع من الترابط الاجتماعي والأسري ورعاية المسنين، يساهم في الحد من آثار الضغوط النفسية، كما أن هذه البيئات النائية عن صخب الحياة المعاصرة، تشجّع أفرادها على عقد صداقات وقضاء الأوقات الممتعة معا، بأبسط الامكانات.

إلى جانب العامل النفسي المهم في مسألة طول العمر، ثمة كذلك جانب آخر مرتبط بسابقه، هو الجانب الروحاني والديني الذي تركّز عليه هذه السلسلة، بوصفه من الركائز الأساسية التي تساهم في إطالة الأعمار، ذلك أن الانتماء الديني يمنح بدوره صفاء ذهنيا وروحيا ونفسيا، ويقوي الروابط الاجتماعية.

تتميز "المناطق الزرقاء" بنظم غذائية صحية تعتمد على النباتات والخضروات والبقوليات والفاكهة والأطعمة الغنية بالألياف والكربوهيدرات الجيدة، وتقليل اللحوم، مع غياب تام للأطعمة المصنعة والمعلبة والوجبات الجاهزة

ما يجمع سكان المناطق الزرقاء هو الايمان بعقيدة دينية، بصرف النظر عن اختلافاتها، إذ ينتمي معظم سكان لوما ليندا الأميركية الى طائفة "السبتيين" (فرع من المسيحية البروتستانتية)، في حين أن سكان نيكويا الإكوادورية وسردينيا الإيطالية كاثوليك، وسكان إيكاريا اليونانية من الأرثوذكس، بينما يمارس سكان أوكيناوا اليابانية طقوسا دينية سائدة في جزيرة ريوكو قائمة على تبجيل الأجداد وتوقير العلاقات بين الأحياء والأموات.

تساهم هذه الممارسات والطقوس الدينية، بصرف النظر عن تفاصيلها، في تقوية العلاقات الاجتماعية، وتُشعر معتنقيها بأن لهم هدفا في هذه الحياة، وتحثهم على الترفّع عن الصغائر، وتجعلهم في حالة نفسية ومزاجية رائقة، وتمنحهم السكينة والهدوء والتأمّل، فتقلّ لديهم مستويات الاكتئاب وأمراض القلب والشرايين، وهي كلها عناصر لا بد أن تكون مجدية حين يتعلق الأمر بطول العمر.

 

تجربة سنغافورة

وإذا كانت العادات والطقوس والقواعد التي يتبعها سكان المناطق الزرقاء متأصّلة في طبيعة الحياة اليومية، ونابعة من ثقافة المكان، وقد فرضتها التقاليد المتوارثة، عبر مئات السنين، فهل يمكن تطبيق تلك القواعد والعادات، بشكل متعمّد، في مناطق أخرى، كي تصبح شبيهة بـ"المناطق الزرقاء"؟

يردّ بيوتنر على هذا السؤال بالإيجاب، ويأخذ من تجربة سنغافورة مثلا ناجحا على ذلك.

فقد شهدت سنغافورة الواقعة جنوب شرق آسيا، التي يبلغ عدد سكانها نحو ستة ملايين، ارتفاع متوسط العمر المتوقع بمقدار 20 عاما منذ عام 1960 ليصل، في الوقت الحالي، إلى نحو  83 عاما وهو من بين الأعلى على مستوى العالم.

ووفقا لهذه السلسلة الوثائقية، فإن سنغافورة تعتبر من "المناطق الزرقاء الهندسية"، بمعنى أنها وضعت سياسات سكانية وعمرانية واجتماعية، ساهمت في رفع معدل الأعمار.

تجسّدت هذه السياسات عبر إجراءات عدة، إذ وفرت السلطات في الدولة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 719 كم مربع مسارات وممرات مناسبة للمشي، وفرضت ضرائب باهظة على السيارات، وحفّزت السكان على شراء الطعام الصحي الذي يحظى بالدعم الرسمي، فيما فرضت الضرائب على الوجبات السريعة.

واتبعت سنغافورة كذلك سياسات سكانية ساهمت في تقوية الروابط العائلية، فإذا اهتم أحدهم بأبويه المسنّين، واعتنى بهما في منزله أو بالقرب منه في منزل مستقل بحيث يستطيع رعايتهما، فسيحصل على إعفاء ضريبي، وهو إجراء يقلّل دور رعاية المسنّين المضرّة بنفسيتهم، وبالتالي يقلّل الإنفاق الحكومي على هذا القطاع.

font change

مقالات ذات صلة