هل نحن أفارقة دون أن نكون كذلك؟ أليس هذا حالُنا بملء الريبة كسكان شمال القارة الإفريقيّة، المغاربيّون على الأقلّ؟
إلى زمن قريب كنّا لا نلتفت إلى إفريقيا السمراء إلا لِماما مع أنّنا نتقاسم كبلدان مغاربيّة العيش معها في هذه القارة المدهشة، وحتى إن حدث والتفتنا فبمحض المصادفة إن وُجدتْ في مناسبات رياضية أو موسيقية... وغير هذا فمنطق المصالح الصرفة هو ما يهيمن على العلاقات الرسمية ضمن معترك السيطرة على كنوزها المادية، ثرواتها الخام التي تتنازع عليها أقطاب أوروبية استعمارية تقليدية، مثل فرنسا وغيرها، قبل أن تلتحق بالكعكة الصين وروسيا.
لا يخفى على أحد أن اقتصاد فرنسا مثلا مؤسّس على نهب شامل لثروات إفريقيا خاصة اليورانيوم (النيجر، الغابون، إفريقيا الوسطى، مالي، تشاد..) والذهب (مالي، بوركينافاسو، أوغندا، أنغولا..) والنفط (السنغال) ومعدن الكولتان (الكونغو). وأما تاريخ جرائمها الوحشيّة فحافل بأبشع أشكال الإبادة وأشنع المجازر التي استعملت فيها سلاحها النووي، عكس ما تتشدّق به من أوهى الشعارات ذات العلاقة بالحرية والعدالة والمساواة وبقيّة معجم حقوق الإنسان. زد على ذلك مسؤوليتها الدامغة وراء الاضطرابات السياسية، الانقلابات العسكرية التي تهندس لها بعناية، مُقدِّمة الحماية الكاملة لسلطة الزعماء الفاسدين الموالين لها، كيما تعدم طموح شعوب القارة إلى الديمقراطية، وقمع أشكال العمليات التحررية، وعرقلة مسلسل التحوّل الانتخابي الشعبي النزيه من أنظمة عسكرية وديكتارتورية إلى تناوب ديمقراطي يحفظ لهذه البلدان المنهوبة كرامتها الوطنية، وحفظ ثرواتها الأصلية من السطو الفرنسي المستفحل، وبذا تشييد اقتصادات وطنية تضمن للمواطن الإفريقي حقوقه بدءا بالانتفاع من خيراته البِكْر.
معظمنا لا يكاد يعرف عن إفريقيا السمراء سوى حروبها الأهلية، وانقلاباتها السياسية الدائمة، وأوبئتها المزمنة
معظمنا لا يكاد يعرف عن إفريقيا السمراء سوى حروبها الأهلية، وانقلاباتها السياسية الدائمة، وأوبئتها المزمنة، ونكبات مجاعتها الموسمية من جهة، وفي أحسن الأحوال على النحو الإيجابي تظل احتفالية ألوانها وطقوس رقصها وغرابة موسيقاها وبعض أشكال تحرّرها من عنصرية المستعمر وحيواناتها المفترسة هي الوجه اللافت أنّى رنّ معدن كلمة إفريقيا على حجر الانتباه من جهة ثانية.
بينما إفريقيا السمراء أكبر وأشسع وأسمى من كل هذه الحدود الضيقة للرؤية والمعرفة، وإذ نجهل حقيقتها الفاتنة، فإنما نحن سكان شمال القارة المدانون بوصمة الجهل هذه، والمدانون في الوقت ذاته بوصمة اللا انتماء الفعلي إلى هذه القارة العجيبة.
حدث تفاعل مغاربيٌّ فيما سبق من حقب مع بعض بلدان القارة السمراء، عَلَنُهُ روحيّ ومُضمره اقتصاديّ، ولكن ظلّ نسبيّا، ولعلّ أدمغ الأسباب السياسية وراء عدم تحقّق علاقاتٍ أكثر تناغما وأبدع تلاحما وأجدى تواصلا وأرقى إنسانية وأثرى ثقافيّا بين بلدان شمال إفريقيّا خاصة المغرب والجزائر وتونس على سبيل المثال وبين إفريقيا السمراء، تضطلع به جريرة الاستعمار الفرنسي نفسه، وإرثه الفادح في القارة الإفريقية، وهذه الحيلولة بين انسجامٍ ثقافيّ وعرقيّ لشمال القارة مع كلية البلدان السمراء الأخرى، تدخل ضمن استراتيجيات السيطرة الفرنسية الممنهجة، كيما تتفرّد باستغلال ثروة كل بلد على حدة، مانعة قيام أي وحدة إفريقية مؤسسة على قوة التنوّع والتعدّد والاختلاف.
وممّا يجعل شمال القارة، مغاربيّوها على الأقلّ في شبه انقطاعٍ عن الالفتات كما ينبغي إلى قارتهم السمراء هو القرب الوشيك لأوروبا نفسها، فمجمل شعوب البلدان المغاربية يمّمتْ بوجهها شطر الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط، وجحافل الهجرة -بنوعيها الشرعية وغير الشرعية- لا تزال مشدودة إلى أوروبا كفردوس محلوم به، بالنظر إلى الضآلة الحادّة لفرص العمل في هذه البلدان، وغيرها من الدواعي المزمنة سياسيا واجتماعيا.
انفتاحنا على قارتنا السّمراء لا يزال مُخجلا ضالعا في التّقصير، وما من سبب يبرّرُ هذا الجهل بمعارف وثقافات ولغات وجغرافيات وآداب
والمفارقة أن تكون هذه البلدان المغاربية ذاتها من شمال القارة، قِبلة حاشدة من طرف مُهاجري القارة السمراء بالنظر إلى موقعها الجغرافي المتاخم لأوروبا المتوسطية، وبذا تتحول البلدان المغاربية إلى محطّة أساسية لقوافل المهاجرين السّرّيين، وأغلبهم لا يحالفهم الحظ في العبور المغامر إلى الضفة الأخرى، فيلازمون شمال القارة اضطرارا، منهم من ينخرط في العمل كيفما اتفق في هذه البلدان المغاربية سعيا للاستقرار والاندماج، ومنهم من يعود على أعقابه إلى بلده الأصلي وهذا نسبيٌّ جدّا.
أمّا التماهي الطبيعي بين شمال القارة الإفريقية والمشرق العربي، بالنظر إلى المشترك الديني واللغوي والثقافي، كيفما كانت الفوارق والخصوصيات، فلا يمكن إعدام تأثيره أيضا في تأرجح علاقة مغاربيّي القارة ببقية بلدان إفريقيا السمراء، بصورة من الصور، بالنظر إلى الارتباط الوثيق للمغاربيّ بالمشرقيّ والعكس، وهذا ما يفصح عنه الوجدان الشعبيّ العام، بالتعاطف التلقائي إثر كل حدثٍ عربيٍّ سارّا كان أو مأساويّا، في مغارب القارة الإفريقية أو في الشرق على حدّ سواء، من هذا الطرف أو ذاك، والمسألة ليست دينيّة أو قوميّة وحسب بقدر ما هي مشترك وجدانيّ وحضاريّ في آن.
بالتأكيد نعتزّ بانتمائنا الإفريقي كمغاربيّين، بالقدر نفسه الذي نعتزّ بانتمائنا الأمازيغي والعربي والمتوسطي والإنساني، ولكن انفتاحنا على قارتنا السّمراء لا يزال مُخجلا ضالعا في التّقصير، وما من سبب يبرّرُ هذا الجهل بمعارف وثقافات ولغات وجغرافيات وآداب وموسيقى وأساطير... لنقل موروث إفريقيا السمراء الحضاري الطاعن في أَزَلِ التاريخ ككل. تقصيرٌ فادحٌ تُفصح عنه صورة إفريقيا السمراء في التمثّل الشعبي المغاربي السّائد. يُفصح عنه الغياب المريب لإفريقيا السمراء في مقرراتنا التربوية من الدّرس الإبتدائي حتى الجامعي وما بعده. يفصح عنه غياب متخيل إفريقيا السمراء في مجمل رواياتنا وقصصنا القصيرة وأفلامنا ومسرحنا إلا فيما ندر. تفصح عنه نُدرة السفر إلى بلدان إفريقيا السمراء بالقدر الذي نسافر فيه إلى مغارب ومشارق العالم.