ثقافة 2023: غزة تتصدّر السجالات وحراك أدبي وفنّي متفاوت

Getty Images
Getty Images
امرأة تحمل طفلة وتهرب بعد غارة جوية إسرائيلية على حي رضوان بمدينة غزة، في 23 أكتوبر 2023.

ثقافة 2023: غزة تتصدّر السجالات وحراك أدبي وفنّي متفاوت

كيف يمكن وداع أو رثاء العام الذي مضى؟

عام يختتم بحمّام دم مفتوح في غزة - السجن الفلسطيني منذ 16 سنة - والمحتلة قبلها، والمكتظة بـ2,5 مليون نسمة من الفلسطينيين، تحكمهم منذ العام 2007 منظمة "حماس" العسكرية الإسلامية، المصنّفة "إرهابية" أوروبيا وأميركيا. لكنها هي التي تشرف على توزيع مساعدات دولية لأهالي السجن الغزاوي، فيعتاش شطر كبير منهم عليها، برضا العالم ودولة الحصار الإسرائيلي.

فاجأت "حماس" إسرائيل والعالم: اقتحم مسلحوها في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 مستعمرات مدنية ومواقع عسكرية إسرائيلية في محيط غزة، فقتلوا 1200 من المدنيين والعسكريين الإسرائيليين، وأسروا 240 آخرين. ويُقال إن إسرائيل، في تداركها الهجوم "الحمساوي" المفاجئ، قتلت نحو ألف من المهاجمين، قد يكون بينهم إسرائيليون أسرتهم "حماس".

ردّت دولة الاحتلال والاستيطان الوحيدة في العالم، على هذه العملية بحملة عسكرية على غزة، فقالت إن هدفها محو "حماس" من الوجود، فوق الأرض وفي أنفاق ومخابئ وتحتها. وذهب ساسة وعسكريون إسرائيليون أبعد من ذلك، فأعلنوا إرادتهم تدمير غزة وإزالتها من الوجود، بلا تمييز بين "حماس" وسواها من السكان. قبل هجومه البري على القطاع - السجن، لاقتلاع سكانه ورميهم في صحراء سيناء المصرية، قصفه الجيش الإسرائيلي قصفا هستيريا مهولا، فلم يميز بين بشر وحجر، أطفال ونساء، رجال مسلحين وغير مسلحين.

"العالم الحر" سمّى هذا كله بكلمات من التعاويذ "السياسية" الدولية: "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". أي ولوغ جيشها بدماء المدنيين الفلسطينيين، كي يصل إلى مسلحي "حماس" ويمحقهم. وهذا بعدما كانت الدولة الإسرائيلية قد أباحت منذ سنين كثيرة لمستوطنيها الأصوليين والسلفيين اليهود هدمَ بيوت فلسطينيي الضفة الغربية والاستيلاء على أرضهم وبناء مستعمراتهم عليها، وقتل من يشاؤون منهم، وتحويل حياتهم إلى جحيم، فيما العالم كله ساكت أو يغض طرفه، كأنه مصاب بالصمم والبكم والعمى... إلا حين يطلق صرخته المدوية: "إرهاب، إرهاب، إرهاب". وقد صارت هذه الكلمة طوطمية وسحرية، لكثرة تردادها مجردة إلا من الأفعال الإجرامية المباشرة. وهي أفعال إجرامية في الحقيقة والواقع، لكن القاموس السياسي والديبلوماسي الدولي، ومعه الثقافة السياسية الدولية، حوّلا الكلام عنها إلى تعاويذ، وبراقع صفيقة لما يحدث في العالم، وخصوصا ما يحدث للفلسطينيين من تنكيل يومي، مقاتل ومآس لا يلتفت إليها أحد.

فهل تستطيع الثقافة الأدبية والفنية والتفكير السياسي غير الرسمي أن تسعف هذا العالم في التعبير عن أحواله في نهاية هذا العام الدموية؟

 أدركنا منذ زمن بعيد أن تغيير هذا العالم إلى الأفضل، وإيقاف جريانه البائس إلى الأمام، لم يعودا قط في الإمكان. أما السبيل الوحيد إلى مقاومة جريانه، فهو ألا نحمله على محمل ال

ميلان كونديرا

موت الصواب

نبدأ من رحيل الروائي الفرنسي التشيكي ميلان كونديرا عن عالمنا في 11 يوليو/تموز من هذا العام (2023). وهو كان قد ختم أعماله الروائية - بعدما أوهنته الشيخوخة وضاعفت حكمته القدرية وتهكمه اليائس - برواية وسمها بـ"حفلة التفاهة". في مناسبة رحيله قيل إنه في جملتين من هذه الرواية لخّص رؤيته إلى العالم في أعماله الروائية كلها: "أدركنا منذ زمن بعيد أن تغيير هذا العالم إلى الأفضل، وإيقاف جريانه البائس إلى الأمام، لم يعودا قط في الإمكان. أما السبيل الوحيد إلى مقاومة جريانه، فهو ألا نحمله على محمل الجد"، بل على نحو ساخر متهكم.

Getty Images
الكاتب الفرنسي التشيكي المولد ميلان كونديرا في ميلانو.

وكان الشاعر اللبناني عباس بيضون قد كتب في نهايات العقد الخامس من عمره، وفي مجموعته الشعرية "حجرات": "أقول وداعا لهذه الحجارة التي خرفت/ اسودّت دفعة واحدة (...) المطر يقع بلا اكتراث/ على حياتي/ المضاءة دائما كالزنزانة/ إنني أغادرها الآن/ لم يعد لي منها سوى الباب (...)/ لم أعد بستانيّ  حياتي/إنني أتركها لنزلاء مسرعين/ وأصدقاء/ استحقوها بخياناتهم".

الشاعر الفلسطيني سامر أبو هواش كتب أثناء المقتلة الفلسطينية المروّعة في غزة: "لم يعد مهما/ بعد اليوم/أن يحبنا أحد/ يكفي أن يحبنا الملاك العظيم في سمائه الناصعة/ (...) تعبنا من صخرة نحملها على ظهورنا/ لعنة أبدية/ ونمضي بها من هاوية إلى هاوية/ ومن موت إلى موت/ ولا نصل".

وفي خضم الحرب على غزة، كتب المؤرخ والكاتب اللبناني أحمد بيضون في 29 أكتوبر/تشرين الأول الماضي: "اعتصمتُ بالصمت ها هنا (على صفحته في فايسبوك) شهرين وبعض شهر. في بادئ الأمر، كان التعب والضجر هما دافعي. وفي الشهر الجاري أصبح دافعي القهر والإحباط". ثم استعاد بيضون مقالة كان كتبها قبل عشر سنوات عن حال الفلسطينيين، وختمها على النحو الآتي: "سيفعل (الفلسطينيون) شيئا لوقف ما يجري لهم، سواء أكان هذا الذي يجري خطة مرسومة أم سياسة ارتجالية، ماضية في سبيلها عفو الخاطر العنصري. (...) ولن ينجو جوار فلسطين مما سيفعله الفلسطينيون. وسيضطر القائلون إن القضية الفلسطينية انتهت إلى اكتشافها مجددا. والأرجح أنهم سيقولون إن الفلسطينيين على خطأ في ما يفعلونه. والأرجح أيضا أنهم سيكونون مصيبين في قولهم هذا. لكن الفلسطينيين لن يرعووا، وسيمضون في الخطإ المزعوم إلى حيث يستطيعون".

ومضى المؤرخ الكاتب في وصفه حال الفلسطينيين في تيههم المأسوي: "أسهل الأشياء وأصوبها أن يُقال (لهم) إنهم مخطئون. ولكن منتهى اللؤم أن لا يقول أحد للفلسطينيين ما هو الصواب. ليقُلْ لهم، في الأقل، إن الصواب قد مات!".

الحب العصابي لليهود

بعد هجوم "حماس" انفجر على نحوٍ غير مسبوق "عصاب حب" حكومات العالم الغربي "الحر" لليهود ودولتهم "المقدسة" إسرائيل. واستمرت على حالها موجة "الحب العصابي" هذه، بعدما حوّلت إسرائيل قطاع غزة ركاما وقتلت، حتى كتابة هذه السطور (18 نوفمبر/تشرين الثاني 2023)، أكثر من 13 ألفا من فلسطينييها المدنيين، أقل بقليل من نصفهم من الأطفال. وبلغت الموجة أشدها في ألمانيا، فأدرجها كثيرون في سياق تكفير ألمانيا عن ذنوبها النازية. وبلغ غليان "العصاب الغرامي" درجته القصوى بإعلان الحكومة الألمانية أن دولة إسرائيل ليست أقل من "مصلحة قومية أو وطنية ألمانية".

لكن هذا الغليان قابلته أصوات ثقافية بارزة في ألمانيا، فذهبت بعيدا في تفكيكه وسبر أغواره والكشف عن تحوّلاته الشديدة التعقيد، أقله مذ أعلنت المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل أمام الكنيست الإسرائيلي سنة 2008 أن "إسرائيل مصلحة قومية ألمانية".

من هذه الأصوات مقالة مطوّلة للكاتبة والفيلسوفة الأميركية اليهودية المقيمة في ألمانيا، سوزان نيمان، نشرتها في "نيويورك ريفيو أوف بوكس"، وترجمها إلى العربية موقع "الجمهورية" الإلكتروني (12 نوفمبر/تشرين الثاني) في عنوان "حساب تاريخي ألماني مختل".

راجعت نيمان سلوك ألمانيا حيال ماضيها النازي الإبادي لليهود، فرأت أنه تحوّل في السنوات القليلة الأخيرة إلى ضرب من "المكارثية الغاضبة في حبها لليهود" بوصفهم "ضحاياها الأبديين". وهي مكارثية تهدّد الثقافة والفن وتنوّعهما في ألمانيا، حيث أُلغيتْ وحُظِرَتْ عشرات النشاطات الثقافية والفنية، الفلسطينية والعربية والإسلامية، وحتى الألمانية، بذريعة "تحريضها على العداء للسامية". هذا علما أن هذا المصطلح، شأن المحرقة اليهودية، يستخدمان اليوم في أوروبا وألمانيا بعد نزعهما من أي سياق تاريخي وضعي، ورفعهما فوق التاريخ والاجتماع، باعتبارهما جريمة مطلقة خارج الزمان والمكان والتاريخ. لكن المعروف والمؤكد أن هذين المصطلحين والوقائع التاريخية التي يعبّران عنها، لصيقة كلها بالتاريخ والثقافة الأوروبيين الحديثين، ولا صلة للتاريخ والثقافة العربيين والإسلاميين بها، سوى من باب الاتصال والتأثُّر بالثقافة الغربية.

إسرائيل: نهاية سعيدة للمحرقة

تثمّن نيمان الاستثناء الألماني: بناء ألمانيا سرديتها الوطنية الحديثة (ما بعد الحرب العالمية الثانية) على الاعتراف بارتكابها جرائم مدمرة للعالم. فهي، بعدوانيتها النازية، تسببت بتلك الحرب الكبرى، وأبادت ملايين اليهود في المحرقة المروّعة، الفريدة وغير المسبوقة في التاريخ. لذلك كانت في حاجة إلى كفارة كي تتخلص من ذنوبها. أما عدوانيتها النازية، فكانت في شطر منها وليدة تحميلها أوزار هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. لذا صاغ الألمان "سردية جعلت منهم الضحايا الرئيسيين لتلك الحرب"، حسب نيمان. هناك مؤرّخون يعتبرون أن النصف الأول من القرن العشرين شهد حربا أهلية أوروبية مديدة سمّيت الحربين العالميتين.

في مقابل بناء السرديات الوطنية على الأمجاد والبطولات والاعتزاز والفخار بالنفس، ولو على نحو رومنطيقي وخطابي، تفرّدت ألمانيا في تقلّب سرديتها الوطنية وتأرجحها بين قطبين أقصيين: بعدما كانت ضحية، وصاغت خروجها من وضعية الضحية بارتكابها جرائم مهولة (النازية)، صاغت سرديتها ما بعد النازية على التكفير الهجاسي أحيانا عن تلك الجرائم. لذا ذهب الاستثناء الألماني إلى حدود قصوى، حينما لم يعد الألمان يرون أنفسهم إلا بوصفهم "جناة" أولا وقبل كل شيء، وراحوا يشيرون إلى بلدهم بوصفه "البلاد الجانية".

Getty Images
جنود الجيش الإسرائيلي يتمركزون مع دبابات ميركافا بالقرب من الحدود مع قطاع غزة، 9 أكتوبر، 2023.

هكذا ربما بلغت المحاسبة التاريخية التي أجراها الشعب الألماني لنفسه ما بعد النازية، حدّا "هستيريا": "لا شيء أكثر ألمانية في ألمانيا من الرغبة في أن تكون يهوديا، بل يهوديا ضحية"، كي تكفر عن ذنوبك. فاليهود الحقيقيون في المنظار الألماني، هم فقط أولئك الذين عانوا وفقدوا ما لا يقل عن نصف أسرهم في المحرقة، على ما كتبت المؤلفة الألمانية اليهودية نيلي بولاتشيك. وهذا يستتبع اعتبار اليهود "أمة ضحايا أبديين". ومن ليس ضحية من اليهود ليس يهوديا، أو يتهم بالعداء للسامية.

أما التكفير الألماني عما فعلته النازية باليهود، فلا يتحقق إلا بإعلاء شأن أحفادهم ودعمهم بلا حساب، إلى الأبد ومهما فعلوا. لذا تسمّى مجازر إسرائيل بالفلسطينيين في غزة "حق دفاع عن النفس". وفي السنوات الأخيرة أدت "هستيريا" استئصال معاداة السامية إلى رقابة صارمة في تشدُّدها على الأعمال الثقافية والفنية في ألمانيا.

ترى ليمان أن "جمود صور عار الألمان الماضي وثباتها" أديا إلى منعهم من التفكير بوضوح وصفاء في الحاضر. فألمانيا - حسب إميلي دينس بيكر، المديرة اليهودية للفرع الألماني من تحالف يهود الشتات - أرادت لدولة إسرائيل أن تكون "النهاية السعيدة للمحرقة". أما من يعكّر صفاء هذه السعادة فيوصم، بلا سؤال ولا تفكر، بأنه معادٍ للسامية.

هنا يلح السؤال: كيف يمكن لدولة احتلال استيطاني عنصري على الفلسطينيين، أن تجلب السعادة، ليس للفلسطينيين، وجيرانها العرب فحسب، بل للعالم؟

 راجعت نيمان سلوك ألمانيا حيال ماضيها النازي الإبادي لليهود، فرأت أنه تحوّل في السنوات القليلة الأخيرة إلى ضرب من "المكارثية الغاضبة في حبها لليهود" بوصفهم "ضحاياها الأبديين"

أمّة حمّام الدم

قد يكون من المصادفات وحدها أن يسبق حمّام الدم في غزة، إصدار الروائي الأميركي بول أوستر - المولود سنة 1947 في بروكلين، وصاحب "ثلاثية نيويورك" في أواسط الثمانينات، المترجمة إلى العربية - روايته الجديدة "أمّة حمّام الدم" في مارس/آذار 2023. وهي الأمة التي سارع رئيسها إلى زيارة إسرائيل بعد مقتلة "حماس" في مستوطناتها، وفيما كان جيشها يعدّ العدّة لثأره الدموي من 2,5 مليون فلسطيني في غزة. دان الرئيس الأميركي المقتلة في المستوطنات الإسرائيلية، وبارك المقتلة الكبرى المزمعة بالفلسطينيين، كي "تعود إسرائيل مكانا آمنا لليهود"، وحدهم من دون سواهم. ثم أضاف رئيس الدولة العظمى والقائدة في "العالم الحر": "لو لم تكن هناك إسرائيل، لعملنا على إقامتها".

Getty Images
الدخان يتصاعد في الأفق بعد غارة جوية إسرائيلية على مدينة غزة في 13 أكتوبر 2023.

ألا يستتبع كلام الرئيس الأميركي هذا كلاما يشبهه من أي شخص تساءل الأميركيون عن أسباب كراهيته أميركا، بعد المقتلة الرهيبة التي أنزلتها بها "القاعدة" في 11 سبتمبر/أيلول 2001: نكرهكم على قدر ما تحبون إسرائيل التي تكرهنا وتقتلنا، وأقمتموها على أرض فلسطين، فشرّدت أهلها، وها هي تستمر في قتلهم وتشريدهم.

لا علاقة لرواية أوستر الجديدة بهذا كله. فهي تتناول ظاهرة داخلية عميقة في المجتمع الأميركي الراهن، من دون أن تعدم صلتها بجذوره التاريخية: إنها ظاهرة، أو ثقافة اقتناء الأميركيين السلاح في بيوتهم بكثافة لا مثيل لها في العالم. فهناك 393 مليون قطعة سلاح يملكها أميركيون، بمعدل يتجاوز قطعة واحدة لكل أميركي، أكان رجلا أم امرأة أم طفلا. لرصد نتائج هذه الثقافة، تعتمد رواية "أمّة حمّام الدم" على إحصاءات وتقارير دقيقة: في كل سنة يُقتل ما يقرب من 40 ألف أميركي بأسلحة فردية. وهذا يساوي المعدل السنوي لوفيات الأميركيين في حوادث السير على الطرق السريعة.

هنا يبرز السؤال: لماذا الولايات المتحدة هي الدولة الأكثر عنفا في العالم الغربي؟

يعتمد سرد أوستر الروائي في هذه الرواية على تقصّي سير ضحايا انتشار اقتناء السلاح واستعماله في الحياة اليومية. وعلى شهادات من عائلاتهم وجيرانهم وزملائهم في العمل ومعارفهم. في الرواية 41 صورة فوتوغرافية التقطها سبنسر أوستراندر (صهر بول أوستر) لمسارح جرائم القتل المفاجئ، الفردية والجماعية في أميركا. فالمصوّر، حسب السرد الروائي - فقد عددا من أصدقائه في عام واحد، بسبب قيادتهم سياراتهم تحت تأثير الكحول وجرعات زائدة من المخدرات والانتحار. التقاطه الصور ساعده في الحداد على أصدقائه الذين فقدهم. وهو التقطها أيضا لمسارح إطلاق النار العشوائي على الناس، كي لا تُنسى مثل هذه الحوادث.

يروي أوستر حوادث وتجارب وذكريات. منها اكتشافه أن جده لوالده أطلقت عليه زوجته النار، فقتلته عندما كان والده (والد أوستر) في السادسة من عمره. لكن قيل في الرواية العائلية إنه قتل في الحرب العالمية الأولى أو سقط عن بناية. من استقصاءات الرواية أن الدستور الأميركي يقول إن "الميليشيا المنظمة، الجيش الشعبي، ضروريان لأمن دولة حرة، فلا يجوز تقييد حق مواطنيها في الاحتفاظ بالأسلحة وحملها". تتابع الرواية أن هذا من موروثات استيطان البيض في أميركا، ومذابحهم بالسكان الأصليين، ومن موروثات اقتصاد العبيد المزدهر. فالبندقية في أميركا "البيضاء" ترمز إلى الاعتزاز بالنفس، والاعتماد على الذات، والرجولة والذكورية الفائضتين. لكن العبارة التي تتردد عن القتلة على ألسنة جيرانهم - حسب رواية "أمة حمّام الدم" - أن كلا منهم "كان هادئا، رقيقا ولطيفا، لا يتحدث مع أحد". كلمة "الوحدة" هي التي تتردد أيضا عن حال المجرمين قبل ارتكابهم جرائمهم. أما بول أوستير فعلى الأرجح أنه يدفع عنه العزلة التي ترهف مشاعره، بكتابة القصص والروايات.

يعيش المجتمع الأميركي منازلة بين النشطاء في الحملات المناهضة لاقتناء السلاح، وبين "الرابطة الوطنية للبنادق" التي تدافع عن اقتنائه باعتباره ملازما لـ"الوطنية الأميركية"، ومرتبطا بالاستقلال والانتصار على السكان الأصليين.

هل من شبه ما بين "أمّة حمّام الدم" والاستيطان اليهودي المنفلت من عقاله منذ سنوات كثيرة، والذي يستبيح دم الفلسطينيين وأرضهم وبيوتهم؟

أمراض الجماعات المشرقية

في لبنان المنهار اقتصاديا وماليا، والمتصدّع دولة ومجتمعا، أقله منذ العام 2019، أوقفت الحربُ الإسرائيلية على غزة واحدة من أشرس حملات اللبنانيين العنصرية على اللاجئين السوريين في بلدهم. تزامنت تلك الحملة مع اجتياز موجة سوريين كثيفة حدود لبنان الشمالية والشرقية، فارّين من ابتلائهم المزمن بنظام آل الأسد الدموي، التخريبي والمُفقِر، وراغبين في مواصلة فرارهم بمراكب الهجرة السرية من الشواطئ اللبنانية الشمالية إلى ملاذاتهم الأوروبية، وخصوصا في ألمانيا. وكانت جماعات لبنان الأهلية المتنابذة - مذ أغرقت بلدها في أزمات مستعصية وسيطر عليه "حزب الله"، وعجزت عن مجابهة هذه السيطرة وتلك الأزمات - قد وجدت في استقوائها على اللاجئين السوريين الضعفاء في مناطقها، تصريفا لعنفها الملجوم، كلّ منها حسب مقدار ضغينتها على ضعفها وعلى سواها من الجماعات الأخرى.

والحق أن علاقة اللبنانيين بالسوريين يشوبها مرض مزمن، يعود إلى ما قبل قول حافظ الأسد إن "لبنان وسوريا شعب واحد في دولتين"، بعدما احتل جيشه لبنان وأخضعه لسلطانه الأمني، وراحت النخب السياسية اللبنانية المنقسمة والمتناحرة تتسابق في الزحف إلى دمشق لنيل حظوته ورضاه مع ضباط حاشيته. هذا فيما تعوّدت فئات لبنانية واسعة على ممارسة شتى أنواع الاحتقار للعمال واللاجئين السوريين الذين يستغل مشغلوهم اللبنانيون قوة عملهم الرخيصة في أعمال متواضعة. وكلما تزايد اجترار أهل السلطان والنفوذ في البلدين المتجاورين ذاك الشعار الصفيق عن "الإخوة والتعاون بين الشعبين الشقيقين"، تفاقمت مرضيّة علاقتهما، وخصوصا بعدما أصاب لبنان الفقرُ والتصدُّع، وغرقت سوريا في حروب أهلية ملبننة وهجينة، حوّلت فقرها السابق فقرا فلكيّا لا يحتمل. وحين هبّت المنظمات الإنسانية الدولية إلى نجدة اللاجئين السوريين في لبنان بمساعداتٍ مالية بالدولار، استشاطت فئات واسعة من اللبنانيين المفقرين غيظا وحسدا أُضيفا إلى العلاقة المرضية بين الطرفين.

Alamy
أطفال سوريون يلعبون كرة القدم بجوار خيامهم في مخيم للاجئين في بلدة بر الياس في وادي البقاع، لبنان.

وبعدما ودّع اللبنانيون صيف 2023 وزهوهم بدولارات مغتربيهم المصطافين في ربوع وطنهم الأم وبين أهلهم، انفجرت علاقتهم المرضية بالسوريين عنفا أهليّا لبنانيا على اللاجئين السوريين. وبلغت موجة العنف أشدها في بعض المناطق المسيحية، حيث أرسى ميشال عون وصهره جبران باسيل برنامج تيارهما السياسي على الضغائن والأحقاد وحدهما. فنال منها – إلى جانب الحريرية السياسية والاقتصادية، أو السنية السياسية، حسب اللغة المتداولة في لبنان والعراق أيضا - اللاجئون السوريون القسط الأكبر، بعدما أوهم التيار العوني جماعته بأن اللجوء السوري هو السبب في تصدُّع لبنان وإفقاره. لكن الحرب الإسرائيلية على غزة سرعان ما أوقفت فجأة حملة العنف "اللبناني" هذه على اللاجئين السوريين. وهذا لا يعني شيئا سوى أن لبنان وجماعاته الأهلية وأحزابها وساستها يعيشون ويسوسون بلدهم وينقّلون عنفهم خبط عشواء، وحيثما تجري بهم سفن الضغائن، وحسب مشيئة حزب الحرب الدائمة الذي يحكمهم ويشن حروبه الإيرانية في المشرق، من اليمن إلى العراق وسوريا وفلسطين.

ربما يعني هذا أن الجماعات الأهلية في لبنان - شأن الجماعات المشرقية التي تصدعت دولها في هذه البلاد، ومنها السلطة الفلسطينية المنقسمة بين "فتح" في الضفة الغربية و"حماس" في غزة - تظل غارقة في ضغائنها واحترابها الداخلي حتى تصحو فجأة على نفير تهديد خارجي. لكن الداخل والخارج يتشابكان في حروب أهلية هجينة بالوكالة. وهذه حال وكلاء إيران، كـ"الحشد الشعبي" في العراق، ونظام بشار الأسد في سوريا، و"حزب الله" في لبنان، وجماعة "أنصار الله" الحوثية في اليمن.

بين المنافي ودمشق والقاهرة

في مثل هذه الحال، كيف يمكن أن تكون أحوال الثقافة والفنون في بلدان المشرق العربي، وكذلك في مصر المتماسكة دولة ومجتمعا، لكن الغارقة في أزمة مالية واقتصادية طاحنة؟

وإذا كانت الحرب الإسرائيلية في غزة قد كشفت عراء سياسات الحكومات الأوروبية من أخلاقيات السياسة، فإن أهل الفكر والثقافة والفنون في أوروبا وأميركا، تصدوا بقوة لسياسات حكوماتهم التي حاولت منع توجيه أي لوم أو نقد لسياسات إسرائيل في حربها الدموية والعنصرية على الفلسطينيين. وهذا على خلاف الحياة الفكرية والثقافية والفنية في المشرق العربي، حيث تصدّعت الدول وصارت صورية كالحكومات، وهاجرت النخب وتبعثرت في أرجاء العالم كله. حتى أن الأصوات الثقافية العربية التي ارتفعت معلنة احتجاجها على ما يحصل في غزة، إنما ارتفعت في بلدان أوروبية، على الرغم من موجة الحظر التي تعترضها فيها، وطالت حتى اليهود الأوروبيين المعارضين للسياسات الإسرائيلية. وقد يكون الكتّاب والفنانون الفلسطينيون المتوطّنون منذ أزمنة بعيدة في أوروبا وأميركا، هم الأنشط في رفع الصوت والاحتجاج ضد الدعاية الإسرائيلية التي تحوّل مرتكبو الجرائم الحربية في غزة إلى ضحايا جدد للمحرقة النازية باليهود.

Getty Images
الكاتب الراحل خالد خليفة.

وفيما تفاعل السوريون المهاجرون والمنفيون خارج بلادهم مع الحدث الفلسطيني المأسوي، فإن الصمت والاختناق الكبيرين في سوريا، هزّهما موت الروائي السوري خالد خليفة المفاجئ في دمشق في آخر سبتمبر/أيلول 2023، الذي يعتبره كثيرون "صوت الفجيعة السورية" في زمن الثورة المجهضة، وخصوصا في روايتيه "مديح الكراهية" و"لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة"، وقبلهما "الموت عمل شاق". بعد أقل من شهرين على وفاة خليفة، توفي الروائي والكاتب المصري عبده جبير في معتزله الريفي الفيوم. جبير من جيل الروائيين الجدد المصريين في السبعينات من القرن العشرين، أمثال جمال الغيطاني وإبراهيم أصلان وصبري موسى الراحلين قبله بسنوات قليلة. ومن روايات عبده جبير المعروفة في تلك الحقبة "تحريك القلب"، "ثلاثية سبيل الشخص". وفي منزل ببناية قديمة آيلة إلى التصدُّع في وسط القاهرة، روى جبير سيرته في الحركة الطالبية المصرية القاهرية بين نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات. وهي الحركة التي روت سيرتها المأسوية أيضا الكاتبة المنتحرة أروى صالح في عنوان "المبتسرون".

 إلى جانب ازدهار الرواية، هناك ظاهرة ثقافية وفنية عربية جديدة تتمثل في توسع انطلاق السينما والفن السينمائي ونهضتهما في السعودية العام 2023

الرواية العربية والجوائز

وكانت الرواية قد تصدّرت المشهد الثقافي العربي قبل مطلع الألفية الثالثة. وهناك من يقول إن الرواية في لبنان لم تزدهر وتنشط إلا في خضم الحروب الأهلية، وبعدما ظل الشعر الحديث محور الحياة والمنتديات الثقافية العربية. أما في مصر فإن الرواية ما بعد المحفوظية (نسبة إلى نجيب محفوظ) تعدّدت أصواتها الجديدة مع جيلي السبعينات والثمانينات.

وفي خضم زحمة النتاج الروائي العربي في المشرق وبلدان الخليج، لا سيما في السعودية، أُزيح الشعر إلى هامش المشهد الثقافي، وتحوّل كثيرون من شعراء الحداثة ما بعد روادها، إلى كتابة الرواية. والأرجح أن عوامل ثلاثة أساسية أدت إلى كثافة النشاط الروائي العربي وتوسعه: نيل نجيب محفوظ جائزة نوبل العالمية كأول كاتب عربي ينال هذه الجائزة المرموقة. والطلب المكثف على ترجمة الروايات العربية إلى لغات أجنبية (الإنكليزية والفرنسية والألمانية) ما بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001. وذلك تحت إلحاح الثقافات الأوروبية على التعرُّف إلى المجتمعات العربية والإسلامية التي تتكفّل الرواية - باعتبارها وثيقة سوسيوثقافية قبل كونها عملا فنيا - أكثر من الشعر والفكر السياسي بالتعريف بتلك المجتمعات والكشف عن خباياها وتفاصيلها.

Alamy
الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف.

أما العامل الثالث الذي أدى إلى تصدُّر الرواية وازدهارها، فهو الجوائز الأدبية الروائية التي تقدمها منتديات ومؤسسات ثقافية أوروبية، وفي بلدان الخليج العربية ومصر. وهذا قبل أن تتوج جائزة البوكر العالمية للرواية العربية منذ 16 سنة، جوائز تلك المنتديات والمؤسسات.

في دروتها السادسة عشرة للعام 2023، فاز الروائي والشاعر العماني زهران القاسمي بجائزة البوكر العربية العالمية عن روايته "تغريبة القافز". اللافت أن القاسمي كان قد أصدر 10 مجموعات شعرية، قبل تحوله إلى كتابة الرواية. روايته الفائزة بالبوكر تتناول نظام الري ومجتمعه الزراعي القروي وعلاقاته. وهو قال إنه في "تغريبة القافز" خرج من "الروايات المشبعة بالسياسة والتاريخ، ودخل في تفاصيل حياة الإنسان العادي".

في مطلع أكتوبر/تشرين الأول أعلنت "مؤسسة منتدى أصيلة" المغربية فوز الروائي اللبناني رشيد الضعيف بجائزة "محمد زفزاف للرواية العربية"، وذلك تقديرا لـ"رصيده الروائي على امتداد 4 عقود". وقد قدّمت الجائزة للضعيف في ختام أعمال "ملتقى الرواية العربية" تحت عنوان "الرواية العربية والخطاب البصري" في 24 من الشهر نفسه.

أما جائزة "نوبل" العالمية للأدب، فحصل عليها للعام 2023 الكاتب المسرحي والروائي النروجي جون فوس، وهو شاعر أيضا، قبل تحوّله إلى الكتابة الروائية والمسرحية. في أعماله الأخيرة يخلط فوس هذه الأنواع الأدبية الثلاثة: سرد روائي دقيق ومتقشف، حوارات مسرحية بين الشخصيات، وشعرية الطابع.

في هذا العام حظي الروائي الفرنسي اللبناني الأصل أمين معلوف بتكريم ثقافي وفكري لافت في باريس: انتخب لمدى حياته أمينا عاما للأكاديمية الفرنسية، أعرق صرح ثقافي في فرنسا. وقد اعتبر البعض أن هذا التكريم لا يخلو من التفخيم الذي تريده الدوائر الثقافية الفرنسية لروافدها الآتية إليها من الخارج، ولا سيما من لبنان الذي تحضر فيه وفي فرنسا نخبة فرنكوفونية. ومعلوف تُرجمت رواياته التاريخية الكثيرة إلى لغات عالمية كثيرة.

Getty Images
فاطمة البنوي، صهيب قُدس، براء عالم، نجم، نور الخضراء وفارس قُدس في استوديو البورتريه خلال مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي 2023 في 07 ديسمبر 2023 في جدة، المملكة العربية السعودية.

السينما السعودية

إلى جانب ازدهار الرواية، هناك ظاهرة ثقافية وفنية عربية جديدة تتمثل في توسع انطلاق السينما والفن السينمائي ونهضتهما في السعودية العام 2023. تعود البداية إلى منتصف أبريل/ نيسان 2018، عندما أضاءت شاشة سينما (AMC) في مركز الملك عبدالله المالي في الرياض، معلنة عودة العروض السينمائية إلى العاصمة السعودية، بعد عامين على إطلاق "رؤية 2030". وذلك بعد 3 عقود من توقف العروض السينمائية في المملكة.

في العام 2023 أشارت الإحصاءات إلى افتتاح 56 دارا للعرض السينمائي، فيها 518 شاشة، وتتوزع على 20 مدينة سعودية، وقد عُرِض فيها 1144 فيلما في 22 لغة، وأنتجت في 38 دولة، وتضمّنت 22 فيلما سعوديا. أما مبيعات تذاكر العروض السينمائية فوصلت إلى 31 مليون ريال، فيما استقطب القطاع توظيف 5 آلاف سعودي. وفي العام 2021 ظهرت "مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي" في جدة. وسبقها في 2020 تأسيس هيئة الأفلام في وزارة الثقافة، إلى جانب هيئات أخرى في ميادين الإنتاج الفني والأعمال الثقافية، ومنها الأزياء والعمارة وفن الطهي. ووضعت هيئة الأفلام خططا لإنتاج أعمال سينمائية محلية تجذب الجمهور السعودي والعربي والدولي، وتجعل المملكة مركزا عالميا للإنتاج السينمائي في الشرق الأوسط. وفي العام 2022 صُوِّرت 8 أفلام سعودية و3 أفلام هوليوودية على الأرض السعودية. وأطلقت في العام نفسه مجلة "كراسات سينمائية" للنقد السينمائي، بالتزامن مع الدورة الثامنة لمهرجان الأفلام السعودية.

وشهد العام 2023 توسعا كبيرا في النشاط السينمائي السعودي. ومنه الملتقى الأول للنقد السينمائي. وقد انطلقت برامج تدريب الشباب وتعليمهم ودعم إنتاجهم بالتعاون بين شركات كورية وسعودية لتطوير الإنتاج السينمائي والثقافي. أما "صندوق البحر الأحمر" لدعم المشاريع السينمائية، فدعم 33 مشروعا في العام 2023. وقد استفاد ما يزيد على 18 فيلما طويلا وقصيرا من دعم هيئة الأفلام بقيمة 40 مليون ريال. وفي الدورة الأولى لـ"منتدى الأفلام السعودي" (2023) حضرت نخبة من صنّاع الأفلام العربية والعالمية. وشارك في الدورة أكثر من مئة خبير، و50 متحدّثا، إضافة إلى مديرين تنفيذيين ومستثمرين في القطاع السينمائي.

اللافت في هذه الحصيلة الفنية حضور النساء. فجامعة "عِفَتْ" النسائية الفنية في جدة تقدم برامج للحصول على درجات علمية في الفنون السينمائية. وتخرجت من الجامعة في العام 2023 أكثر من 150 امرأة. وتشير دراسات وإحصاءات إلى أن النساء السعوديات هن الأكثر شغفا في صناعة السينما. وقد برزت 5 مخرجات سعوديات، منهن من ترشّحن إلى نيل جوائز دولية في الفن السينمائي.

font change

مقالات ذات صلة