لندن: تظهر الرسامة الإثيوبية جولي مهريتو التي تقيم "قاعة وايت كيوب" بلندن معرضا جديدا لأعمالها، من خلال أسلوب تصويري هو مزيج من أساليب رسامين، كانت قد أعجبت بهم وتأثرت برسومهم. غير أنه المزيج الذي لا يكشف بيسر عن العناصر التي يتكوّن منها. نجحت الرسامة ببراعة في إخفاء تلك التأثيرات وكأنها في ذلك تنفذ وصية الفرنسي هنري ماتيس حين عرّف الرسام بأنه الأسد الذي حين يفترس خرافا يبقى أسدا ولا يتحوّل إلى مجموعة من الخراف.
حين وقفتُ أمام لوحاتها وجها لوجه لأول مرة بعد أن كنت قد تابعت فتوحاتها في عالم الفن قبل أكثر من عشر سنوات تيقنت أن الرسامة التي ولدت عام 1970 في أديس أبابا وتُقيم وتعمل في نيويورك هي ماكينة خيال أسطوري لا تقف عند حدود هضم الأعمال الفنية بقدر ما تستوعب دروسها الجمالية ولا تكتفي بإعادة إنتاجها بعد أن تفككها بل تلتقط خلاصاتها لتظهر تلك الخلاصات كأنها وحي شخصي. العين الخبيرة حسب تعبير الناقد البريطاني هربرت ريد هي التي تتوصل إلى الاستنتاج الذي لن يؤدّي إلى الاحباط في مواجهة ما يمكن أن يحصل عليه المرء من متعة بصرية وهو يرى لوحات تجريدية لم يسبق له أن رأى ما يشبهها.
جولي مهريتو رسامة حياة تقاوم الغياب بقوة حاضر يقتبس فيه الإنسان من الألم والأمل ممزوجين القدرة على التفكير في رحلته التي هي في واحدة من أهم تجلياتها عبارة عن هجرة من الداخل إلى الخارج
فمهريتو التي اخترقت عالم الفن بسرعة وصارت تقف في مقدّمة مشهده من خلال معارض كبيرة أقامتها في أهم عواصمه الغربية هي من النوع الذي يعرف أنه يستند إلى تاريخ طويل من المحاولة الجمالية. لذلك فإنها لا تعبأ بما يمكن أن يُقال عن عبثها بأساليب الآخرين الذين تحولوا إلى أشباح على يديها بعد أن كانوا ملهمين لها.
ليل تخترقه أنفاس المهاجرين
"لقد غادروا إلى بلدهم بطريقة أخرى" ذلك هو عنوان معرضها الحالي. هناك عيون تظهر في لوحاتها. ستجرّنا تلك العيون إلى رمزية تتطلب إنشاء أدبيا. لذلك كانت الرسامة حذرة من أن تكون تلك العيون مركز جذب. حاولت أن ترسمها بطريقة تنسجم مع أسلوبها الذي يستند أصلا إلى الخبرة في التعامل مع الخط. فالعالم بالنسبة لمهريتو هو مجموعة من الخطوط المتقطعة. وهو عالم الهجرة. هجرة الأفارقة من بلادهم وإليها.
وهي إذ ترسم خارطة للوجع فإنها تدرك أنها ستكون في مواجهة عالم من الكلمات المتقاطعة. سيكون علينا أن نغمض أعيننا لنرى أثرا لمهاجر، من خلاله نتعرّف على الطريق التي سلكها ذهابا وهي طريق لا تخلو من التلفّت بحثا عن فرصة للعودة. لا تخفي مهريتو كأبتها عبر لوحات سوداء ترسم عليها خطوطا متقطعة ترتجف بقدر ما تسعى إلى توثيق علاقتها الملتبسة بالأرض. كان هناك ليل كثير في لوحاتها. وهو ليل حاولت أن تهبه شيئا من الحياة من خلال خطوط هي التعبير الأمثل عن أنفاس المهاجرين. في عدد من لوحاتها التي نفّذتها على مادة البوليستر جعلتنا نتفس رخاء المادة. هناك عالم اصطناعي يمكن أن نتنفّس من خلاله هواء طبيعيا. صحيح أن الرسامة لا تفرج عنا من سوادها الذي يصنع ذاكرة غير أنها تضعنا أيضا أمام نزهة في بلاد مختلفة. ذلك ما عاشته بنفسها كونها أميركية من أصول أفريقية.
في اتجاه الغياب
مهريتو رسامة صعبة لأنها تتعامل مع ألم الهجرة بطريقة تجريدية. في تجربة وصف الألم الكثير من العناء. لأسلوبها أثر الطعنة في الخيال. علينا أن نشاركها تأمّل ما لا يُرى. فهي ترسم بروح مسافرة غير مستقرة. وهناك عيون تراقبها من بقايا العالم المشخصن الذي كانت تتعامل معه في مرحلة سابقة. هل علينا أن نرى من خلال تلك العيون أم علينا أن نقف محايدين في انتظار أن يمر الألم؟
يمثل ذلك السؤال واحدة من إشكاليات النظر إلى لوحاتها باعتبارها خلاصة تمتحن الإنسانية من خلالها قدرتها على الفصل بين مناطق قوتها ومناطق ضعفها. في النظر إلى رسوم هذه الفنانة ستكون هناك نزهة، لكنها نزهة بين الأعصاب المتوترة. فما يُرى يترك أثرا عميقا في الروح لأنه يضعها في متناول خيارات لم تكن متوقعة. لم ترسم مهريتو خرائط لطرق المهاجرين على الأرض بقدر ما رسمت خرائط لجنون وغربة واضطراب أرواحهم وهي تستحم بمياه لم تعهدها من قبل. شفافية أعمالها توحي بذلك. فليس السطح الذي نراه مؤكدا إلا من خلال ما يشف عنه من سطوح أخرى.
إذ ترسم خارطة للوجع فإنها تدرك أنها ستكون في مواجهة عالم من الكلمات المتقاطعة. سيكون علينا أن نغمض أعيننا لنرى أثرا لمهاجر، من خلاله نتعرّف على الطريق التي سلكها ذهابا وهي طريق لا تخلو من التلفّت بحثا عن فرصة للعودة
ترسم مهريتو بمواد مختلفة، ليس من بينها مادة معتمة. حتى في اللوحات التسع التي غلب عليها اللون الأسود كان هناك لمعان وبريق ينبعثان من الأحبار والأصباغ المستعملة. ذلك ما وجدت فيه الفنانة عنصرا مساعدا لتوضيح فكرتها عن الأمل الذي تنطوي عليه فكرة الهجرة ويكون بمثابة تعويض نفسي عن الشعور بالشقاء الذي يختزل الزمن الشخصي، ما مرّ منه وما هو قيد التفاعل في تجربة الذهاب إلى المجهول.
جولي مهريتو رسامة حياة تقاوم الغياب بقوة حاضر يقتبس فيه الإنسان من الألم والأمل ممزوجين القدرة على التفكير في رحلته التي هي في واحدة من أهم تجلياتها عبارة عن هجرة من الداخل إلى الخارج.
أقامت مهريتو حتى الآن ثلاثة معارض فردية في لندن. بدأتها عام 2013 ومن ثم عام 2018 والمعرض الحالي. غير أنها في المقابل أقامت الكثير من المعارض في المتاحف الأميركية (متحفا ويتني وغوغنهايم بالأخص) وفي عواصم أوروبية كثيرة، إضافة إلى أنها نالت الكثير من الجوائز والأوسمة منها وسام وزارة الخارجية الأميركية للفنون وهي عضو في الأكاديمية الأميركية للفنون والآداب.