7 كتّاب سجّلوا تجاربهم في مواجهة المرض وآلامه

الكتابة في مواجهة الموت

7 كتّاب سجّلوا تجاربهم في مواجهة المرض وآلامه

هزمتك يا موت الفنون جميعها

هزمتك يا موتُ الأغاني في بلادِ

الرافدين. مِسَلَّةُ المصري، مقبرةُ الفراعنةِ،

النقوشُ على حجارةِ معبدٍ هَزَمَتْكَ

وانتصرتْ، وأِفْلَتَ من كمائنك

الخُلُود.

هكذا، وعلى فراش المرض داخل غرفة العمليات، يؤكّد محمود درويش في جداريته الشهيرة، انتصار الفن والكتابة على الموت. هناك يجد فرصته ليتأمل مشواره وحياته على نحو مختلف، ويقيم حواره الطويل مع الموت. هكذا يبدو المرض، والدخول إلى غرف العمليات واحدا من محفزات الكتابة والإبداع عند عدد من الشعراء والكتاب، يتيح لهم فرصة نادرة في تأمل تلك العلاقة بين الحياة والموت، بين ما قدموه وما طمحوا إليه، بالإضافة إلى مهارتهم في التعبير عن تلك المشاعر الإنسانية الاستثنائية في لحظة من لحظات الضعف، ويرون فيها بارقة جديدة للأمل والحياة.

علاء خالد: مسار الأزرق الحزين

دخل الشاعر والروائي المصري علاء خالد غرفة العمليات، ونجا من الموت بأعجوبة، فسجّل تفاصيل تلك الرحلة الصعبة في كتابه "مسار الأزرق الحزين"(دار الكرمة، 2015) منذ بداية شعوره بالألم، وتشخيص الأطباء له بأنه يحتاج إلى عملية زائدة دودية، وكيف يتحول الأمر بعد العملية الأولى إلى خطر أكبر بسبب ثقب في جدار الأمعاء. بين كل هذه الآلام يتوقف علاء خالد ليرصد ويراقب بحساسية شديدة أثر تلك العمليات على نفسه، وانعكاساتها على المحيطين به:

يتوقف الشاعر علاء خالد ليتأمل رحلة الحياة والموت وما بينهما، ويحضر حسّه الشعري بقوّة في هذه التأملات التي يرى فيها الموت طريقة أخرى للطيران

"شعرت بأني أحد جرحى المعارك القديمة، وهناك من يقوم بتطبيب جروحي وإزالة خيوط ودوائر الدماء المتجلطة، تلك المعارك التي يتقاتل فيها الجيشان وجها لوجه، وتلمع فيها نصال السيوف تراءى أمام عينيَّ شبح تلك السيدة التي أنزلت السيد المسيح من فوق الصليب، وتلك التي غسلت قدميه صورة المعركة وصورة المسيح كانتا تحتلان ذاكرتي لا أعرف، هل كانت الذاكرة ترشِّح في ذلك الوقت صورة رمزية لما سيحدث في المستقبل، وأصعد للسماء كما صعد المسيح؟ استيقظت بعد معركة مع الموت، أو مع الحياة، سيان كلاهما له نصل في غاية الرهافة وغاية الحدة!".

يتوقّف الشاعر علاء خالد ليتأمل رحلة الحياة والموت وما بينهما، ويحضر حسّه الشعري بقوّة في هذه التأملات التي يرى فيها الموت طريقة أخرى للطيران، ولهذا يحضر الموتى في الأحلام بحالة شفافة مسالمة، وفي حالة الاقتراب من الموت تلك يشعر بقدر من مضاعفة الحواس، والسكون، فيسمع كل صوت ويشعر بأنه أكثر اتصالا بالسماء. يرصد كذلك كل ما يوحي بالموت داخل المستشفيات، بدءا بغرف العناية المركزة مرورا بطريقة بناء المستشفى، وتفاصيل الأسرة والملاءات والأطعمة، وعلاقة المرضى بأجسادهم التي يرى أنها تتحرّر تدريجيا، وكأنهم على استعداد دائم لتلك اللحظة التي تفارق فيها الروح الجسد.

 

يتأمل أيضا علاقته بهذا الزمن الذي مرّ فجأة، ويتحدّث عن شعوره بمرور الزمن وأنه في سن الخمسين يشعر أن حضور الموت يكون في أخف صوره وشاعريته، ويعود بالذاكرة إلى سنوات عمره الأولى، في الثلاثين التي يعتبرها "قيامة صغرى داخل عمر الإنسان" حيث يبدأ حالة من التضحية والإقدام على المخاطر والتمرّد والرغبة في السفر، وكل ما من شأنه أن يكسر حالة الاستسلام لمرور الزمن.

ليس الموت وعلاقته بالحياة ومرور الزمن فحسب ما يتأمله علاء خالد في كتابه، بل يتوقف ليراقب علاقته بنفسه، وبمن حوله، علاقته بالطبيب الذي أخطأ في العملية الأولى واعتذر له عن هذا الخطأ، وكيف يشعر بالذنب ثم يتخفّف من ذلك الشعور بمجرد إجراء الجراحة الثانية، ثم يلاحظ أن هذا الطبيب  شخص متردّد يخاف من الفشل لا يمكن الاعتماد عليه في ما يتعلق بحياة الناس، وهو لا يريد أن يقاضيه، ولكن يريد أن يشعره بفداحة ما ارتكب من خطأ.

يحكي علاء خالد بحميمية عن رفاق رحلة العلاج تلك وطقوسهم اليومية، إبراهيم الممرض وسماسم صاحبة الصوت الجميل، ومن المرضى "عم وليم" الذي كان رفيقا لغرفة العناية المركزة لأربعة أيام فقط، ويفسح المجال لنفسه لكي يستكشف زوايا جديدة من الحياة لم يكن ممكنا أن يراها لولا وجوده في المستشفى ولو من خلال سرير متحرّك، وفي النهاية يتأمل تلك "الحياة الجديدة" التي منحت له ويعقد عليها الآمال أن تكون مختلفة عن حياة الخارج من كهف أو عزلة، وأن يكون فيها قدر أكبر من الحرية.

 

عبده وازن: قلب مفتوح

يحكي الشاعر والناقد اللبناني عبده وازن تجربة إجرائه عملية "قلب مفتوح"في كتاب بهذا العنوان، فيتناول الصدمة التي شعر بها منذ اللحظات الأولى لإجراء تلك العملية، وكيف كان شعوره بالحرج منذ تعرّى أمام الممرّض، حتى حلق شعر جسمه، ثم دخل في غيبوبة طويلة، فتح عينيه بعدها على آثار العملية والجراح والآلام، وتبدأ رحلة تأمل العالم من حوله، يقول:

"صور تطفو على وجه ماء الذاكرة، ‫من أين تأتي هذه الصور كلها دفعة واحدة؟ صورة المسيح لا تغادر عينيّ بوجهه النازف، والإكليل الذي ضُفر به رأسه، بجسده المجروح وخاصرته التي طعنها الرمح، تعبر عينيّ صورة يوكيو ميشيما يؤدي شخصية القديس سباستيان بجسده المكلوم والرمح الذي  يخترقه. أين شاهدت هذه الصورة التي لم أنسها؟ في أي كتاب؟ لا أذكر. تعبر عينيّ أيضا صورة الحلاج معلّقا على الخشبة يلقي على جلاديه نظرات فيها من الألم ما فيها من الحبور، غافرا لهم، صارخا: اقتلوني!".

يفكر في الموت وقد ألقى عليه بظلاله داخل غرف العمليات، تتزاحم في رأسه ذكريات الطفولة والصبا فيتذكر المناولة الأولى أيام الطفولة واحتفالهم بها في المدرسة، يربط بين قصائد رامبو وريلكه عن المناولة الأولى وبين أيام الماضي الجميلة تلك، يبدأ الجسم في استرداد عافيته، فيتذكر عاداته الجميلة، يسمع أغاني فيروز ويبدأ في القراءة، ولكن الهواجس لا تزال تسيطر عليه، حتى يبدأ في الكتابة، يكتب وكأنه يكتب عن  شخص آخر، يحتفي بالعودة للحياة، يراقب الممرضات في المستشفى بين الحلم واليقظة، تطارده روائح المستشفى والأدوية، يهرب من كل ذلك باسترجاع سنوات الطفولة من جديد.

 هكذا كانت غرفة العمليات فرصة لاستعادة الذكريات عند عبده وازن ومراجعة الماضي ومراقبة علاقته بوالده الذي فقده مبكرا، وبوالدته التي تولت مسؤولية تربيته وأخوته وكانت نموذج الأم القوية الصابرة، كذلك يتذكر بدايات علاقته بالقراءة من الإنجيل وكيف أثرت عليه، ثم توجيه المعلمين له إلى قراءة كليلة ودمنة، ومؤلفات المنفلوطي وطه حسين والمازني وتوفيق الحكيم وغيرهم.

 صور تطفو على وجه ماء الذاكرة،‫ من أين تأتي هذه الصور كلها دفعة واحدة؟ صورة المسيح لا تغادر عينيّ بوجهه النازف، والإكليل الذي ضُفر به رأسه، بجسده المجروح وخاصرته التي طعنها الرمح

عبده وازن

في نهاية الكتاب يتأمل عبد وازن فكرة الكتابة كلها، وهي الفكرة التي ستتردد كثيرا في مذكرات الكتاب حينما يتحدثون عن الموت والنهاية، ما الجدوى من كل هذه الكتابة؟ وهو يرى أن أهمية الكتابة تتمثل في تلك الرغبة الخاصة فيها ما يسبق الكتابة وما يليها، إنه شعور الكاتب أنه في متاهة كبرى يبحث فيها عن نفسه ثم يجدها ثم يروح يبحث عنها مرة أخرى، وهكذا، يقول:

‫لا أكتب لأواجه ولا لأتحرّر ولا لأنتفض ولا لأهرب ولا لأغيّر الحياة أو العالم ولا ولا… أكتب لأكون أنا نفسي، لألقي ضوءا على نفسي، نفسي التي يظلّ يكتنفها الظلام مهما ألقيت عليها من أضواء، نفسي المعتمة، نفسي التي هي الناحية الأخرى منّي، من الأنا، من الروح، من النظرة… أكتب لأرى نفسي وقد استحالت أسطرا من حبر، أسطرا تبرق مثل نجوم بلا ليل. تصبح اللغة هي الروح وهي الجسد الذي ليس كالجسد.. أكتب الآن لقد عدت إلى الحياة حقا.

 

رضوى عاشور: الصرخة

بدأت الروائية المصرية رضوى عاشور كتابة مذكراتها وسيرتهاالذاتية في كتاب "أثقل من رضوى"، الذي مزجت فيه بين سيرتها الذاتية وما شهدته مصر خلال الثورة (من أواخر 2010 وحتى 2013)، لكن المرض الخبيث (السرطان) يحضر بقوة ويطاردها، فتقرر أن تكتب يوميات محاربة هذا المرض في كتابها الأخير "الصرخة" متحدّثة عن تحذيرات الأطباء لها بعد نهاية عملية استئصال الورم الأولى، بأنها ستجد صعوبة في القراءة والكتابة لبعض الوقت، منذ تلك اللحظة، وبعد إدراكها قسوة تلك الحالة تكتب رضوى عاشور يومياتها وتصدّرها بعبارة: "إن أسوأ ما في المرض أنه يربك ثقتك في نفسك، فيتسرّب إليك الخوف من أنك لا تصلح ولن تستطيع".

منذ سطور الكتاب الأولى يدرك القارئ أنه إزاء كتابة مختلفة، والذي يعرف رضوى عاشور أديبة وأستاذة جامعية كان لها مساهمات عديدة وحضور قوي في فعاليات تتعلّق بالدفاع عن حقوق الإنسان والمطالبة بالمزيد من الحرية والاستقلال لأساتذة الجامعة وغيرهم، سيعلم على الفور أن كتابتها تشتبك دوما مع الواقع المصري، فماذا إذا كان وقت كتابة تلك المذكرات هو سنوات الثورة في مصر، حيث نجد تأريخا وتدوينا لعدد من الأحداث السياسية الهامة في تلك الفترة ورد فعلها عليها، بل والحديث عن المناضلين والمعتلقين والثوار من الطلبة في تلك المرحلة الحسّاسة كلها، وهي تسعى في كل ما تكتبه للرصد والتوثيق، ورغما عنها يتسرّب الإحباط، فالصورة قاتمة والأحداث متلاحقة، ومن الصعب بل يكاد يكون من المستحيل الشعور بالأمل وسط كل هذا الدمار، ورغم أنها تعاني في مواجهة المرض، وتسرد تفاصيل العمليات التي تجريها، إلا أنها لا تستطيع أن تغض الطرف عما يحدث في مصر.

تكتب:

"كان ما يشغلني صباح مساء هو ما يحدث في مصر عموما وفي الجامعات تحديدا بدا لي المشهدُ ثقيلا وحزينا إلى حد اليأس ولما كنت مُدَرِّسة بحكم عملي الوظيفي لما يقرب من نصف قرن، فقد ترسّخ في وجداني أن إرسال خطاباتِ يأسٍ إلى الآخرين عملٌ غيرُ أخلاقيّ ثم إنني أعتقد أن أحد إنجازات الثورة هو شعور الناس بقيمتهم وقوّتهم وقدرتهم بل وبهاء مظهرهم ومخبرهم، وأن الثورة المضادة في المقابل، تعمل بلا كلل على إفقادهم هذه الثقة بأنفسهم وإشعارهم بطرق بسيطة وأخرى لا تخطر على بال إبليس، أنهم بلا قيمة، يستحقون الإهانة".

 

حسين البرغوثي: سأكون بين اللوز

نجد مواجهة السرطان أيضا عند الكاتب الفلسطيني حسين البرغوثي في كتابه الفريد "سأكون بين اللوز"، حيث يحكي يومياته في المستشفى التي قضى فيها آخر أيام حياته برام الله، بعد حياةٍ من الإنجازات والكتابة الروائية والشعرية بعيدا معتزلا الناس، يكتب البرغوثي سيرته في "الضوءالأزرق" تلك التي يصفها محمود درويش بأنها "من أجمل إنجازات النثر في الأدب الفلسطيني"، ثم يواصل بعد ذلك في "سأكون بين اللوز" تلك التفاصيل المؤلمة لرحلة مقاومة المرض، ذلك المرض الذي يعتبره "وجهة نظر في الحياة"، ويستغرق في تأملات الموت والحياة مستحضرا أطرافا من سيرته منذ الطفولة وحتى الشباب، ورغم أنه يكتب بين أروقة المستشفى إلا أن المتميز في هذا الكتاب أنه يتملّص تماما من ذكر تفاصيل العمليات أو آلام المرض، ويركز على ذكرياته وتأملاته الخاصة.

يتناول البرغوثي حياة أمه في تلك القرية منذ طفولتها وتبني عمها "قدورة" لها ويحكي حكايتهم هناك، ويتذكر علي الراعي عازف الناي الذي يعرف رائحة وطعم كل نبتة في الجبل وريث سلالة الرعاة، وكيف تغيّر به الحال وبمن حوله، وكيف صادر الإسرائيليون طفولته وذكريات رفاقه وبنوا مستعمراتهم فوق أماكنهم الأثيرة، ولم يبق له إلا "الدير الجواني" يعود إليه ويسأله عن البدايات ويأمل أن يمنحه بقية من حياة:

"جلست منهكا بجسم طال تهدّمه، في كرسي بلاستيكي أزرق قرب البئر حولي عشب جديد، وطنين نحل، وحشرات، ودبيب نمل، وبصل أخضر زرعته أمي في حوض بدائي. يا إلهي، نسيت بأن في الدنيا طنين نحل، ودبيب نمل، وعشبا، وبصلا أخضر وشمسا دافئة، والانتباه إلى ما سبق ونسيته، أو حتى خنته، هو الورقة الأولى في إرادة الحياة التي بدأت تستعد لكي تولد فيّ".

أسوأ ما في المرض أنه يربك ثقتك في نفسك، فيتسرّب إليك الخوف من أنك لا تصلح ولن تستطيع

رضوى عاشور

يحكي أيضا عن عائلته الصغيرة، زوجته بترا وابنه آثر، وخوفه عليهما حينما شك الطبيب في احتمال إصابته بالإيدز في الدم، وكيف هانت المصيبة حينما اكتشف أنه سرطان يصيبه هو فقط، وكيف رقص من المفاجأة فرحا وقال أنا قادر على اللعب وحيدا مع القدر!

 

محمد أبو الغيط: أنا قادم أيها الضوء

ربما لم يُعرف للصحفي المصري محمد أبو الغيط الذي فارق الحياة شابا بعد صراع طويل مع المرض إلا كتابه الأخير "أنا قادم أيها الضوء"،ولكنه كان كافيا ليعبّر عن تأملاته ومسيرة حياته في فترة من أصعب فترات التي مر بها هو ومصر على السواء. يضمّ الكتاب الذي جمعه أصدقاؤه من مقالات وتدوينات كتبها على صفحته الشخصية  على "فيسبوك" وتابعها الكثيرون أثناء فترة مرضه، ستة عشر مقالا يتناول في كل مقالٍ منها موضوعا مؤرقا أثناء فترة علاجه، يتسلل بين تلك الموضوعات آثار مقاومته للمرض رابطا بينها وبين أطراف من سيرته وحياته منذ ولادته ونشأته في قريته صعيد مصر، وحتى سفره إلى لندن للعمل ثم للعلاج، يقول:

"عجيبة هي الأقدار وألاعيبها، كأنما طُويت حياتي وكُثفت، فمنحتني بسرعة كثيرا من السعادة والتوفيق، كما انهارت على رأسي بنفس السرعة. كنت مرارا أصغر صحفي في صحف وقنوات عملت بها، كما أنني الآن أصغر مقيم في جناح الرعاية الخاصة بمرضى السرطان في ذلك المستشفى البريطاني.عبر ذلك المسار كله، تغيرت داخليّا وخارجيّاُ، حتى إني أُدهشُ اليوم من شكلي في المرآة. تبدلت الكثير من قناعاتي، كما تغيرت من حولي الوجوه والعوالم، لكن ما لم يتغير قط هو بحثي عن ذلك الضوء الذي يشع من الأرواح الطيبة؛ ضوء التعاطف مع الإنسان من حيث كونه إنسانا قبل أي شيء آخر".

 يتناول أبو الغيط في كتابه فكرة الألم وتعبير الناس عنها وتعاملهم معها، ولعل هذا المقال من أجمل وأهم مقالات الكتاب، إذ أنه يقود القارئ من الألم الخاص الذي شعر به المريض، إلى الآلام التي نشعر بها جميعا سواء في مصر أو في بلدٍ عربي، من ممارسات الظلم والقمع التي نمارسها على أنفسنا ونتواطأ عليها، يتحدث في "سؤال الألم" عن خوفه منذ الطفولة من الشعور بالألم، من الألم الجسدي إلى الآلام النفسية، فيتذكر أول تجربة له في أيام الطفولة مع الضرب في المدرسة الابتدائية وكيف واجهت أسرته هذا التصرّف بقوّة، وأن ذلك من حسن حظه لأن المصريين وكثيرا من العرب يتعاملون مع الأطفال كملكية خاصة ولا يجدون غضاضة في ذلك التعامل العنيف، ثم ينتقل من هذه الحكاية إلى حكاية أعقد وأدلّ وهي في التعامل رجال الشرطة مع رجل قبض عليه وعُذّب حتى الموت، وكيف واجه ذلك التصرف غير الإنساني وظل يتابع تلك القضية حتى حكم على الجناة بالسجن 5 سنوات بعدها بسنوات، يتذكر تلك الحوادث ويقارن بين هذه الحكايات والآم فيما هو يعاني أشد أنواع الألم من انتشار السرطان في جسده، ويتساءل لماذا يحدث هذا الألم؟ ويقوده ذلك إلى سؤال أكبر عن الكوارث الطبيعية جماعية وفردية، ومع كل شعور متزايد بالألم وقسوته يرى أن هذا الألم كله ليس شعورا نبيلا ولا يستحق أبدا تلك المكانة التي له في الأشعار والأغاني، وأنه إذا لم يكن بأيدينا وقف الكوارث الطبيعية فإنه علينا أن نوقف تلك الكوارث البشرية التي تحدث حولنا. ويتفق مع سي إس لويس صاحب كتاب "معضلة الألم" في أن "الهدف الأسمى هو تعليم الناس الثبات والصبر.. القليل من الشجاعة يساعد أكثر من المعرفة، والقليل من التعاطف الإنساني أفضل من الشجاعة، وأقل لمسة من محبة الله تفيد أكثر من ذلك كله".   

 

الناجون من المرض

لحسن الحظ فإن أمر السرطان ليس شرا كله، بل يبدو على الجانب الآخر أن هناك من نجا منه فالفعل، وعاد إلينا ليكتب عن هذه الرحلة الصعبة أيضا، يتحدث الروائي المغربي الطاهر  بن جلون" في رواية "الاستئصال" (دار غاليمار، 2014) عن بطل يصاب بسرطان "البروستاتا"، ويفصل الحديث عن مراحل تطور المرض بشكل واقعي، وكيف ينبغي التعامل معه، لنكتشف  بعد ذلك أن الرواية ليست سوى تجربة شخصية مر بها الطاهر بن جلون، واستجاب فيها لأحد أصدقائه أراد أن يكتب عن هذه التجربة بالذات،  فقد أراد من خلال كتابته أن يوضح خطورة هذا النوع من السرطانات حيث أن المصاب به يتحرّج من الإفصاح عنه، يقول في حوار معه في مجلة الجديد:

يا إلهي، نسيت بأن في الدنيا طنين نحل، ودبيب نمل، وعشبا، وبصلا أخضر وشمسا دافئة

حسين البرغوثي

"هذه الرواية شهادة أدبية إنسانية حول سرطان البروستاتا، هذا المرض الذي يموت به أصحابه دون أن يستطيعوا الحديث عنه. ولعل هذا الصمت هو الذي يقتلهم أكثر مما يقتلهم السرطان نفسه؛ فلقد أصبح من الممكن علاج هذا المرض بكل سهولة، أحيانا، لكن الخوف من هذا المرض هو الذي يقضي على ضحاياه، ممن يلتزمون الصمت ولا يخبرون أحدا بآلامهم، بما في ذلك زوجاتهم وأولادهم.وفي الوقت الذي تلتزم فيه الصحافة الصمت، هي الأخرى، تجاه هذا المرض العضال، وقلما نعثر على تذكير به في التلفزيون، جاء هذا الكتاب ليصبح رمزا لفضح هذا الصمت الشامل والمطبق تجاه المرض الفتاك. لا يغدو المريض هاهنا ضحية لمرضه، بل ضحية للقدر. وأنا ما زلت أعتبر الكتابة معركة ضد القدر؛ فالحياة ليست قدرا مكتوبا ومقدرا علينا، بل الحياة هي التي نكتبها ونخترعها يوميا".

يختلف الأمر مع الروائية العراقية سالمة بن صالح المقيمة في ألمانيا فقد اختارت أن تحكي بشكل مباشر تجربتها الخاصة مع مرض السرطان لعام كامل في كتابها "عام السرطان" (منشورات الجمل، 2017) وتبدو فيه أكثر وعيا وتركيزا على رحلة المرض من البداية حتى التدهور إلى الشفاء، وكأنها تقدم بالكتابة تقريرا أدبيا طبيا عن المرض لا أكثر، فلن يجد القارئ لديها تأملات واسعة، ولكن ربما هي حالة خاصة أرادت أن ترصدها وتحكيها، لاسيما أنها نجت منها بالفعل.

منذ البداية، على خلاف المتوقع، تشير الكاتبة إلى أنها تقبّلت الأمر ببساطة، ويبدو أنها قرّرت أن تواجه السرطان، تقول لزوجها بكل ثبات "لا تبكِ فإنني  لم أمت"، تتحدث عن المستشفى والطبيب وكيف أعدّت "الخطة" لتلقي العلاج ومواجهة تلك الأيام الصعبة التي ستبقى فيها في المستشفى، وكيف اهتمّت بالتعرف على الطبيب المعالج من خلال البحث عنه على الإنترنت لكي تطمئن أكثر، خاصة أن لها علاقة طويلة بالأطباء منذ خمس سنوات عند بداية ظهور عقد في الرقبة شكت أنها قد تكون ورما.

 نتتبع معها يوميات رحلة التعافي من المرض، وكيف بدأت بتعليم زوجها مواصلة الحياة في غيابها فتعلمه كيفية استخدام الغسالة الكهربائية وترشده على أماكن شراء طلبات السوق واستخدام ماكينة الصرف الآلي، كل ذلك حتى تبدأ رحلتها مع العلاج الكيماوي والتحاليل المطلوبة منها وآثار الأدوية على نفسيتها، وما شعرت به من آلام ووجع في كل مرحلة من تلك المراحل الصعبة القاسية، وكيف كان شعورها بهذا العام والذي بدا بأنه بلا فصول!

تغيّرت طبيعة الحياة بالنسبة إلى سالمة بالتأكيد، بل وعرفت الكثير عن طبيعة المرض وعلاجه، بل والأكثر من ذلك أن مدة بقائها في المستشفى وانتقالها للمنزل جعلاها تتعرف على المصابين بالمرض من جيران أو المنطقة القريبة منها، كما تراقب حياة الشجر والزهور من مكانها في المستشفى  وتشعر بأن ثمة رسائل تحملها لها تلك الشجيرات حينما تزهر، حتى تصل إلى نهاية تلك الرحلة وترصد كيف كان ذلك العام بالنسبة لها عاما مفقودا رغم كونها معفاة فيه من الهموم والواجبات اليومية، لكن تأسف لأن كل ما كان متوقفا بالنسبة إليها لا يزال مستمرا في حوادث القتل اليومية والانفجارات والجشع الذي يلتهم الخيرات وكفاح الملايين من أجل الاستمرار في الحياة.

font change

مقالات ذات صلة