مجزرة جديدة.. تفصيل ثانوي آخر

مجزرة جديدة.. تفصيل ثانوي آخر

في 13 فبراير/ شباط 1991، قصفت مقاتلتا إف 117 أميركيتان، ملجأ في عامرية بغداد، حاصدة أرواح أكثر من 400 مدني. ليس هناك رقم نهائي لعدد الضحايا المدنيين في تلك الحرب، إلا أن التقارير الدولية تشير إلى أنه يتراوح بين مئة ومئتين ألف قتيل. الأرجح أن نتنياهو، حين يسأله الرئيس الأميركي جو بايدن عن مجزرة المستشفى المعمداني في غزة، سوف يذكّره بمجزرة ملجأ العامرية، وربما يذكره بمجزرة "ماي لاي" في فييتنام في 16 مارس/ آذار 1968. سوف يردّد ببداهة هادئة ما يردّده إعلاميون مرموقون في الإعلام الغربي، عن "الضحايا الجانبيين" في الحرب، ولعله يصرّ على الرواية الخرافية التي خرج بها جيشه في وقت قياسي، بعد أن أجرى "تحقيقا شاملا" في الحادثة، وتبيّن له أن المستشفى قصف بأحد صواريخ حركة الجهاد الإسلامي، والأرجح أنه سيذكّره بغضب واستياء و"ألم" بعدد الضحايا الإسرائيليين الذين سقطوا يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، إذ من غير المسموح ولا المقبول، بالنسبة إلى نتنياهو وكلّ ما ومن يمثلهم شرقا وغربا في هذا الصراع، أن تطغى رواية المستشفى على الرواية التي استثمرت فيها إسرائيل كلّ إمكاناتها الدعائية، لتضع نفسها موضع الضحية.

لن يسمح الصديقان لـ "أضرار جانبية" مثل ضحايا المستشفى المعمداني، بأن تعكّر صفو صداقتهما المستجدّة، ولا بأن تخرّب الهدف الرئيسي المعلن من الحرب على غزة، وهو اجتثاث "حماس" وصنع "شرق أوسط جديد" يراه الرجلان زاهيا مشرقا، لولا تلك "المشكلة المزعجة" التي تسمّى القضية الفلسطينية. الأرجح أن يذكّر رئيس الوزراء الإسرائيلي ضيفه، في حال جاء الأخير على ذكر الأطفال الفلسطينيين القتلى، بالأربعين طفلا إسرائيليا الذين يقول إن مقاتلي "حماس" ذبحوهم بدم بارد، ولعله يذكّره بالأميركي المسنّ الذي قتل طفلا فلسطينيا بستة وعشرين طعنة، ولعله لن يخجل، أمام حليفه العتيد، من استحضار سردية "أطفال النور" و"أطفال الظلام"، وقد يمضي بعيدا في ذلك ويقول له إن أولئك الأطفال وغيرهم ممن حصدت صواريخه أرواحهم، كانوا سيكبرون على أية حال ليصبحوا مقاتلين يقتلون أطفال إسرائيل البريئين.

لن يسمح الصديقان لـ "أضرار جانبية" مثل ضحايا المستشفى المعمداني، بأن تعكّر صفو صداقتهما المستجدّة، ولا بأن تخرّب الهدف الرئيسي المعلن من الحرب على غزة، وهو اجتثاث "حماس" وصنع "شرق أوسط جديد" يراه الرجلان زاهيا مشرقا، لولا تلك "المشكلة المزعجة" التي تسمّى القضية الفلسطينية

لا نعرف كيف سيكون شكل اللقاء بين الرجلين، ولا طبيعة الحوار الذي سيدور بينهما. لكننا نحتاج إلى الكثير من الاجتهاد لندرك ان "الأسئلة الصعبة" التي قيل إن الرئيس الأميركي سيطرحها على نتنياهو، لن تغيّر شيئا في واقع الأمر. فمن تشاركا في صنع السردية التي قامت عليها هذه الحرب، وسيقوم عليها استمرارها، لن يسمحا لمثل هذا الخلاف، إن حدث في المقام الأول، بأن يفسد للحلف قضية. فهو أولا وأخيرا خلاف على "تفصيل ثانوي"، على ما يقول عنوان رواية عدنية شبلي، وليس على المبادئ الأساسية.

بعد صدمة أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، أفاقت النخب الأميركية، الأكاديمية والإعلامية والسياسية، على السؤال الجوهري: "لماذا يكرهوننا؟". لم يفهم الأميركيون في ذلك الحين، لماذا يحتفل كثير من العرب بتلك الواقعة المرعبة؟ كيف لإنسان أن يفرح بمقتل كلّ أولئك الأبرياء. بالطبع، كان على العرب أن يدفعوا ثمنا غاليا، وما زالوا يدفعونه، ثمنا لتلك المشاعر الأوّلية الساذجة التي كان عنوانها الأول والأخير "فليذوقوا بعضا ممن ذقناه على مرّ العقود". تكدّست الدراسات والمقالات والنظريات التي حاولت الإجابة عن السؤال الأميركي: لماذا يكرهوننا، والتي تمضي جميعها في اتجاه واحد، الانحياز الأميركي السافر لإسرائيل، والذي يتجلّى هذه الأيام بأوضح تجلياته، ولا يجب أن ننسى بأن مجزرة المستشفى المعمداني وقعت قبيل انطلاق جو بايدن في رحلته الداعمة لإسرائيل والتي سيشارك خلالها في الغرفة العسكرية، وبعيد الإعلان عن أنه سيطلب من الكونغرس مئة مليار دولار دعما لإسرائيل وأوكرانيا، وفي اليوم نفسه الذي أخفق فيه في إقناع إسرائيل بإدخال المساعدات إلى جنوب غزة، وأحبط مشروع قرار أممي لوقف إطلاق النار.

 ربما تمرّ ثلاثين سنة أخرى، كالتي مرّت منذ اتفاقية أوسلو، وتشهد المنطقة والعالم مزيدا من الحروب والمآسي، ويتكدّس مزيد من صور الأطفال القتلى، ويظلّ الأميركي يبحث عن جواب عن السؤال الأبدي: لماذا يكرهوننا؟


لا شيء سيتغيّر في المعادلة، والأمل بأن مجزرة كبرى كهذه قد تدفع إلى وقف الحرب، بدّدته الغارات الإسرائيلية المستمرة على القطاع، واستمرار استهداف المدنيين، بعد وقوعها. قد يقتنع بايدن أو لا يقتنع بما سيسوقه نتنياهو وجيشه من ذرائع (وإن كان قد أعلن تصديقه الرواية الإسرائيلية الهشّة)، هذا أيضا "تفصيل ثانوي"، وفي السردية التاريخية ستظلّ صورة الأطفال القتلى المكدّسين جنبا إلى جنب، هي المهيمنة، وستظلّ مشاعر الحسرة والألم والعجز والقهر هي المهيمنة، وكما لم ينس الفلسطينيّ كل المجازر السابقة من دير ياسين إلى صبرا وشاتيلا، فإنه لن ينسى مجزرة المستشفى المعمداني، وربما تمرّ ثلاثين سنة أخرى، كالتي مرّت منذ اتفاقية أوسلو، وتشهد المنطقة والعالم مزيدا من الحروب والمآسي، ويتكدّس مزيد من صور الأطفال القتلى، ويظلّ الأميركي يبحث عن جواب عن السؤال الأبدي: لماذا يكرهوننا؟ ويظلّ الجواب الفلسطيني العربي: ولكن، كيف يمكن أن نحبّكم؟

font change