تكمن أهمية الكتاب في أنه يؤرخ بالتفصيل لنهاية الوثنية في بلاد الشام، حيث كانت غزة آخر معاقلها، على الرغم من الانتقادات الأكاديمية المعاصرة له، حيث غلب عليه، بحسب المنتقدين، الأسلوب التقليدي النمطي لسير النساك والقديسين المسيحيين. ومع ذلك لا ينكر هؤلاء أهميته في سرد وقائع ترد عرضا في الكتاب، تتضمن مظاهر حياة من يسمّون بالوثنيين اثناء صراعهم للبقاء مع إعلان الكنيسة حربها عليهم.
كانت غزة معقلا وثنيا مشهورا ومركز عبادة الإله مارنا (أي سيدنا بالنبطية)، وهو الإله المحلي الذي تمت توأمته مع الإله اليوناني الشهير زيوس خلال الحقبة الهلنستية، وغزة كانت واحدة من أهم المدن العربية في الحقب الكلاسيكي، وربما قبل ذلك، وشكلت أهم ميناء للمملكة النبطية خلال القرن الأول الميلادي. وكان عرب تلك الأزمنة متشبثين بمعبوداتهم، ولم يكن من السهل عليهم قبول الإيمان المسيحي بصيغته اليونانية البيزنطية، حيث وصفهم القديس جيروم (342- 420) بأنهم منبع الهرطقات.
خلال مراسم الدفن للذين قتلوا في الغارة الاسرائيلية
في زمن بورفيريوس لم يكن عدد المسيحيين في غزة يتجاوز 280 مسيحيا، في حين كان عدد الوثنيين بعشرات الآلاف، ومع ذلك كان المسيحيون يريدون إغلاق معابد الوثنيين. ولذلك عيّن بورفيريوس أسقفا لغزة وهو في الخامسة والأربعين من عمره. وما إن وصل إلى المدينة حتى فاجأته مقاومة أهلها لإغلاق معابدهم، ويقول مرقص الشمّاس إن الوثنيين نسبوا الجفاف الذي حل بمدينتهم لبورفيريوس قائلين "لقد كشف لنا مارنا (إلهنا) أن أقدام بورفيريوس جلبت الحظ السيئ للمدينة".
وردا على ذلك، أرسل بورفيريوس شمّاسه ومؤرخه مرقص، إلى القسطنطينية عام 398 للحصول على أمر إمبراطوري بإغلاق المعابد الوثنية في غزة. وقد أرسل الامبراطور ضابطا يُدعى هيلاريوس مع جنوده لإغلاق لتنفيذ المهمة، لكن معبد الإله مارنا ظل مفتوحا لأن هيلاريوس تلقى رشوة كبير من المال، بحسب كاتب السيرة.
أيقونة القديس بورفيريوس
ونتيجة لذلك اضطر بورفيريوس للذهاب إلى القسطنطينية في شتاء عام 402 برفقة أسقف قيصرية فلسطين، حيث تمكنا من إقناع الإمبراطورة يودوكسيا، ذات النفوذ الواسع فيي بلاط الإمبراطور أركاديوس، للحصول منه على مرسوم يقضي بتدمير المعابد الوثنية في غزة.
إقناع الإمبراطورة
ويروي مرقص القصة على الشكل التالي: "وصل الأسقفان إلى القسطنطينية فاتصلا بالقدّيس يوحنا الذهبي الفم الذي أحسن استقبالها واهتم بأمرهما. وإذ اطّلع على القصد الذي أتيا من أجله رتّب من خلال رئيس التشريفات، أمانيتوس، لدى الإمبراطورة أن يُنقل خبر الأسقفين إليها ويوصلا بها. فلما أتيا إليها أبدت استعدادها لأن تعرض الأمر على الإمبراطور. وبالفعل عرضته فتلكّأ قليلا لأن غزّة من المدن التي تمدّ الدولة بأموال ضريبية يُعتدّ بها، فإذا ما قست السلطة على السكان في شأن هياكل الأوثان فإنهم سيتفرّقون ولسوف تصيب الدولة خسارةٌ ليست بقليلة من جراء ذلك".
ويضيف مرقص: "عادت الإمبراطورة واستدعت الأسقفين ونقلت إليهما تحفّظ الإمبراطور، لكنها أبدت أنها لن تترك الموضوع حتى تتمّمه بإذن الله. إذ ذاك قال لها بورفيريوس: إننا نرجو في المسيح، ابن الله، إن ساعدتنا في مسألتنا، أن يرزقك طفلا ذكرا سوف يحيا ويحكم وسوف تفرحين به سنين عديدة. هذا الكلام حرّك أحشاء الإمبراطورة بالأكثر فسألت صلاة الأسقفين ووعدت بتحقيق رغبتهما، وأضافت إنها سوف تُنشئ كنيسة في وسط غزّة، بإذن الله. يودوكسيا كانت في شهرها التاسع وساعة وضعها وشيكة. وانتظر الأسقفان بضعة أيام كانا خلالها يذهبان إلى القدّيس يوحنا الذهبي الفم وينعمان بكلامه الإلهي الذي كان أحلى من العسل".
ويقول: "أخيرا وضعت يودوكسيا مولودا ذكرا أسموه ثيودوسيوس، على اسم جدّه، وقد حُسب إمبراطورا من ساعة ولادته ولُفَّ بالأرجوان. ثم أن الأسقفين رفعا عريضة بناء لإيعاز الإمبراطورة. هذه العريضة استقرّت بين يدي من حمل الإمبراطور الصغير في يوم عمادته، واعتُبر أن ثيودوسيوس الصغير وافق على ما ورد فيها بسبب حركة أبداها من نحوها. وكان ذلك على مرأى من الإمبراطور والإمبراطورة. فلما فاتحت يودوكسيا الإمبراطور الوالد من جديد بأمر الأسقفين والعريضة التي رفعاها وافق عليها بعد لأي".
مراسم جنازة ضحايا الغارة الاسرائيلية
أوكل أمر تنفيذ قرار تدمير المعابد الوثنية الثمانية للمبعوث الإمبراطوري الخاص سينجيوس، الذي قام بالمهمة في العام نفسه، فدمّر معابد أفروديت، وهيكات، والشمس، وأبولو، وكور، وتايكي، والهيرويون، ومعبد مارنا أهم المعابد وأكبرها. ويروي مرقص أن الطبقة الرفيعة من مجتمع غزة فرّت من المدينة، فقام الجنود بالاستيلاء على المنازل ودمروا الأصنام وأحرقوا المكتبات الخاصة فيها على اعتبار أنها كتب سحر.
تدمير المعبد الكبير
أحرق معبد مارنا المنسوب للإمبراطور هدريان(76-138)بالقار والكبريت والدهون، واستمرت النار مشتعلة فيه عدة أيام. وكنوع من الانتقام والتشفي أعيد استخدام حجارة المعبد في رصف الشوارع، بحسب كتاب "حياة بورفيريوس".