عن هبة زقوت التي انتصرت على الحرب

رسمت بعين طفل يتخيل حياة أجمل

هبة زقوت

عن هبة زقوت التي انتصرت على الحرب

ما زال بإمكاننا، نحن البعيدون عن هبة زقوت، أن نشاهد لوحاتها، بأن نكتب اسمها عبر محرك البحث في "فيسبوك"، فنشاهد لوحاتها عبر الصفحة التي أنشأتها كصانعة محتوى، نستطيع أن نصدّق أنها لم تمت، وأن الكثير مما أنجزته خلال حياتها القصيرة باقٍ معنا. في 14 أكتوبر/تشرين الأول، بغارة إسرائيلية لا يُمكن إحصاء رقمها أو معرفة وقتها بالتحديد، قُتلت الفنانة التشكيلية الفلسطينية في العدوان الأخير والمتواصل على غزة وتوفي معها طفلها. فشكّل رحيلها خسارة لحركة الفن الفلسطيني، خاصة في ما يخص صناعة هوية فنية مختلفة تراكمت خلال سنوات.

تجربة هبة زقوت لا تتوقف عند ممارسة الفن على المستوى الفردي، بل تخطت ذلك إلى تعليمه أيضا في مدارس غزة، والمشاركة النشطة في الأنشطة الثقافية والفنية في القطاع وفلسطين.

محاكاة الجمال

اللافت في تجربة زقوت أنها لم تكن رهينة محاكاة أي واقع صعب، بقدر ما كانت خلاقة في مقاربتها، فابتكرت مزيجا من واقعية متأملة وصبورة، وقوة نفسية خاصة تظهر عبر لوحاتها.منذ بداية ظهور لوحاتها، اندرجت أعمالها ضمن نزعة جمالية خاصة، آتية من عمق خاص وغني، تتجسّد معالمه في مقاومة الواقع ورفضه عبر فعل إنكاري دوما لطبيعة الحياة التي تعيشها غزة، وهي تبدو ضحية حرب أو دمار أو صور مؤلمة.

منذ بداية ظهور لوحاتها، اندرجت أعمالها ضمن نزعة جمالية خاصة، آتية من عمق خاص وغني، تتجسّد معالمه في مقاومة الواقع ورفضه عبر فعل إنكاري دوما لطبيعة الحياة التي تعيشها غزة، وهي تبدو ضحية حرب أو دمار أو صور مؤلمة

شهدت زقوت جميع حروب غزة، لكنها لم تتعامل مع الحرب بوصفها قدرا عليها محاكاته ورسم آلامه، بقدر ما حاولت الإبقاء على أملٍ عميق وروح إنكارية عظمى لآثار الحرب، مندفعة بالأمل والفن للتطهّر منها. الآلية التكرارية التي لجأت إليها هي طرح غزة وفلسطين بشكل مختلف، برسالة مستقبلية وحالمة. فالقالب العمراني التراثي، والملون بألوان تضفي الفرح والقوة، بتشكيل لوني أقرب إلى مخيلة طفلة، والبعد الروحي الداخلي لها ينعكس في العدة الأساسية لتشكيل اللوحة: المئذنة والصليب والأقصى.

من أعمال الفنانة التشكيلية الفلسطينية هبة زقوت

تتكرّر المفردات الرمزية في لوحات زقوت بوصفها هوية فنية. الطابع التكراري للوحات هو نسيان وإزاحة لكل مخلفات الحرب وواقعيتها، ونقل تجربة العين البشرية إلى مثال آخر، لا تكون فيها أشكال الاحتضار أو الموت حاضرة. عبر التكرار إذان تنكر هبة زقوت الحرب وترفضها وتُخضعها للنسيان، فحين يكون الفن حاضرا عليه أن يقترب من تشكّلات اللون لدى الطفل، بساطة الطفل الفلسطيني ذاته وأدواته ليحافظ على الحدّ الأدنى من الحياة. قد تكون هبة الوحيدة التي ترسم وهي تتخيل طفلا يشاهد لوحاتها أو من يتأمل تماما طفولته، وهو يشاهد المدن آمنة جميلة مفعمة بالحيوية والروح. فتغدو اللوحة سردا، البيت ثم البيت المجاور، ثم البيوت التي يتراصف بعضها فوق بعض. وتنزع زقوت عن البيوت لغة الحداثة، فتصطفّ البيوت والأحياء بأشكالها العمرانية القديمة، دون أي مسافة تفصل السرد المقطعي لكل جزء، اللوحة سرد عن فلسطين المسالمة، أحياء الفن القوطي والزخرفة العربية، الأحياء التي افترق عنها أهلها، وهي ما زالت عالقة في تجليات اللاوعي الفلسطيني.

 

رحلة لونيّة

هذا التكرار يُعيد تشكيل منظور العين في كل مرة، فتأخذ البيوت والأحياء في رحلة لونية ومعيار تشكيلي دقيق على مستوى الخطوط ومستوى الكتلة، وتميل لإضاءة اللوحة دوما من النهار وبحد أقصى إلى الغروب. لن تجد لهبة زقوت لوحة واحدة في العُتمة، دلالة العتمة التي تبتعد عنها لارتباطها بالخوف والموت. قضت هبة بلا شك أوقاتا عصيبة، وهي تُبدل رغبة المحتلّ في إخافتها وإخافة سكان غزة، إلى فعل جمالي حيوي نهاري مفعم بالشروق، ملون وعميق البهجة. وإن رسمت الغروب فيكون لحظة مفارقة لليل، وشوقا للنهار لا أكثر.

من أعمال الفنانة التشكيلية الفلسطينية هبة زقوت

 أعادت هبة عبر لوحاتها أشكال المدن الفلسطينية؛ يافا، غزة، القدس، والتي دوما ترتفع فيها كتلة الأقصى الشريف، وهو يأخذ لونا من السماء، ويحيطه فرح الأبنية في جعله رأس الهرم، والنور الذي يتكاثف عليه بملمحٍ أيقوني. أما غزة فأعادت لها البحر دوما، المراكب والشاطئ الملتصق بالمدينة بتشكيل يقترب من رؤئ التراث أكثر من كونه شكلا حداثيا.

 جميع لوحات زقوت هي جزء من الحلم والأمل، أشكال المدن هي الصور التي تعلق في رأسها وذهنها، وتحاول رصد الحلم صامتا، بانطباع الذاكرة والمدينة دون أثر للبشر، كطفل يعكس ذاكرته وآماله وأحلامه ورؤاه دون تدخل من أحد. كل لوحات المدن هي مشهد انطباعي لذاكرتها وذاكرة من علمتهم، أليس أول ما يرسمه الطفل الشمس والبيت والشجرة؟ حرصت هبة على مقاربة لوحتها بمعيار طفولي، كأن تصور فوق مدينة القدس أشكال المفرقعات النارية وألوانها، ما كان هما عندها: الطفل؛ كيف نجذب الطفل للفن، وكيف نغير ذاكرته أيضا، وكيف نجعله ينسى المأساة من خلال الفن؟

من أعمال الفنانة التشكيلية الفلسطينية هبة زقوت

هكذا، قدّمت زقوت نموذجا للمدن الفلسطينية بأبهى جمالها، وهي تحمل ذاكرة فلسطين كأنها لغة حاضر حالمة، كيدٍ ممدودة ودعوة لزيارة بلدها، كل لوحة تحمل مدينة وحيا، ومبنى، ومراكب، ويدا ممدودة تدعونا إلى مخيلتها وإلى مدنها. مكان زقوت ليس مكانا للحرب بل للجمال، كان اختفاء البشر من لوحاتها، رسالة لهم لكي يأتوا إليها.

 

المرأة الفلسطينية

وجه آخر في تشكيل هبة زقوت يحمل رسالتها أيضا، المرأة التي ترسمها بوجهٍ مبتسم ومستسلم وآمن، وجه الأم المُسالم والمعطاء والكريم، بين الوجه الطفولي ومقياس الجمال التقليدي يحضر وجه المرأة في لوحات هبة. والجسد أقوى من الوجه، وبلا قياسات واضحة ومثالية تصنعه بانطباعية حرة، بحواف شبه صلبة وقاسية كدلالة لجسد المرأة القوية والقادرة. أما رسالة المرأة فهي دوما خلفها أو في يديها، كأن تُمسك بيد فتى يرفع نبتة، أو امرأة تحمل حمامة سلام، ولا تتردد بأن تضع قلبا واضحا في اللوحة. بساطة اللوحة والتعبير تتراكم عبر اللوحات، المرأة عند زقوت تملك هوية بصرية وهوية فردية. تُكرر هذه الرسالة وتتنوع عند هبة، فالجسد يجسّد صلابة المرأة الفلسطينية، أما الوجه فروح الصبر والسلوان. الدراما التي تتكاثف في التكرار تصبح سردا، من امرأة الحصاد الفرحة، المُحاطة بالبيوت، إلى المرأة المحتضنة للطفل، للفتى، وللأرض. تنتقل المرأة في لوحات هبة زقوت إلى عالم إدراكي وإبداعي تقول فيه إن دور المرأة الفلسطينية يشكل فلسطين ذاتها. حتى أنها تُقسم اللوحة وتزخرفها بوصفها تعددا للأمكنة والأزمنة، من زراعة الأرض، إلى الشتاء والماء، إلى احتفالات الحصاد، إلى البيوت المختلفة الإنشاء والزينة.

خلال تجربتها الفنية كلها، لم تقترب هبة زقوت من محاكاة الموت أو الحرب، بل استخدمت ذاكرة الطفل وإدراكه، والذي تتعامل معه في المدرسة كل يوم لتشاهد في عينيه ما يتخيله أو يُريده

من غزة إلى رام الله، من لون الرمال في غزة، حتى زرقة البحر، حضور المرأة هو الأهم، وهو رسالتها نحو حرب تقتل جوهر الحياة نفسها. والمرأة هي الوحيدة في لوحاتها التي تنتقل بين الأمكنة وإزاء وجودها يتغير المشهد والتفاصيل كلها. فالمرأة تحمل سمات أوضح، ورمزية ماثلة في لباسها وملامحها.

من أعمال الفنانة التشكيلية الفلسطينية هبة زقوت

خلال تجربتها الفنية كلها، لم تقترب هبة زقوت من محاكاة الموت أو الحرب، بل استخدمت ذاكرة الطفل وإدراكه، والذي تتعامل معه في المدرسة كل يوم لتشاهد في عينيه ما يتخيله أو يُريده، وحينما كانت رسالة المرأة خالدة في فلسطين نقلت الوجه والجسد إلى كل مكان. هذا الموت الذي لم تنقله ولو لمرة واحدة عبر لوحاتها وصل إليها خفية وغدرا. كانت وجها شديد الخصوصية داخل غزة يشكل هويته كحلم وتكرار، يزيح الحرب، ويصنع هوية فلسطين. وقد خسرت الهوية البصرية للذاكرة الفلسطينية إبداعا ومعنى هائلين لقوة الفنان وقدرته. الموت في الحرب هو القيمة المضافة للإبداع، كل الأمكنة التي حلمت بها زقوت ورسمتها تتحدّى القذيفة التي هدمت البيت فوقها.

font change

مقالات ذات صلة