"أدب الشباب" في العراق: تصنيف نقدي أم سجن رمزيّ؟

تسمية برّاقة يشوبها الإنكار والإهمال

EPA
EPA
معرض بغداد الدولي للكتاب، العراق، 18 سبتمبر 2023.

"أدب الشباب" في العراق: تصنيف نقدي أم سجن رمزيّ؟

يتردّد في المدونات الثقافيّة العراقية تعبير "أدب/ فن الشباب" عن كل أدب أو فن يكتبه أو يمارسه جيل جديد يظهر في المشهد الثقافيّ. قد تبدو التسمية، ظاهريا، بريئة، لأغراض التوصيف وتسهيل الدلالة والإشارة، نقديا وصحافيا. فمن يكتب من هؤلاء "الغرباء الجدد"هم شبّان حقا، لكن بعد مرور فترة كافية من الوقت، يدرك هؤلاء الغرباء أنفسهم، أن التسمية كانت خدعة، سورا براقا جميلا من الخارج، لكنه في الحقيقة، سجن سيظلون فيه بقية حياتهم.

في الدرس النقديّ العراقيّ، وفي أروقة الاتحادات الأدبية والنقابات الفنيّة وهيئات التحرير والمقاهي والشوارع الثقافية، يعرف أدب الشباب على أنه نتاج يكتبه غِررة، تجربتهم لم تكتمل بعد، خبرتهم ناقصة، وأدواتهم محدودة. إنهم شباب! لذا فأي تعامل جادٍّ مع نتاجهم أمر غير وارد البتة.

الأسوأ أن جيل الشباب هذا، وبطريقة خاصّة، يظل شابا إلى الأبد. تتجمّد في عروقهم الدماء ويتخثّر الزمان فلا يكبرون وإن لاح الشيب في مفارقهم، وصار لهم أبناء يطاولونهم قامة. يمكنك ببساطة أن تلحظ كاتبا "شابا" - بتصنيف آباء الثقافة - وهو يناهز الخمسين عاما. حصر توصيف النتاج الجديد بـ"الشبابي" بما تحمله الكلمة من حمولة للطيش والحماسة الزائدة والتهور، يساهم في تجميد هذا النتاج في قالبٍ حدودُه معروفة مسبقا. فلايمكن، تاليا، أخذ نتاجهم على محمل جد، وقراءته كما يستحق، ومقارنته مع ما سبقه من تجارب لأجيال سابقة. كما لا يمكن افتراض - مجرد افتراض - أن كاتبا شابا يعيش بيننا اليوم يقدم تجربة أكثر نضجا وحداثة وابتكارا من تجارب ظهرت في زمن الرواد مع نهايات أربعينات القرن الماضي صعودا. إنه نوع من عبادة الماضي وتحويله إلى مقدّس لا يسمح بمناقشته.

"أدب الشباب" إذن، طريقة في التمييز والقتل الرمزي. نوع من التجميع والتكديس ثم الإسقاط في هاويات الإهمال والنسيان. وما يقال عن أدب الشباب شعرا ونقدا وقصة ورواية، يصلح عن "فن الشباب" من تشكيل وعزف وتمثيل وإخراج، وقس على ذلك ما شئت. هذا التصنيف يستدعي، في المقابل، مواجهة مماثلة من جيل الكتّاب الشباب الذين يعبّرون، غير مرة، عن خيبة أملهم، بل يأسهم، ممّا يسمى بالوسط الأدبي أو الفنيّ. مواجهات متكرّرة شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي بين المسيطرين على "الزعامة الأدبية" شهرة أو منصبا ثقافيا أو تكريسا وبين كتّاب ضاقوا ذرعا بالنظر إليهم كـ"صبيان أدب" والحكم على مشاريعهم بالتجاهل الجمعي المتطامن.

"أدب الشباب" نوع من التجميع والتكديس ثم الإسقاط في هاويات الإهمال والنسيان. وما يقال عن أدب الشباب شعرا ونقدا وقصة ورواية، يصلح عن "فن الشباب" من تشكيل وعزف وتمثيل وإخراج

هل ساهمت هذه الخصومة التجاهلية في جعل المشهد الثقافي في العراق مشهدا منعزلا وبلا أواصر تفاعل بين الجيل القديم والجيل الجديد؟ وهل التوصيفان الأخيران دقيقان وصائبان؟ فمن يحدّد القديم والجديد في الكتابة؟ ومن في يده صكوك الاعتراف والتكريس الأدبي؟ وكيف يتعامل الكاتب - ممن تقع هذه التسمية عليهم - مع النظرة الغائمة التي تكاد أن تكون تقييما مسبقا لكل ما ينتجه باعتباره أدبا/ فنا شابا، إيحاء لحاجته إلى مزيد من الخبرة والممارسة؟

ألم يصنع أكبر فلاسفة وشعراء العالم ثوراتهم وهم في عمر الشباب؟

هل ثمة نزعة تقديس لكل ما هو ماضوي في الثقافة العراقية؟

هل يشكل جيل الرواد، أو الستينات مثلا، عقبة/ عقوبة أمام قراءة نتاج الشعراء/ الفنانين الشباب بموضوعية هي في النهاية استحقاق وليست هبة؟

 

معايير غائبة

يرى الشاعر حيدر كمّاد أن مسألة الأجيال محيّرة "لعدم وجود معايير واضحة يقوم على أساسها تقسيم الكتّاب وتصنيفهم، لا من الناحية الفنية ولا من ناحية العمر. ويحق لي السؤال عن السقف الذي أُعتبر تحته كاتبا شابا أو كاتبا غير شاب؟ وماذا بعد مرحلة "الشاعر الشاب"؟ ماذا نسمّي من تجاوز مرحلة الشباب؟ الأمر يبدو لي أحيانا تقسيما اعتباطيا مزاجيا هدفه التحييد".

حيدر كماد

ويضيف كماد أنه "لو طبقنا مقاييس التوصيفات العمرية في النظر إلى الإبداع ففي إمكاننا القول إن السياب شاعرٌ شابٌ، فالرجل مات ولم يبلغ الأربعين. الأمر ينطبق على الفرنسي رامبو، كيف نصنف شاعرا مثل رامبو؟ وماذا نسمي، في المقابل، شاعرا تجاوز المئة عام مثل دريد بن الصمة؟ وكيف ننظر إلى إبداعهم جميعا من منظور ملتبس كالعمر".

يشدّد صاحب "طين فائض" على أن "هذه التقسيمات رسالة خاطئة تناقلتها الأجيال الثقافية وأنا أردّ أسبابها الى احتمالين لا ثالث لهما: الأول هو الخوف من الجيل الشبابي الجديد – ولا أعني جيلا بعينه بقدر ما أعني الظاهرة. الجيل السابق يخشى من الجيل الآتي، من الأساليب الجديدة التي قد تتمثّل روح العصر أكثر، وبالتالي تجد استجابة أكبر من القراء وتسحب البساط من الأجيال السابقة. السبب الثاني قد يعود إلى الاستخفاف الآتي من عثرات الكتّاب الشباب المتعلّقة بفترة البدايات. إذ أن ثقافتنا مصابة بعقدة الانطباع الأول، النص الأول والكتاب الأول سيكونان ملاصقين للكاتب الجديد إن شابه ضعف أو هنات، ولن يحاول أحد تجريب قراءة عمل جديد له ومراقبة تطور تجربته وتقييمها. وهذا ما يقع فيه الكتّاب الشباب أنفسهم سواء في قراءة بعضهم لنتاج بعض أو لنتاج الأجيال التي سبقتهم".

 

 هذه التقسيمات رسالة خاطئة تناقلتها الأجيال الثقافية وأنا أردّ أسبابها لاحتمالين لا ثالث لهما: الأول هو الخوف من الجيل الشبابي الجديد، ولا أعني جيلا بعينه بقدر ما أعني الظاهرة


حيدر كماد

يختم كماد: "من غير المستبعد، على الاطلاق، أن تكون الأسماء الثقافيّة المكرَّسة اليوم، التي تتعامل مع الكتّاب الشباب بسوط التجاهل أو الاستخفاف، قد عانت من الإهمال والرفض والتجاهل من أجيال سبقتهم، فهم لم يولدوا كهولا وشيوخا مباشرة. إنهم يعيدون إلينا تركة ورثوها من جيل لا علاقة لنا به. إن الابداع لا علاقة له بالعمر. المتلقي سيستمتع بالقصيدة أو العمل الفنيّ ولن يسأل عن عمر صاحبه، شابا أكان أم شخصا في متوسّط العمر، أم شيخا طاعنا في السن".

 

عادة عربية

من جانبه يرى الفنان التشكيلي باقر ماجد أن هذا المنهج في التعامل مع ابداع الشباب مقتصر على المنطقة العربية للأسف وأن ثقافات العالم تنظر إلى العمل والتجربة ومدى جدتها ولا تهتم بمقاييس العمر الضيقة: "في الحديث عن أدب الشباب وفنونهم، أستحضر أمثلة بعضها قديم وبعضها معاصر. لم ينظر أحد إلى أرثور رامبو الشاعر الشاب ذي السبعة عشر عاما على أنه 'مشروع شاعر'،ولم ينظر أحد إلى عمره، بل تم التعامل مع نصوصه على أنها ستغيّر مسار الشعر الفرنسي والعالمي إلى الأبد. كذلك الأمر بالنسبة إلى بابلو بيكاسو الشاب، وما له من تأثير هائل على مسار الفن الحديث. وجان ميشال باسكيا الذي عمل ومات بعمر الثامنة والعشرين حسب، ولا يزال تأثيره قائما إلى يومنا. هذا حصل ويحصل إلى الآن مع الشباب القادمين إلى العمل الفني والأدبي في أروقة العالم الحديث. لكن الأمر لدينا في هذا الجزء من العالم غير ذلك، فلا يُنظر إلى نتاج الشباب بجدية. التجربة عندنا تقاس بالعمر وليس بالعمل الجيد. لا ينظر أحد إلى حداثة العمل بقدر ما ينظرون إلى حداثة العمر".

باقر ماجد

يضيف ماجد: "في السابق، والحديث هنا عن تجربة الفن العراقيّ الحديث التي لا تتجاوز المئة وعشرين عاما، وهي فترة ليست بالكبيرة في سجل تاريخ الفن. لم ينظر أحد إلى عمر الرواد، حيث عملوا، جميعهم، وأنتجوا في العشرينات من أعمارهم. لكن نُظر إليهم منذ البداية على أنهم ينتجون فنا حديثا، ولا تزال هذه النظرة إلى اليوم. لا أحد يتخيل أن الرواد وجيل الستينات مثلا من الفنانين التشكيليين العراقيين كانوا في العشرينات من أعمارهم حين بدأوا وقدموا تجاربهم. دائما ما يوصفون بالكبار، ويجري العمل على أسطرتهم وتعظيم كل ما يتعلق بعملهم وحياتهم".

في هذا الجزء من العالم غير ذلك، فلا يُنظر إلى نتاج الشباب بجدية. التجربة عندنا تقاس بالعمر وليس بالعمل الجيد. لا ينظر أحد إلى حداثة العمل بقدر ما ينظرون إلى حداثة العمر

باقر ماجد

وفي رأي ماجد أن هذا التكريس لجيل الرواد "ساهم الرواد أنفسهم في صناعته والعمل عليه حتى في نتاجهم الضائع. إلى اليوم، وما إن يظهر عمل ينشر للمرة الأولى لفنان من الرواد حتى تضج الأوساط الفنية في تناقله. في حين أن هنالك أعمالا وتجارب شابة تشتغل اليوم ولا تتداول أو يشار إليها، وهي أعمق وأحدث من سابقاتها بمراحل، غير أنها تواجه بالتجاهل لأنها "شابة".نحن دائما نريد القديم بكل ما نعرفه ونجهله عنه".

 

تسميم مناخ

يعتقد الشاعر حسين هليل أن هذه الظاهرة تتسبّب بـ"تعكير مناخ الشاعر وتسميمه". ويفصّل بالقول: "يمكن رَكْن ظاهرة تجاهل أدب الشباب وغض النظر عن معاينته بموضوعية في خانة "العنف الثقافي" المكتظة بحركاتٍ تُلحق الأذى باتّزان الشاعر النفسي والجسدي، وتعرض حياته الإبداعية للخطر. هي محاولة آباء الثقافة للهيمنة على الطاقات الجديدة بشكلٍ مقنّع وخادع، ليصبحوا مرجعيّاتٍ لهم وينمو معهم الإحساس بالدونية والنقص".

حسين هليل

يتساءل هليل: "هل غفلوا عن التجارب الأدبية السابقة التي لم تعشْ طويلا لكنها تركتْ بصماتٍ عميقة في الأدب العربي والعالمي، رحلَ امرؤ القيس دون الـ 45 عاما تاركا خلفه أكثر من مئة قصيدة تُعدُّ الأكثر جرأة في الوصف، وكذلك طرفة بن العبد الشاعر الذي شغل عصره ورحل قبل أنْ يكمل الـ 26 من عمره، وأمل دنقل الذي غاب بعمر الـ 43  عاما، وبدر شاكر السياب أهم رجالات الحداثة، وأكبر روّاد شعر التفعيلة الذي فارقنا بعمر الـ 38 عاما، كذلك جون كيتس وألكسندر بوشكن، وبايرون، ولوركا، وقد رحلوا وهم في العشرينات أو الثلاثينات من العمر والقائمة تطول".

يعتقد صاحب "سفر بقطار عاطل" أن أسلوب التمييز، والتعالي، وتقليل قيمة من هم أقل عمرا منهم لا يخلو من التبخيس والإنكار القيمي، فاستخدام الرموز والإشارات اللفظية من أجل هيمنة ثقافية هي تعبير لا يخلو من العداء.

التجربة الإبداعية الكاملة لن تؤمّن، ما لم تمتد بخط الزمن من الماضي إلى اللاحق، امتدادا حقيقيا ومرنا يسمح للمتلقي بأن يتلقى ما هو خارج الأقواس، وبعيدا عن صلابة القوالب

إحسان المدني

ويدعو هليل، الحائز المرتبة الأولى في مسابقة "أدب الشباب" لعام 2023 التي أقامها اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، إلى "ضروة قلب المفاهيم الشائعة أو مراجعتها فلا يوجد شاعر شاب وآخر كبير، هناك نصٌّ كبير وآخر بسيط، وعلى هذا الأساس يُفترض أن تكون الحوكمة الأدبية. وإذا اعتمدنا هذا الرأي فلا يشكل جيل الرواد ولا غيره عقبة أو عقوبة أمام قراءة نتاجنا".

 

هالة خفية

تعتقد الشاعرة إحسان المدني أن "التجربة الإبداعية الكاملة لن تؤمّن، ما لم تمتد بخط الزمن من الماضي إلى اللاحق، امتدادا حقيقيا ومرنا يسمح للمتلقي بأن يتلقى ما هو خارج الأقواس، وبعيدا من صلابة القوالب". تعتقد المدني أن الكاتب اليوم "أكثر دراية بما يحدث خارج النص، من خلال عمليات الاحتكار المتكرّرة، والقوالب المصنوعة من رخام التجارب الأدبية الماضية، ولو أراد أن يربط نتاجه الأدبي بالتقييم المسبق الذي سيتلقاه لأرهق في ذلك، وسخّف من نتاجه، وذهب به إلى ما لا يروم".

احسان المدني

تؤمن المدني بأن "في العمل الإبداعي المتزن هالة خفية تقي الكاتب أن ينتظر تأكيدا عليه، وإشادة بعظمته، وصب النقاد له في قوالب العظماء. يمكن للشاعر أن يكتب لأجل الكتابة، ويمكن للتقديس أن يكون من الشعر إلى الشعر متجاوزا بذلك النقاد والمحافل والتصنيفات الطويلة".

وتختتم المدني بالإجابة عن سؤال: هل يمكن لجيل الرواد والأجيال الأدبية السابقة أن تشكل عقبة أمام الشاعر الشاب؟ قائلة إن ذلك يعتمد بصورة كبيرة "على الغاية الأولى للشاعر نفسه، وكيف يصبّ تركيزه وإلى أين يتجه به، فلو شاء اليوم أن يصدّق وهم الاحتكار هذا لأسقط هنا المعنى الكامن خلف عملية الخلق لديه، المعنى المنطوق من الحياة وانسيابها الدائم، الموحى إليه والخارج منه إلى بعد آخر، وهو البعد الذي لا يمت الى شيء كثيرا بقدر انتمائه إلى الحياة نفسها، وقدرتها الخلاقة على الحضور والتشكيل".

font change

مقالات ذات صلة