كيف يحصل أهالي غزة على الانترنت

من الراديو وولائم الشحن الجماعي الى شرائح إلكترونية دولية تشغل الخليوي عن بعد

Ewan White
Ewan White

كيف يحصل أهالي غزة على الانترنت

في الـ 27 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قُطعت شبكات الاتصالات الخليوية الفلسطينية والانترنت عن قطاع غزة، نتيجة استهداف الجيش الإسرائيلي مناطق حدودية شرق بلدة بيت حانون أقصى شمال شرق القطاع بصواريخ حربية، مما أدى إلى حرمان أكثر من مليوني غزي من الاتصال والتواصل في وقت هم أحوج ما يكونون فيه إلى التواصل في ما بينهم ومع الآخرين في الخارج.

بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول بأيام عدة، استهدف الجيش الاسرائيلي بالطائرات مبنى شركة الاتصالات الفلسطينية، في مدينة غزة، ضمن استهداف مربعات سكنية واسعة في حي الرمال وسط المدينة، مما أدى إلى تضرر أبراج الإرسال الخاصة بالانترنت، وانقطاع الارسال عن مساحات واسعة.

للمزيد إقرأ: "حرب غزة" تدخل شهرها الثاني... ماذا حصل منذ 7 أكتوبر؟

أكرم عجور 32 عاما، من سكان غزة، يستخدم الانترنت للتواصل مع أقاربه الموجودين في منازلهم داخل المدينة، فيطمئن بعضهم على بعض كلما سمعوا صوت انفجارات، وفي حال لم يرد أحد من الأقارب، يلجأ إلى متابعة الأخبار عبر المجموعات الإخبارية المحلية المتوفرة، لمعرفة مكان الاستهداف وما إذا كان قريبا من أقاربه وأصدقائه.

عودة الى الراديو

يقول للمجلة: "في اللحظة التي انقطع فيها الانترنت، أصبحت حيران كالأطرش والأعمى، لا أستطع معرفة أو مشاهدة ما يحدث، ولم أتمكن من التواصل مع أحد". عادت حياة عجور ومئات الغزيين مثله بالزمن الى أكثر من 50 عاما، قبل ظهور الانترنت والاتصالات الخليوية وربما قبل انتشار الكهرباء.

DPA
وليمة شحن الهواتف المتصلة بمقبس كهربائي واحد في إحدى محطات جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني.

ما جرى أجبره على البحث عن بدائل، مثل الراديو القديم الذي يعمل على بطارية صغيرة الحجم، ليصبح وسيلته الوحيدة لمعرفة ما يجري، لكن "الإرسال كان ضعيفا ومشوشا، بس أفضل من حالة الانعزال التام". اشترى أكرم عددا كبيرا من البطاريات المتوفرة في محل قريب من منزله تحسبا لطول فترة الانقطاع. وهو استمر على هذه الحال الى ان سمع بالتهديدات والتحذيرات من الجيش الإسرائيلي التي تطالب سكان غزة وشمال القطاع بالنزوح في اتجاه النصف الجنوبي للقطاع، فشعر بالخوف على عائلته وأطفاله وقرر النزوح نحو دير البلح عند أصدقائه.

في اللحظة التي انقطع فيها الانترنت، أصبحت حيران كالأطرش والأعمى، لا أستطع معرفة أو مشاهدة ما يحدث، ولم أتمكن من التواصل مع أحد

أكرم عجور (32 عاما) من سكان غزة

بعد النزوح، تمكن من ولوج الشبكة العنكبوتية مرة أخرى، لكن خلال أوقات محدودة بسبب انقطاع الكهرباء واقتصار عمل المولد الكهربائي على أقل من 3 ساعات يوميا، هي الفترة التي يعمل خلالها الناس على رفع المياه من بئر خاصة لتلبية احتياجاتهم الشخصية اليومية لهم ولأُسرهم، واستمرت الحال الى 27 أكتوبر/تشرين الأول، اليوم الذي قُطعت فيه الاتصالات والانترنت، فانعزلوا مرة أخرى عن العالم.

تخزين وتكديس

لم تكن الحرب الإسرائيلية الأولى التي تُفرض على الغزيين خلال السنوات الأخيرة الماضية، فقد سبقها العديد من الحروب والعدوانات والاجتياحات البرية، مما أجبر المواطنين على اتخاذ تدابير وإجراءات احتياطية لأي طارئ. محمود قديح 47 عاما، متزوج ولديه 5 أبناء، يسكن في منزله شرق محافظة خان يونس جنوب القطاع، عمل خلال السنوات الأخيرة على شراء وتخزين قرابة 2000 ليتر من السولار، يقول: "ما بعرف الواحد وقتيش بتيجي حرب وقطع للمحروقات، هدول مخزون لتشغيل المولد الكهربائي، من خلاله بقدر ارفع المي وأشغل الانترنت"، لكنه لم يعلم أن مخزونه لن يفيده في شيء.

مع اشتداد الضربات المدفعية وتوغل الدبابات والآليات العسكرية الإسرائيلية شرق خان يونس، اضطر الى النزوح مع أسرته الى المنطقة الغربية للمدينة، فلم يتمكن من الافادة من المخزون الإستراتيجي الذي كان يخطط للاعتماد عليه، فتركه وراءه كغيره من المواطنين الذين غادروا منازلهم بكل ما فيها من مواد غذائية ونزحوا خوفا من القتل والدمار .

في الوقت إلي مش لاقين ناكل ونشرب، لا نفع للانترنت، لن يمنحنا الشبع أو يروي عطشنا، البعض يبحث عن بدائل لكن أنا أكتفي بما أسمعه من أخبار عن طريق الراديو أو الآخرين، وأنتظر لحظة توقف الحرب للعودة الى المنزل

محمود قديح (47 عاما) متزوج ولديه 5 أبناء

يقيم قديح اليوم في مركز إيواء مع عائلته في مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين بخان يونس، بالكاد يستطيع توفير الاحتياجات الأساسية من مأكل ومشرب، وهو منقطع عن الانترنت منذ أسابيع، يقول: "بالوقت إلي مش لاقين ناكل ونشرب، لا نفع للانترنت، لن يمنحنا الشبع أو يروي عطشنا، البعض يبحث عن بدائل لكن أنا أكتفي بما أسمعه من أخبار عن طريق الراديو أو الآخرين، وأنتظر لحظة توقف الحرب للعودة الى المنزل".

شرائح إلكترونية وإسرائيلية

مع ضعف شبكات الانترنت وقطع الكهرباء والمحروقات عن غزة، واجه الصحافيون مشاكل عدة في التواصل مع مؤسساتهم الاعلامية في الخارج، فكانوا يرسلون الصور ومقاطع الفيديو والرسائل الاخبارية بصعوبة، لكن معظمهم اعتقدوا أنّ هذه المشاكل ستحلّ في ضوء التهديدات والتحذيرات الإسرائيلية التي تطالب السكان بالنزوح نحو الجنوب.

لجأ معظم هؤلاء الصحافيين والاعلاميين إلى خيم خاصة بالصحافيين في المستشفيات في وسط القطاع وجنوبه، إلا أنّ الأمر لم يكن يسيرا بسبب الضغط الكبير الذي شكله عدد الذين يحتاجون إلى تحميل مواد إعلامية على بعض خطوط الإنترنت المتوفرة، والمحدودة التحميل. سمر أحمد مصورة صحافية تعمل مع وكالة أجنبية، لجأت إلى خيمة الصحافيين في مجمع ناصر الطبي بخان يونس، تقول "كان العمل واستخدام الانترنت أمرا صعبا لكن كنت أتمكن من تحميل الصور حتى لو حدث تأخير أو مشاكل في شبكة الانترنت لعدة أيام".

EPA
الغارات الجوية الإسرائيلية دمرت كل البنى التحتية في شمال قطاع غزة، 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2023.

استمرت في عملها بالوسائل المتاحة، حتى مساء 27 أكتوبر/تشرين الأول، وأثناء عملية رفعها صورا على الانترنت، فُصل الإرسال بشكل مفاجئ: "ظننا انها مشكلة داخلية من شبكة الانترنت"، وبعد محاولات لإصلاح العطل تنبه أحد الصحافيين إلى اختفاء الإرسال في شبكات الهاتف الخليوي الفلسطينية والعاملة في قطاع غزة "جوال" و "أوريدو".

تيقن الزملاء أنّ هناك مشكلة عامة، وما هي الا دقائق حتى علموا من طريق إحدى القنوات الفضائية الإخبارية بأنّ عطلاً أصاب شبكات الاتصال والانترنت في غزة نتيجة قصف إسرائيلي شمال القطاع، فانتقل الصحافيون الى البحث عن وسائل بديلة للتواصل لإرسال المواد الصحافية ورسائلهم الإخبارية عن الأحداث والوقائع الخاصة بالحرب والنارحين على أرض الواقع.

تمكنت سمر من الحصول بواسطة زميل لها على شريحة اتصال إسرائيلية موصولة بإنترنت 4G لكنها تحتاج إلى مكان مرتفع لتقوية الارسال، فاضطرت إلى تسلق درج للهروب خاص بأحد مباني مجمع ناصر الطبي لتأمين الاتصال بالانترنت مساء اليوم التالي لقطعه عن غزة. تقول: "بقينا تقريبا 24 ساعة بلا انترنت، بلا تواصل مع العالم، واعتقدنا أننا لن نجد أي وسيلة بديلة".

كان العمل واستخدام الانترنت أمرا صعبا لكن كنت أتمكن من تحميل الصور حتى لو حدث تأخير أو مشاكل في شبكة الانترنت لعدة أيام

سمر أحمد، مصورة صحافية تعمل مع وكالة أنباء أجنبية في غزة

راح العديد من الشباب في دول الخارج يبحثون عن وسائل بديلة يمكن توفيرها لمواطني قطاع غزة وخصوصا للصحافيين، فاستخدموا شرائح إلكترونية تُعرف باسم "esim"، وهي شرائح دولية مرتبطة بالأقمار الصناعية، يتم تشغيلها من طريق إرسال كود "QR" وتعريفه على الجهاز الخليوي، وبذلك يرتبط بأقوى شبكة اتصال خليوي متوفرة، سواء إسرائيلية أو مصرية، يمكن أن يصل مدى إرسالها إلى القطاع، وتحديدا الى الجزء الجنوبي القريب من الحدود.

للمزيد إقرأ: هكذا اخترق "سايبر حماس" أسرار الجيش الاسرائيلي

من تمكن من الاتصال بالانترنت تحقق له ذلك من طريق شرائح الاتصال الإسرائيلية التي كانت هي السبيل الوحيد. تقول سمر "عشرات من المتطوعين الشباب والشابات الفلسطينيين والعرب، تطوعوا لشراء تلك الشرائح الإلكترونية وإرسالها إلينا، لم نكن نعرفهم بشكل شخصي، هم متضامنون معنا ومع القضية الفلسطينية، ومهتمون بتمكيننا من استمرار عملنا لنقل مجريات أحداث الحرب دون انقطاع".

غيتي
فلسطينيون من غزة يبحثون في هواتفهم عن شبكة الإنترنت للإطمنان على عائلاتهم في مدينة خان يونس، 29 أكتوبر، 2023.

صحيح أنّ الشرائح الإلكترونية ربما كانت الحل الأفضل الذي توصل إليه الغزيون للتواصل عبر الانترنت، لكنها خدمة حديثة لا تدعمها جميع الهواتف الذكية، بل فقط تلك الهواتف الحديثة الإصدار من شركة "Iphone"  و "Samsung"، وهو الأمر الذي اضطر سمر وغيرها من الصحافيين لشراء هواتف حديثة تدعم خدمة الـ "esim"، ولكن بتكلفة تتجاوز الـ 1400 دولار للهاتف الواحد. استطاع بعضهم التواصل مع محلات بيع الهواتف الخليوية تحت وقع القصف، لكن آخرين منعهم عدم توفر كميات كبيرة من الهواتف أو عدم توافر المال للشراء.

للمزيد إقرأ: في غزّة... تفتت اجتماعي وعزلة إجبارية عن العالم

أما من يعملون كشركات مزودة لقنوات فضائية باتصال مباشر مع مراسيلها وعبر تقنية الفيديو، فكانت مشاكلهم أكثر تعقيدا. المهندس إسماعيل حمادة، يعمل كمهندس بث مع الشركة الإعلامية بغزة منذ أكثر من 17 عاما، أشار إلى أنّ انقطاع الانترنت أجبرهم على استعمال خاصية الـ "Downlink" للقنوات التي يعملون معها، وهي خاصية تعمل من طريق الرسيفر الخاص بالقناة، يتم من خلالها توصيل صوت مذيع أو مذيعة الأخبار بشكل مباشر في أذن المراسل الإخباري.

لكن تلك الخاصية تعتبر مُكلفة من الناحية التقنية، لكون المراسل يحتاج من 15 إلى 20 ثانية ليصله سؤال مذيع النشرة الإخبارية، وهذا ما يسمى بالـ "Delay Time"، أي الفترة التي تحتاجها الموجات الصوتية للإرسال ولإسماع الصوت.

على الرغم من خطورتها، اضطررنا الى استخدام أجهزة الثريا، المُكلفة ماديا، من طريق الاتصال بالأقمار الصناعية، وهي تسمح للجيش الإسرائيلي بتتبع مصدر إرسالها

إسماعيل حمادة، يعمل كمهندس بث مع الشركة الإعلامية في غزة

يضيف حمادة: "هناك طريقة أخرى، اضطررنا لاستخدامها على الرغم من خطورتها، وهي الاتصال عبر أجهزة الثريا، المُكلفة ماديا، وتتم من طريق الاتصال بالأقمار الصناعية، لكن تسمح للجيش الإسرائيلي بتتبع مصدر إرسالها"، ولأنّ الجيش ادعى خلال سنوات سابقة بأن حركة "حماس" تستخدم الثريا للاتصال، فمن الممكن أن يعتبر مصدر إرسالها يشكل خطرا أو تهديدا، وبالتالي قد يسمح لنفسه بقصف واستهداف مصدر الإرسال دون التحقق من المستخدم.

على الرغم من تطور شبكات الاتصال، واكتشاف وسائل آمنة من الناحية التقنية خلال السنوات الماضية، إلا أنّ بعض الأزمات مثل التي فرضتها إسرائيل على مواطني قطاع غزة والعاملين في وسائل الإعلام، أجبرت الصحافيين على "العودة الى العصر البدائي من وسائل الاتصالات، وتعريض حياتهم للخطر"، كما يقول حمادة. 

font change

مقالات ذات صلة