كتّاب شباب من العراق: غزة اختبار العقل والضمير

مأساتها توقظ ذاكرة المآسي العربية

Aliaa Aboukhaddour
Aliaa Aboukhaddour

كتّاب شباب من العراق: غزة اختبار العقل والضمير

تضع الحملة العسكرية الشرسة التي تشنّها إسرائيل ضدّ قطاع غزة منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، وما نتج عنها من خسائر ضخمة في أرواح المدنيين والأبرياء، العالم برمته أمام ضميره ومسؤوليته الأخلاقية، مثلما تجعل منظومة القيم التي راكمها الإنسان ولطالما تفاخر بها عن الحقوق المشروعة، وقدسيّة الحياة، وحماية الطفولة، والتقدّم الحضاري، محطّ محاكمة ومراجعة عسيرة.

فالصور المروعة التي تصل كل لحظة من غزة، جعلتنا جميعا ضحايا ما يحدث. حتى من نجا، إن كان ثمة من نجاة في الحرب، ليس بناج تماما. امتحان الإنسانية الدائر هذه الأيام يتبدّى ثقبا أسود يبتلع العالم إلى هوة سحيقة مظلمة.

يعرف العراقيّ، أكثر من غيره، معنى القصف المتصل الذي لا هدنة فيه ولا استراحة. يعرف معنى السحق تحت آلة عسكرية متجبرة جن جنونها، لا تبالي بحياة طفل أو امرأة أو شيخ. فقد عايش العراقيون قصف المستشفيات والملاجئ والبيوت، وكيف يتحيّنون اللحظة بين موت وموت فقط ليدفنوا أحبتهم أو يلقوا عليهم النظرة الأخيرة. كما يعرفون الغرق بالظلمة شهورا بلا كهرباء، مثلما يعرفون حرب قطع المياه واللجوء الى الشطآن للشرب، وهو ما جعل استجابتهم مع أحداث غزة واسعة عميقة.

حاولوا أن يدفعوا بالهمجية أولا على حساب المدنية، وأقصد بهذا جميع الأدباء المناصرين لإسرائيل، والمضحك أن التباسا بديهيا كهذا حرّك الشر من مكامنه حتى صارت فلسطين حدا فاصلا، حدا جوهريا، وأداة قضاء عادلة


حسن عائد

مأتم مفتوح

وسط هذا المأتم المفتوح، هل ثمة فسحة للفكرة؟ للون والكلمة، في فهم فداحة ما يحدث؟ ماذا يفعل الكاتب والفنان العراقي وهو يراقب الشاشات عاجزا إلا من كلمته؟ كيف ينظر الجيل الجديد من الكتاب العراقيين إلى ما يجري في غزة اليوم؟ ماذا يجول في خواطرهم، هم الذين تنفسوا الحياة على وقع الاحتلال الأميركي، ثم العنف الطائفي، أعقبه دخول داعش وسيطرته لثلاث سنوات على مساحات واسعة من البلاد، وما خلفته تلك الأحداث كلها من تفاعل ومعايشة عن قرب مع مأساة الحرب والخراب النفسي والمعنوي.

يتساءل الفنّان التشكيلي والشاعر حسن عائد: "هل بإمكان اللوحة أن تغيّر مجرى الكارثة؟ هل باستطاعة الشعر ذلك؟ هل الشعر والفن ممكنان في غزة الآن؟ ليخبرني أحد أي الألوان أكثر تأثيرا وأي المفردات أكثر مطاوعة.. ليخبرني فقط ولنغير السياسي بالجمالي. مهمة الفن حسب هيغل هي تحويل السطح المرئيّ للشكل إلى عيون لا حصر لها. لكن هل يتفق هذا مع الكارثة؟".

REUTERS
تظاهرة تضامنية مع أهالي غزة، في بغداد، العراق، 28 أكتوبر 2023.

ويوجّه عائد أصابع الاتهام إلى الكتّاب والمثقفين الذين لا يعلو صوتهم في زمن الحرب فوق صوت القنبلة، فيقول: "كانت الثقافة واحدة من أهم وسائل التحرر العقلي، وأصبحت الآن إدانة أخلاقية لصاحبها.. حاولوا أن يدفعوا بالهمجية أولا على حساب المدنية، وأقصد بهذا جميع الأدباء المناصرين لإسرائيل، والمضحك أن التباسا بديهيا كهذا حرّك الشر من مكامنه حتى صارت فلسطين حدا فاصلا، حدا جوهريا، وأداة قضاء عادلة.. لا يهمني التأثير الذي تركه المثقفون في العالم بل ما حاكوا في أنفسهم. أقول إن أطفال غزة لا ينتظرون مشاهد المثقفين في وحلهم، بل يتطلعون من أطلال بيوتهم لرصاصٍ حي واشتباك عنيف.. البندقية تفعل ما لا تفعله الريشة والكلمة أيها الحالمون".

 على الجميع ترك كل الأيديولوجيات وراءهم والوقوف ضد قتل الأطفال وتعذيبهم... لا يهم أن ينتمي الطفل إلى أي جهة. لأن الطفل خال تماما من الصراعات التي تؤدّي إلى هذه الحروب والقباحات


خلات علي

الحرب أم الشرور

وتتحدّث الشاعرة الكردية خلات علي عن الكيفية التي تغيرنا بها الحروب، وكيف تسمم الحياة وتطلق أشباح أسئلة لا جواب عنها: "الحرب أم الشرور كما جاء في الحكمة، لكن الحرب مناسبة للتفكير بحقيقة مبادئ الإنسان حين تكون على المحك". وتفرد الشاعرة مساحة واسعة في تفكيرها بالحرب على غزة إلى الطفل الفلسطيني، والظروف المأساوية التي تكابدها الطفولة هناك، وترى أن الأطفال ينبغي أن يظلوا بعيدين عن كل مواجهة سياسية كانت أم دينية، لأن الطفولة محايدة وبراءتها مقدسة، تقول: "لست ممن يبكون على كل شيء، ولا أتفاعل إلا قليلا مع الأحداث اليومية. لكنني شعرت هذه المرة بالحزن الشديد عندما رأيت أطفالا يموتون بكل أنواع الأسلحة وبطريقة أشبه بالإبادة الجماعية. من الطبيعي أن يدفع الكبار ثمن أفكارهم أو أفعالهم، ولكن ما ذنب طفل عمره ستة أيام فقط ليموت من الجوع؟ هل تشمل الإنسانية البعض دون البعض الآخر؟ توقفت لأيام طويلة عن استخدام التواصل الاجتماعي لأن كل ما أراه هو صور أطفال يتألمون. رأيت صورة طفل ميت وفي يده قطعة كرواسون. وحتى الممات، كلما رأيت قطعة كرواسون، سأتذكر ذلك الطفل الذي أراد أن يأكل وعلى الأقل ألا يموت جائعا. رأيت صورة طفل وجهه مغطى بالدم، يحدّق بشيء ما. ارتبكت... ربما يفكر في مدى وحشية الناس ويتمنى أن يموت ولا يعود واحدا منهم. أو يمكن أن يفكر ويقول في نفسه: ماذا لو عدنا إلى الوراء، قبل كل هذا، وأوقفنا الزمن؟".

اقرأ أيضا: الوجود هناك، الوجود هنا: الكتابات الفلسطينية في العالم

وترى علي أن كل موت يمكن تصوّره -لا تبريره- إلا موت الأطفال، وتقابل بين حوادث الموت الفلسطينية وما شهدته كردستان من حالات مأساوية راح بسببها الأبرياء:"لا يمكن لأحد أن يتصور موت طفل على أنه موت شخص عادي. كلمة طفل كتلة خالية من أي تفاهات بشرية، أهم شيء بالنسبة له هو احتياجات الحياة والحب. لا تفسير لكل ما يفعله الإنسان بالإنسان في ذهن طفل لا ينتمي إليهم. ذكرتني المشاهد الآتية من غزة بحادثة مأساوية قطّعت قلبي حينها، عندما مات أطفال عفرين في الشوارع أثناء قصف تركيا لهم. لطالما قلت إنه إذا مات العالم كله، فلن أتأثر بذلك كما أتأثر لموت طفل كردي ذنبه الوحيد أنه ولد في عائلة ليس لها بقعة جغرافية نسميها الوطن. لكنني كنت مخطئة. فالطفل أينما كان هو كائن بريء ولا علاقة له بما يحدث. ولذلك فإن موته حدث مختلف، ويجب على الجميع ترك كل الأيديولوجيات وراءهم والوقوف ضد قتل الأطفال وتعذيبهم... لا يهم أن ينتمي الطفل إلى أي جهة. لأن الطفل خال تماما من الصراعات التي تؤدّي إلى هذه الحروب والقباحات".

ما يحدث في غزة يشعرني بالفجيعة بكل معنى الكلمة، رؤية الموت والدمار والتشريد، وقلة الحيلة المتزامنة، تؤدي بي إلى نوع من اليأس، وربما هو أصاب الجميع

حيدر الدرّة

الفلسفة لا تحاسب

من جانبه، يرى الكاتب حيدر الدرّة أن أشدّ إساءة يوجهها الإنسان لنفسه حين يظن خيرا بالعالم. ويفصّل بالقول: "ما حدث في غزة أو غيرها مما يحدث كل يوم في بقية بقاع العالم، يؤكد غرائبية الطبيعة البشرية وقسوتها. بالطبع تعني لنا غزة أكثر من أي مكان آخر، حتى وإن تغيرت توجهاتنا أو تحولت معتقداتنا، فالتكوين العاطفي للإنسان أسبق من تكوينه المعرفي، لذلك فما يحدث هناك يشعرني بالفجيعة بكل معنى الكلمة، رؤية الموت والدمار والتشريد، لا يمكن غض الطرف عنها، وقلة الحيلة المتزامنة، تؤدي بي إلى نوع من اليأس، وربما هو أصاب الجميع وتغلب، فعن نفسي لا أشعر بإمكانية أن ينقذنا شيء ما، مع ذلك، هناك ما يشبه الغريزة تدفعني للاستمرار، للكتابة أو الاحتجاج وغيره".

AFP
الدخان يتصاعد داخل قطاع غزة جراء القصف الاسرائيلي، 29 أكتوبر 2023.

ويضيف الدرة في معرض تفكيره بأسباب ما يحدث من اعتداءات تهز الضمير الإنساني ولكنها تمر بلا مراجعة حقيقية، ويذكرنا في هذا السياق، بمآلات المحاكمات الأخلاقية التي جرت عقب كل حدث حربي كبير هزّ العالم: "أود الالتفات إلى نقطة مهمة، ربما ليس مناسبا الحديث عنها، وهي أن الفلسفة لا تُحاسَب. والخطابات التنويرية والتي هي وليدة رومانسية القرن السابع عشر، والتي يتبناها الغرب أو يتبنى مفاعيلها، لا تُحاسب حتى يقال إن تلك المفاهيم باطلة أو زائفة، وإنما الأنظمة تلك أثبتت زيف متبنياتها وزيف نظرة تلك الحكومات لكل ما هو خارج حدودها، وخارج حدود عالم السياسة الذي تحكمه القوة والمصلحة".

ويختتم الدرة حديثه بالقول: "العالم العربي والاسلامي يعيش حاليا صدمة فعلا، فالمتخيل لا يشبه الواقع، تلك التلميعات والتي يقابلها تحقير للذات، ليست بمحلها، وهذا مهم، الصدمة مهمة وربما ستنتج تفكيرا جديدا، أما القادم على وجه العموم فهو لا يبشر بأي خير".

فلسطين بوصلة للبصيرة الداخلية. الموقف مما يحدث فيها يضع المرء أمام جملة من المضامين والرؤى التي عليه أن يسبر غورها ليكتشف حقيقته هو بمرآة حقيقتها

ملاك جلال

فلسطين بوصلة

الشاعرة ملاك جلال ترى أن "فلسطين بوصلة للبصيرة الداخلية. الموقف مما يحدث فيها يضع المرء أمام جملة من المضامين والرؤى التي عليه أن يسبر غورها ليكتشف حقيقته هو بمرآة حقيقتها هي. فلسطين فيصل وامتحان للضمير، لكنها امتحان للعقل أيضا، ولمعنى أن نراكم العلوم والاختراعات الذكية من دون تقدّم حقيقي وجاد في تجنيب البشر ويلات الموت المجاني عبارة 'من النهرِ إلى البحر'.. تتردّد في داخلي منذ بداية الحرب على غزة، كلّما لمحتُ شعاعا من الضوءِ أو أدركتُ الظلمة. أي كلما وقفتُ على حافةِ شيء ما. ففي النهاية، فلسطين تخبرنا باستمرار، أن ليس كمثلها حافة أبدا".

اقرأ أيضا: مثقفون وكتاب غربيّون: غزّة عنوان نكبة جديدة

وتضيف جلال في تأملها لبلاد الزيتون مستعيدة وقائع جرت على أهل بلادها في العراق، واثرت فيها رغم أنها لم تعشها، ذلك لأنها رأتها في عيون من شهدوا الفظائع. كأن ما يجري هو تكرار لفيلم جنائزي طويل لا ينتهي: "فلسطين هي الحافة، الحافة التي يستيقظ عندها كل شيء، فيستدرك ما له وما عليه.  هذا ما يقوله أب ينعى ابنهُ تحت الانقاض، وهذا ما يقوله طفلٌ، لا يعرف عن العائلة شيئا غير أنها لم تعد موجودة. وهذا ما تنكره الأمم النائمة فوق سطوح التاريخ. ما يحدث هناك، في المدينة المنكوبة، هو فيلم جنائزي خالص، لطالما عشناه، بنسخٍ مختلفة في العراق، وفي البلاد العربية. وهذا الفيلم الذي ارفض ان اتقبله حقيقة وواقعا، يدع الجثث تستيقظ من جديد في دمي، تضخ شجرة العائلة دماءها مجددا في جسدي. فأعيش، حتى ما لم أستطع مواكبته، حروب خاضها أهلي، وحصار عانوه، واحبة فقدوهم. أعيش من جديد، مع أهل غزة، ما عاشه أهلي ذات يوم، لأن الشمس تسقط كل يوم، لكن ما يتسع هو الخراب.. ما يتسع هو الذاكرة الدموية لنا، عدد الجثث، البيوت المهدمة، والعيون المتورمة من البكاء. وشيءٌ آخر عجيب: الوجه الذي يبتسم كل يوم، لأن الشمس تشرق، مجددا، كل يوم".

REUTERS
من التظاهرة التضامنية في بغداد، 28 أكتوبر 2023.

وتستدرك ملاك لتقول: "إلا أن الفيلم الجنائزي الذي يحدث في غزة، له خصوصية نوعيّة في زمننا هذا، إذ تتعرّى المفاهيم الغربية، بكل مناحيها الأخلاقية والإنسانية، وتتفكك ببطء أمامنا شفرات الإنسان الحداثوي هناك، ليظهر بكامل هشاشته الثقافية والتاريخية: كائن حديث، يعيش على قشرة الكوكب، ولا يفقه شيئا من الدنيا غير مفردة السلام التي تناولها بالملعقة، بينما كان يجب أن يسعى إليها باليد. إن هذين الشرخ والتصدع في الهوية، ينسابان في كل اتجاه، ويتسربان إلى الجميع داخل حرب فكريّة وتاريخية، أصلها الدماء وفروعها الضحايا".

وتختتم ملاك أفكارها قائلة: "فلسطين هي الحافة. لأنها تذكرني وتذكّر الجميع دائما، بأن ثمة اتجاهين لا أكثر، إما أن تقفز الى الهاوية، أو أن تعود إلى أرضك، حيث تمتد جذورك الأولى. وفي العودة الى الأرض، عودة إلى الهوية، إلى النخيل والزيتون، وإلى النهر والبحر.. هناك: حيث يرسم الطفل بيت أحلامه.. ولا يتهدم في الصباح".

font change

مقالات ذات صلة