تقاطعات نتنياهو وبايدن

رويترز
رويترز
بايدن ونتنياهو خلال لقائهما في تل أبيب في 18 أكتوبر

تقاطعات نتنياهو وبايدن

لا توجد مفاجأة في تصريحات بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية، المتضمنة رفضه تمكين السلطة الفلسطينية من حكم قطاع غزة، بعد توقف الحرب، وإنه في غزة "لن تكون حماسستان ولا فتحستان"، مع تلميحه بإمكان شنّ إسرائيل حربا ضد السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، أيضا؛ علما أن إسرائيل تقوم بذلك فعلا بما في ذلك شرعنة تسليحها المستوطنين وإطلاق يدهم في التنكيل بالفلسطينيين، والاعتداء على أراضيهم وممتلكاتهم.

بل إن نتنياهو وصل في تصريحاته تلك حد تحميل مسؤولية العملية الهجومية التي نفذتها حركة "حماس" (7/10)، بتداعياتها الكارثية على إسرائيل، وعلى صورتها كدولة رادعة، لحزب العمل، وتيارات الوسط، التي وقعت "اتفاق أوسلو" (1993) مع الفلسطينيين، ما نجم عنه إقامة كيان سياسي لهم، بما في ذلك غسل يديه أيضا، من ذلك الاتجاه الذي كان داخل حزبه "الليكود"، الذي أخذ على عاتقه خيار الانسحاب الأحادي من قطاع غزة (شارون وأولمرت وليفني)، والذي عارضه نتنياهو وقتها بشدة (2005).

القصد أن نتنياهو يستغل الأجواء الحربية الراهنة ليس لتلافي تبعات ما تعرضت له إسرائيل في ظل رئاسته للحكومة، فقط، وإنما لتصفية حسابه، أيضا، مع اتفاق أوسلو، وشطب الكيان السياسي للفلسطينيين، في غزة وفي الضفة، وهو النهج الذي حكم سياساته منذ صعوده إلى سدة السلطة في إسرائيل (1996). فنتنياهو هو الذي أسس لسياسة القطيعة مع اتفاق أوسلو، وتقويض كيان السلطة الفلسطينية، أو تهميش وجودها، منذ البداية، أكثر من أي أحد آخر في إسرائيل، أي أكثر من إيهود باراك وآرئيل شارون، علما أنه أتى إلى رئاسة الحكومة وقتها، وإلى زعامة حزب الليكود، من باب التحريض ضد ذلك الاتفاق، ما أدى إلى اغتيال إسحق رابين (نوفمبر/تشرين الثاني 1995)، رئيس الحكومة الأسبق، وزعيم حزب العمل في ذلك الوقت.

مشكلة نتنياهو أن سياساته المتطرفة لم تقتصر على الفلسطينيين، فقط، بل شملت إسرائيل أيضا، بمحاولته تغيير النظام السياسي فيها

في المحصلة، استطاع نتنياهو ترسيخ سياساته في الحؤول دون إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، في الحقب الثلاث التي شغل فيها موقع رئاسة الحكومة، وكزعيم لحزب الليكود، بالتحالف مع اليمين القومي والديني، الأولى من 1996-1999، والثانية من 2009-2021، والثالثة منذ أواخر 2022، فهو الشخص الذي احتل منصب رئيس الوزراء في إسرائيل أكثر من أي شخص آخر، بما في ذلك ديفيد بن غوريون المؤسس (12 عاما فقط).

AP
رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو متجها لحضور الاجتماع الاسبوعي لحكومته في 10 ديسمبر

مشكلة نتنياهو هنا أن سياساته المتطرفة لم تقتصر على الفلسطينيين، فقط، بل شملت إسرائيل أيضا، بمحاولته تغيير النظام السياسي فيها، وتغليب طابعها كدولة يهودية على طابعها كدولة ليبرالية ديمقراطية (بالنسبة لمواطنيها)، وبقضم طابعها كدولة علمانية لصالح طابعها كدولة دينية، مما أدى إلى التشكّك في مكانته القيادية، سواء في إسرائيل، التي أحدث صدعا في إجماعاتها الداخلية، أو في الخارج، مما انعكس في فتور العلاقة بينهم وبين الإدارة الأميركية ومعظم حكومات الدول الغربية؛ كما شهدنا في مرحلة ما قبل حرب إسرائيل في غزة.
على ذلك، فإن مواقف نتنياهو تلك للتخلص من كيان السلطة في الضفة وغزة، لا تتوخى فقط تعظيم حظه، وحزبه الليكود، في الانتخابات القادمة، كما يعتقد البعض، إذ هي في صلب سياساته وعقيدته، وما يعتقد أنه دوره التاريخي، وهذا يجعله يستشرس ضد غزة، إلى درجة شن حرب إبادة، تستهدف إعدام ذلك القطاع، أو محوه من الخريطة، رغم كل التحذيرات الدولية، والضغوط التي يواجهها من الرأي العام على الصعيد الدولي، والتي تشمل جماعات يهودية أيضا؛ طبعا دون أن يخفف ذلك من حقيقة سعيه لإظهار ذلك كنصر له يستطيع عبره تبييض سيرته من المسؤولية عن هجوم "حماس" المذكور.
أما عن تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن في شأن إقامة دولة فلسطينية، فهي تكرار لتصريحات أميركية قديمة عمرها 30 سنة، أي منذ توقيع اتفاق أوسلو في البيت الأبيض، إذ إن الولايات المتحدة لم تضغط مرة واحدة على إسرائيل من أجل ذلك، ولا حتى لوقف الاستيطان في الضفة والقدس، إبان كل الإدارات، من كلينتون إلى بايدن، ديمقراطية أو جمهورية، بخاصة في زمن كلينتون، الذي جر، أو أجبر، القيادة الفلسطينية على المشاركة في مفاوضات "كامب ديفيد-2" (2000)، قبل ان تنفذ إسرائيل استحقاقات الحل الانتقالي، ولا في زمن جورج بوش (الابن) الذي لم يفعل شيئا إزاء تملص إسرائيل من خطة "خريطة الطريق". 

يمكن تفسير خطاب بايدن، المختلف مع نتنياهو شكليا، بالضغوط الناجمة عن التغيرات في الرأي العام العالمي لصالح الفلسطينيين

الفكرة أن الولايات المتحدة لا تقدم للفلسطينيين سوى الكلام، في حين تقدم لإسرائيل الدعم السياسي والمالي والعسكري، مع رئيس يصرح بأنه صهيوني، وإن لم يكن يهوديا، ووزير خارجية يصرح بأنه يزور إسرائيل كيهودي، وليس كوزير خارجية، مع استخدام إدارتها حق النقض الفيتو ضد أي قرار لوقف إطلاق النار في غزة، رغم أنها تطالب إسرائيل بتجنب استهداف المدنيين، وتقول إنها ضد احتلال إسرائيل لقطاع غزة، أو اقتطاع أراض منه، أو تشريد جزء من الفلسطينيين خارجه، ورغم مشاهدتها مصرع عشرات ألوف المدنيين ودمار 70 في المئة من عمران غزة، وتشريد حوالي مليونين من بيوتهم، من دون ماء وكهرباء ودواء وغذاء، منذ أكثر من شهرين، بأسلحة وذخائر ودعم مالي وسياسي منها.
هذا الوضع، الذي يرى فيه الرئيس الأميركي أن إسرائيل هي المكان الوحيد الذي يشعر فيه اليهود بأنهم في أمان، بينما الحقيقة عكس ذلك؛ إذ باتت إسرائيل المكان الذي يثير العداء لليهود، بسبب السياسات التي تنتهجها حكومتها، هو الذي يشكل دعما لنتنياهو يشجعه على الاستمرار في حربه العدوانية الوحشية ضد الفلسطينيين.
باختصار، فإن بايدن الذي يتبنى أهداف نتنياهو إزاء الفلسطينيين، يختلف معه في الطريقة أو في التفاصيل، فقط، إذ الخلاف الحقيقي يكمن في المعارضة الأميركية لأجندة نتنياهو المتعلقة بتغيير إسرائيل في الداخل، وهذا هو مغزى كلام بايدن عن تغيير الحكومة الإسرائيلية؛ بدليل أن نبذه حكومة نتنياهو قبل الحرب كان بسبب سياستها الداخلية، وبعد الحرب ضد الفلسطينيين، تخلى عن ذلك، وزار إسرائيل، للتعبير عن دعمه المطلق لسياسات نتنياهو.
يمكن تفسير خطاب بايدن، المختلف مع نتنياهو شكليا، بالضغوط الناجمة عن التغيرات في الرأي العام العالمي لصالح الفلسطينيين، بسبب المظاهرات الحاشدة، غير المسبوقة، في الولايات المتحدة والدول الأوروبية، ودخول جماعات يهودية أيضا على خط معارضة الحرب، وانكشاف إسرائيل كدولة فصل عنصري تمارس حرب إبادة ضد الفلسطينيين، مع تعثر الجيش الإسرائيلي في السيطرة على غزة منذ أكثر من شهرين، رغم كل الدمار والأهوال التي عانى الفلسطينيون منها.

font change

مقالات ذات صلة