الانتخابات في العراق... سجال شرعيتها ومشروعيتها

AFP
AFP

الانتخابات في العراق... سجال شرعيتها ومشروعيتها

في كتابه "ماهية الديمقراطية؟ حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية"، يرى المفكر الفرنسي ألان تورين أنه من الصحيح أن لا وجود للديمقراطية دون حرية اختيار الحاكمين من قبل المحكومين، ودون تعددية سياسية، لكننا لا نستطيع الكلام عن ديمقراطية ما إذا كان الناخبون لا يملكون إلا الاختيار بين جناحين من أجنحة الأوليغارشية أو الجيش أو جهاز الدولة...

إن هذا التقهقر الذي تشهده الدول، سواء كانت ديمقراطية أم لم تكن، يستتبع تدني المشاركة السياسية، ويؤدي إلى ما سمي أزمة التمثيل السياسي؛ فالناخبون لا يعودون يشعرون بأنهم ممثلون. وهذا ما يعبرون عنه بشجبهم لطبقةٍ سياسية لا غاية لها سوى تحقيق سلطتها الخاصة، ناهيك عن سعيها أحيانا إلى إثراء أفرادها شخصيا.

ويعتقد تورين، أن الديمقراطية إذا كانت قد ضعفت على هذا النحو فإن من الممكن القضاء عليها، انطلاقا منها هي بالذات عبر الهيمنة التي تمارسها على السلطة أوليغارشيات أو أحزاب تراكمت لديها السطوة على الموارد الاقتصادية أو السياسية لتفرض اختياراتها على مواطنين باتوا ناخبين فحسب.

ينطبق توصيف ألان تورين، على أزمة الديمقراطية في العراق. وحتى أكون أكثر دقة، أزمة الانتخابات العراقية. فالنموذج الديمقراطي، كما وصفناه سابقا، يندرج ضمن توصيف الديمقراطية الانتخابية. بمعنى أن الانتخابات هي الثيمة الرئيسة التي تربطه بالنظام الديمقراطي، وعدا ذلك من معاييره ومؤشراته فتعاني من خلل واضح أو غياب تام. لذلك لا يكون التركيز دائما على الانتخابات، وقراءة آلياتها وتفاعل الجمهور معها، وتقييم مخرجاتها.

المعيار السياسي للشرعية يتحدد بمعايير نجاح النخب الحاكمة بإقناع الجمهور بشرعية سلطتهم

لو توجهنا بالسؤال إلى مواطنين عراقيين عن رأيهم في الانتخابات والمشاركة فيها، سنجد أغلب الإجابات تدور في سؤال استنكاري مفاده: "ماذا قدمت لي الانتخابات؟". أو نجد كثر يكررون هذه الإجابة: "انتخبنا، ولم يتغير شيء"! 
هذا الموقف السلبي من الانتخابات، تقابله دعوات زعماء الطبقة السياسية إلى ضرورة إجراء الانتخابات، وعدها مصدر شرعية العملية السياسية، ويعتبرونها ضرورة لمعالجة مشاكل النظام السياسي وسوء الأداء الحكومي. هذا التباين بين رؤية المواطن والسياسي للانتخابات، يؤشر إلى وجود تقاطع في الرؤى بين شرعية النظام السياسي ومشروعيته. المواطن يرى في الانتخابات مواسم انتخابية لا تغير شيئا من واقع فشل وعجز الحكومات عن تلبية متطلباته. أما السياسي فيرى فيها مناسبة لمشاركةٍ سياسية تشرعن بقاءه في الحكم وسيطرته على موارد الدولة، ولا يهتم بما يجب أن يقدمه نظام الحكم إلى المواطن. 

AP
كتظاهرون مؤيدون لرجل الدين العراقي مقتدى الصدر في 11 اكتوبر 2021


المعيار السياسي للشرعية يتحدد بمعايير نجاح النخب الحاكمة بإقناع الجمهور بشرعية سلطتهم، وترتبط تحديدا بمستوى التوافق بين أداء النظام السياسي والمبررات النظرية التي يستند إليها ذلك النظام. أما المشروعية فمجالها المقاربة القانونية التي تقوم على أساس المطابقة بين الفعل السياسي ونصوص القانون، ومعيارها اختبار صدقية الالتزام بالمبادئ والأسس القانونية التي يتأسس عليها النظام السياسي. إذن، يفترض بالشرعية والمشروعية، وبالأبعاد القانونية والسياسية، أن توفرا الاستقرار السياسي، فهما يمثلان ركائز التكامل الوظيفي في أداء النظام السياسي.

غياب شرعية المنجز


في أدبيات العلوم السياسية، تحدد الشرعية البنيوية- الدستورية للنظام السياسي وفق ثلاثة عناصر، حددها عالم السياسة كارل دويتش: الأول، هو العنصر الدستوري الذي يحدد شرعية السلطة وفقا لمبادئ البلاد الدستورية. أما الثاني، وهو عنصر التمثيل، بأن تقوم الشرعية على اقتناع المحكومين بأن الذين في السلطة يمثلونهم. والثالث، يتعلق بالإنجاز، أيْ إن الشرعية تقوى من خلال الإنجازات الكبيرة التي تمت للمجتمع على يد من هم في السلطة. 

لكي يكون للانتخابات معنى لا بد من توافر مستوى معين من التنظيم السياسي ينعكس على الأداء السياسي والقيام بالوظائف الاقتصادية والأمنية التي تصب في مصلحة المجتمع

بكلامٍ آخر، ثالوث الشرعية هذا يجمع بين الأصول الدستورية التي تمنح الشرعية للسلطات الحاكمة، والتمثيل السياسي الذي يحدد كيفية الوصول إلى السلطة، وماذا تقدم المنظومة السياسية الحاكمة من منجزات للمواطن.
في العراق تزعم القوى السلطوية أن مشروعيتها في العمل السياسي تأتي حسب الأصول الدستورية وفقا للعنصر الأول، ولكن شرعية تمثيلها للمجتمع السياسي مثلومة؛ بسبب عجزها عن تحقيق منجز سياسي أو خدمي أو اقتصادي خلال فترة حكمها. فمعيار قوة وهشاشة النظام السياسي يرتبط بمسألة تبرير الشرعية ومدى تغلغلها في قناعة المحكومين، وشرعية السلطة تتجسد في دعم أو عدم دعم الجمهور لحكومته. في حين أن الطبقة السياسية في العراق تتمسك فقط بمدخلات الشرعية، وهي الانتخابات، ولا تهتم بمخرجاتها التي يجب أن تنعكس في المنجز السياسي والأمني والاقتصادي الذي يولد القبول والرضا على نظام الحكم. هذه الأزمة في التفكير هي السبب الرئيس في اختلال العلاقة بين الحاكم والمحكوم في العراق.
جدلية الشرعية والمشروعية هي التي تحدد جدوى الانتخابات وأهميتها. فلكي يكون للانتخابات معنى لا بد من توافر مستوى معين من التنظيم السياسي ينعكس على الأداء السياسي والقيام بالوظائف الاقتصادية والأمنية التي تصب في مصلحة المجتمع، فالمشكلة ليست مجرد إجراء الانتخابات، بل مدى انعكاسها على أداء النظام السياسي وعمل مؤسسات الدولة. وفي البلدان التي تشهد انتقالا نحو الديمقراطية مثل العراق، ليس للانتخابات من دور سوى تعزيز سلطة قوى اجتماعية معطلة لبناء المؤسسات، كسلطة الزعامات الدينية والسياسية والقوى العشائرية والطائفية.
ولذلك نجد دوائر صنع القرار السياسي في العراق تستجيب فقط إلى مطالب القوى والأحزاب السياسية، وتخضع لضغوط الإرادات الخارجية، ولا تبدي استجابة لمتطلبات الجمهور. ونجد أن الكثير من متطلبات وحاجات المجتمع لا تحظى باهتمام الحكومات أو البرلمان، فهي ليست من أوليات من هم في سدة الحكم، وإنما الأوليات لتوزيع موارد الدولة ومؤسساتها بين الأقطاب السياسية كل حسب قوته وتأثيره في المشهد السياسي، والباقي يوزع على حاشية السلطة. 
يدرك تماما من هم في السلطة أن التبجح بشرعية النظام السياسي عن طريق الانتخابات، لا يمكن أن يقنع الجمهور في ظل غياب المنجز الذي يعطي الشرعية معناها الفعلي في قناعات المواطن. ويبدو أن السياسي في بلد مثل العراق يعاني من مرض الألزهايمر المبكر، لأنه ينسى أنه يكرر الوعود والتعهدات نفسها في كل دورة انتخابية، ولا يتم الالتزام بها!
 ولا يمكن أن تغطى عورات النظام السياسي ومنظومة السلطة بانعدام المنجز من خلال الارتكاز على انتخابات تحولت إلى كرنفالات لتوزيع المقاعد بين الأوليغارشيات السياسية، والتي على أساسها يتم تقاسم غنائم السلطة؛ فالانتخابات عندما تكون عاجزة عن منح الشرعية للنظام السياسي والحكومات لا يمكن الثرثرة بشأن مشروعيتها القانونية أو الدستورية. 

انتخابات لا تعاقب الفاشلين


يقول السياسي الماليزي مهاتير محمد في مذكراته: "ينبغي للديمقراطية أن تمنع قائدا سيئا من البقاء في السلطة". ويبدو أن هذه القاعدة لا تنطبق على الديمقراطية في العراق؛ إذ نجد الكثير من الشخصيات السياسية وحتى الأحزاب التي تفشل في الانتخابات، ولا تحصل على مقاعد تؤهلها للدخول في تحالفات تشكيل الحكومة، تكون حاضرة في الائتلافات الحكومية؛ لأن المبدأ الذي ثبتته القوى السلطوية أن الجميع في السلطة حتى وإن كانوا خاسرين في الانتخابات.

تقوم فكرة الانتخابات ومبدأ دوريتها لتحقيق غايات متعددة لا تنحصر فقط بمنح الشرعية للنظام السياسي، وإنما هي محاولة لضمان طريقة التعبير عن آراء الجمهور تجاه الحكومات

تقوم فكرة الانتخابات ومبدأ دوريتها لتحقيق غايات متعددة لا تنحصر فقط بمنح الشرعية للنظام السياسي، وإنما هي محاولة لضمان طريقة التعبير عن آراء الجمهور تجاه الحكومات التي غالبا ما تكون محكومة بالتغير ولا تعتمد الثبات، وتراعي تغيير قناعات الأجيال إزاء الأحزاب والشخصيات والقوى السياسية. لكن هذه الغاية لا تتحقق إلا بالديمقراطيات الناضجة.  

AFP
اجتماع الحكومة العراقية في 13 مارس


أما في تجربة ديمقراطيتنا الهجينة والهشة، فالموضوع يختلف تماما. إذ إن الانتخابات قد تساهم في تغيير حسابات المقاعد الانتخابية بالزيادة أو النقصان لكل حزب. لكن المنظومة السياسية لا تتغير ولا تستجيب لتغير مزاج الجمهور السياسي والانتخابي؛ لأن من يحكم ويتحكم في هذه المنظومة ليست الأوزان الانتخابية وإنما الزعامات السياسية على اختلاف مصادر قوتها ونفوذها، سواء كانت سياسية أو دينية أو مالية، أو حتى بدعم خارجي. 
وبعد أن كان يحكمنا لسنوات دكتاتور واحد، يختزل الدولة في شخصه ومزاجيته وكان غالبا ما يردد عبارة "أنا وبديلي الفوضى"، فإن نظامنا الحالي الذي يحمل عنوان "الديمقراطية" يخضع لمزاجيات زعامات سياسية لو ثنيت لها الوسادة لما اختلف سلوكها عن حكم الدكتاتوريات، وهي تعيد اليوم مقولة الدكتاتوريات نفسها بأن بديلهم هو الفوضى. ولذلك فإن نظامنا السياسي الحالي هو نظام حكم الدكتاتوريات المتعددة، ولكنها تتحكم فينا بعنوان الديمقراطية وتدعي أن شرعيتها في السلطة والنفوذ تأتي عن طريق الانتخابات. 
هذه الزعامات تختلف فيما بينها وتتصارع ويخون بعضها بعضا، وتسعى إلى تسقيط بعضها البعض، لكنها على الرغم من ذلك لا يمكن أن نتوقع منها أن تختلف عندما يكون الموضوع تقاسم السلطة ومغانمها، وتتوحد عندما تشعر بأن سلطتها ونفوذها يواجهان تحديا من قبل قوى سياسية جديدة صاعدة وتسعى بكل ما أوتيت من قوة لتدميرها، حتى وإن كانت الوسيلة إراقة الدماء. 
وأخيرا، قد يكون التعويل على الانتخابات في ترسيخ مبادئ الشرعية والمشروعية في النظام السياسي في ظل حكم الإقطاعيات السياسية ومافيات الفساد نوعا من الرومانسية السياسية، لأنها- أي الانتخابات- في ظل هيمنة القوى التقليدية سوف ترسخ الغربة بين المجتمع ونظام الحكم، لأنها سترسخ بقاء النخب المسيطرة في السلطة، وتمركز سيطرتها على الدولة ونهب ثرواتها ومواردها. 
بيد أن التركيز على مسألة ضرورة التطابق بين مفهومي الشرعية والمشروعية هدفه ترسيخ ثقافة سياسية في وعي الجمهور قد تساعد على تصحيح المسار في المشاركة السياسية، سواء كانت عن طريق الانتخابات أو حراك الاحتجاجات. التي يجب أن تترجم إلى مشاركة في ثروات الدولة حتى تحقق العدالة الاجتماعية، ومشاركة في السلطة وإدارة الدولة، وليس منح البيعة لزعامات دينية وسياسية تحكم بعناوين طائفية وقومية. 

font change

مقالات ذات صلة