عن أحاديث "اليوم التالي" في غزة

لهذا يبدو لي أن المهمة التي على جميع دول العالم العمل عليها هي وقف هذه الحرب المجنونة على المدنيين في غزة وكسر الحصار تنفيذا لمقررات القمة العربية والإسلامية وإيصال الماء والغذاء والدواء والوقود لأكثر من مليون ومائتي ألف فلسطيني تم تهجيرهم من بيوتهم في شمال غزة. 
ثانيا، من الواضح أن عمليات القتل الفظيعة التي تقوم بها إسرائيل ضد المدنيين تهدف إلى تهجيرهم. ما معنى قصف المستشفيات والمدارس التي تؤوي المهجرين، وقصف دور العبادة، وتدمير بيوت الناس فوق رؤوس ساكنيها؟ أية غاية عسكرية يخدم هذا القتل إن لم يكن إجبار الفلسطينيين على ترك وطنهم؟
الحقيقة أن هنالك خططا معلنة وضعتها إسرائيل لترحيل الفلسطينيين إلى مصر منذ بداية الحرب. في بداية الحرب طالب نتنياهو القادة الأوروبيين الذين زاروا إسرائيل للتضامن معها بإقناع مصر بفتح حدودها "لاستضافة" الفلسطينيين. ثم قامت وزارة الاستخبارات الإسرائيلية بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول بوضع مجموعة خيارات أمام المستوى السياسي الإسرائيلي، منها ترحيل الفلسطينيين إلى سيناء، وإقامة منطقة عازلة داخلها حتى لا يسمح لهم بالعودة لغزة. 

كذلك نشر سياسيون إسرائيليون مقالات سياسية تدعو علنا إلى ترحيل الفلسطينيين لدواع إنسانية. منهم مثلا المقال الذي نشره داني دانون من حزب الليكود، ورام بن باراك من حزب "يش عتيد" في صحيفة "وول ستريت جورنال" ويدعو الدول الغربية إلى قبول هجرة الفلسطينيين "الطوعية" إليها في ظل الحرب. وهذا كله منسجم مع أفكار الجماعات الأكثر تطرفا وتشددا في إسرائيل، ومنهم بتسلئيل سموتريتش، زعيم الصهيونية الدينية المتطرفة، الذي وضع عام 2017 خطه سماها "خطة الحسم"، وملخصها توسيع المستوطنات بشكل كبير جدا في الأراضي الفلسطينية، لإنهاء "الحلم العربي بدولة في يهودا والسامرة قابلة للحياة".
إن الرفض المصري والعربي وحتى الغربي للخطط الإسرائيلية لا يعني بالضرورة منع تنفيذها؛ فإسرائيل لن تكتفي بعملياتها البرية شمالي غزة، وهي ستنقلها لجنوبها، وفي هذه الحالة سيكون هنالك قصف جوي ومدفعي للمدنيين الفلسطينيين، مثلما حصل في شمال غزة. 
في وضع كهذا سيضطر الفلسطينيون إلى الهرب باتجاه مصر، حفاظا على أرواح أطفالهم، وستكون القاهرة أمام ثلاثة خيارات: فتح حدودها للفلسطينيين. أو قتل الفلسطينيين الهاربين أصلا من القتل. أو الاشتباك العسكري مع إسرائيل، وجميعها خيارات لا تريدها القاهرة. 
إن المسألة لا تتوقف على تهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر، ولكن نجاح إسرائيل في هذا المخطط سيشجعها على تهجير الفلسطينيين من الضفة إلى الأردن. وعلى أقل تقدير، سيشجعها على التخلص من فلسطينيي القدس بترحيلهم للضفة. لقد استشعر الأردن هذا الخطر، وهو ما دفع وزير خارجيته إلى التصريح بأن ذلك سيكون بمثابة إعلان حرب على الأردن.
نأتي الآن إلى المسألة الثالثة بأن الحديث عن سؤال "اليوم التالي" الذي يتضمن مسألتين: التسليم بأن الفصائل الفلسطينية في غزة ستهزم دون أدنى شك. وبأن على إسرائيل هزيمة هذه الفصائل، حتى لو تطلب ذلك بعض الوقت.

دعونا نوضح في هذا السياق أن المملكة العربية السعودية ليست طرفا في هذا النقاش، ولا تريد أن تكون طرفا فيه وترفض بحثه، وأولوياتها حاليا منصبة على إيصال المساعدات لسكان غزة، وإيقاف إطلاق النار بشكل دائم، ومنع إسرائيل من تنفيذ مخطط تهجير الفلسطينيين. 
هذا الموقف هو ما صرح به وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان عندما تم سؤاله عن هذه المسألة، حيث أجاب: "أولويتنا هي وقف إطلاق النار وليس أي شيء آخر". 
المملكة أيضا تؤمن بأن للفلسطينيين الحق في الدفاع عن أنفسهم وفي تحرير وطنهم، وهي تقف إلى جانبهم وتدعم خياراتهم، وهي لن تكون إلا كما كانت دائما داعما قويا لحقوقهم. 
أما ما يتعلق بهزيمة الفصائل المسلحة في غزة، ففي تقديري أن الحرب ورغم أنها بدأت منذ ما يقرب من ستة أسابيع، إلا أنها بعيدة جدا عن الحسم. 
لا يُفترض أن يكون المحلل السياسي خبيرا عسكريا حتى يدرك أن الأربعة أسابيع الأولى من الحرب كانت محاولة إسرائيلية لسحق الفصائل المسلحة من الجو، ولم يكن أمام هذه الفصائل للرد غير القصف الصاروخي وانتظار الحرب البرية التي بدأت منذ أسبوعين أو أقل تقريبا، والمشاهد التي تبثها وسائل الإعلام تظهر أن قوات الاحتلال الإسرائيلي تواجه مقاومة شرسة وعنيدة، وأن خسائر إسرائيل أكثر بكثير مما تعلن عنه.
دعونا هنا نتذكر أن الولايات المتحدة احتلت العراق وأفغانستان، لكن مع استمرار المقاومة اضطرت أميركا لمغادرتهما. وفي أفغانستان تحديداً، لم تغادر الولايات المتحدة فقط، ولكنها اضطرت للتفاوض مع طالبان وتسليم السلطة لها. وفي الموصل- ورغم وجود تحالف دولي وجيش عراقي وميليشيات مساندة لهما- لم يتم تحريرها من "داعش" قبل مضي تسعة أشهر. 
لكن المسألة ليست فقط في قوة المقاومة التي تواجهها قوات الاحتلال في غزة، ولكن في طبيعة الأهداف التي وضعها الاحتلال لنفسه. إسرائيل أعلنت أنها تريد تدمير الفصائل المسلحة عسكريا وإسقاط حكمها في غزة، وتحرير الرهائن المدنيين والأسرى من جنودها. 

لكن هذا ما حققته إسرائيل في غزة حتى تاريخ 16 نوفمبر/تشرين الثاني: تدمير 94 مقرا حكوميا. و71 مسجدا. و3 كنائس. و235 مدرسة. و25 مستشفى. بالإضافة إلى قتلها أكثر من 12 ألف مدني فلسطيني غالبيتهم من الأطفال والنساء، وثلاثة أضعافهم من الجرحى.
لا يوجد نجاح واحد يمكن لإسرائيل ادعاء تحقيقه. إسرائيل لم تعلن مثلا أنها تمكنت من الوصول إلى مستودعات سلاح الفصائل المسلحة وتدميرها، وهي لم تعلن عن وصولها لقادة هذه الفصائل وقتلهم أو اعتقالهم، وهي لم تحرر رهينه أو أسيرا واحدا. على العكس، يبدو أن قصفها العشوائي أدى لمقتل بعضهم.

هناك أيضا ثلاث مسائل يجب الانتباه لها: 
إن تراكم الخسائر في صفوف الجيش الإسرائيلي، والأزمة الاقتصادية التي قد تتعرض لها بسبب تجنيدها لكامل قوتها العسكرية الاحتياطية، قد تدفعها للتسليم بعدم القدرة على تحقيق أهدافها المعلنة والبحث عن سُلَم للنزول عن الشجرة العالية التي وضعت نفسها عليها، ومن ثم الدخول في مفاوضات لوقف إطلاق النار مع الفصائل المسلحة. 
ثم إن هناك احتمالا بأن تقوم الولايات المتحدة والدول الغربية بالضغط عليها لإيقاف إطلاق النار قبل تحقيق أهدافها، بسبب الخسائر الهائلة في صفوف المدنيين الفلسطينيين، وبسبب الضغوط على حكومات هذه الدول من شعوبها. 
وهنالك أيضا احتمال تمدد الحرب الذي لا يزال قائما. صحيح أن المواجهات بين إسرائيل والفصائل المسلحة على حدود لبنان الجنوبية لا تزال ضمن قواعد اشتباك مقبولة على الجانبين، لكن أي خطأ من أيٍ منهما قد يؤدي إلى اتساع الصراع ونقله في غمضة عين إلى دول أخرى.
كل هذه الأسباب تجعل التفكير في "اليوم التالي" مسألة سابقة جدا لوقتها، والأهم من ذلك كله أنها تبعدنا عن المهمة الأساسية وهي إدخال المساعدات الإنسانية لمئات الآلاف من الفلسطينيين وهم في أمس الحاجة لها الآن، وإجبار إسرائيل على إيقاف عدوانها على غزة، ومنع تمدد الحرب لدول أخرى.