اتفاق حمدوك- حميدتي... خطوة نحو إنهاء الحرب أم إعلان لتحالف سياسي؟

AFP
AFP
سودانيون نازحون من الخرطوم ينتظرون الحصول على مساعدة انسانية في الغضارف في 30 ديسمبر

اتفاق حمدوك- حميدتي... خطوة نحو إنهاء الحرب أم إعلان لتحالف سياسي؟

في مطلع العام الجديد الذي وافق الذكرى الثامنة والستين لاستقلال السودان، عقد التحالف المدني (تقدم) برئاسة عبدالله حمدوك، رئيس الوزراء السابق، اجتماعه المعلن الأول مع قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي). وقد أتى هذا الاجتماع عقب أكثر من ثمانية أشهر من الحرب التي بدأتها الميليشيا ضد قوات الجيش السوداني في أبريل/نيسان 2023 في إطار الصراع بين الاثنين على الانفراد بالسلطة بعد أن تحالفا معا في انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 للاستيلاء عليها.

تواصل الاجتماع في اليوم الثاني وتمخض عن توقيع على اتفاق بين حمدوك ممثلا لقوى "تقدم"، وحميدتي ممثلا لميليشياته في 2 يناير/كانون الثاني 2024.

في مطلع اليوم الأول من الاجتماع اصطف أكثر من عشرين ممن يصفون أنفسهم بالقيادات المدنية في انتظار حميدتي، الذي حضر بمعية اثنين من مستشاريه، وتوجه للجلوس في رأس الاجتماع. تسابق حينها أعضاء وفد "تقدم" لمصافحة قائد الميليشيا والسلام عليه وتقديم التهاني له بالسلامة. كان المشهد المأساوي لقيادات "تقدم" وهي تتسابق لتحية حميدتي بالابتسامات الحميمة أشبه بتقديم مراسم البيعة وفروض الولاء والطاعة لحميدتي أكثر منه بأي شيء آخر.

الحكم لمن غلب. كان هذا هو الشعار الذي مضى وفد "تقدم" بقيادة حمدوك في ركابه للقاء حميدتي. لم يكن مستغربا في هذا السياق أن يضم وفد حمدوك مؤيدين صريحين للميليشيا. قامت إحدى عضوات الوفد بالوقوف والتقاط صورة لحميدتي ومستشاري الميليشيا من داخل الاجتماع لتبثها بشكل فوري في وسائل التواصل الاجتماعي، بتعليق "الأمير شخصيا، حفظه الله وقدس سره".

كما ضم الوفد محمد حسن التعايشي، عضو مجلس السيادة السابق، وهو المنظر الأساسي لسردية محاربة دولة 1956، والتي يتم استخدامها في تبرير انتهاكات وجرائم الميليشيا، وذلك بحسب الورقة التي قدمها للميليشيا في المؤتمر الذي عقدته الميليشيا لحشد الدعم السياسي في دولة توغو شهر يوليو/تموز 2023 بعد اندلاع الحرب. كما ضم الوفد أيضا طه عثمان إسحق، وهو صلة القوى المدنية لفترة طويلة مع الميليشيا والذي أضحى وبوضوح بمثابة ممثل الميليشيا في أروقة تحالف الحرية والتغيير وبعده "تقدم"، دون شرعية تمثيل حقيقية.

مشاركة طه تثير أيضا نقطة التمثيل السياسي في إطار تحالف "تقدم" الذي يدعي تمثيل جبهة واسعة من المدنيين؛ فهو موجود في موقعه هذا بصفته ممثلا لتجمع المهنيين السودانيين. وطه كان بالفعل جزءا من تكوين تجمع المهنيين الأصلي إبان الثورة. لاحقا وبعد انتصار الثورة، أقام التجمع انتخابات داخلية لتجديد مقاعد قيادة التجمع في مايو/أيار 2020. وهو التصويت الذي خسره طه والفصيل الذي يمثله، فما كان منهم إلا إعلان انقسام تجمع المهنيين وتكوين تجمع مواز.

التزمت قوات الدعم السريع بإطلاق سراح أسرى الحرب والمحتجزين لديها، والذين بلغ عددهم بحسبها 451 وتسليمهم للصليب الأحمر. واعتبر الاتفاق ذلك بادرة حسن نية، ولكن لم يوضح الاتفاق هوية هؤلاء المحتجزين

رفض المجلس المركزي لقوى "الحرية والتغيير" حينها اعتماد نتيجة الانتخابات وتمثيل القيادة المنتخبة، مجمدا فصيلي التجمع قبل أن يقوم بعدها باعتماد مشاركة الفصيل الذي خسر الانتخابات في هياكله، وذلك حرصا من الدوائر التي تتحكم في قوى "الحرية والتغيير" على المحافظة على توازنات سيطرتها السياسية على اتجاهات القرار للتحالف الذي كان يعتبر نفسه حاضنة سياسية للحكومة حينها. 
وبالشكل نفسه، أعلن تحالف "تقدم" وجود ممثلين للجان ضمن وفده. وبالفعل ضم الوفد الشاب عثمان سر الختم الذي كان في فترة من الفترات عضوا في لجنة مقاومة جنوب الخرطوم. ولكن ومنذ 2022، أعلنت لجنة مقاومة الكلاكلة وجنوب الخرطوم عدة مرات إيقاف نشاطه وتمثيله للجنة. كانت آخر هذه المرات في التعميم الصحافي الذي أصدرته تنسيقية لجان مقاومة الكلاكلة وجنوب الخرطوم في الأول من يناير/كانون الثاني 2024 بعد ظهور عثمان في وفد "تقدم" ممثلا للجان. قالت التنسيقية بشكل واضح إنها ليست جزءا من "تقدم" وإنها لم تكلف عثمان أو غيره بتمثيلها فيها أو في اجتماعاتها التحضيرية. وأضافت أن عثمان "ليس عضوا في أي من لجان التنسيقية القاعدية وأن ما يقوم به هو انتحال لصفة لجان مقاومة الكلاكلات وجنوب الخرطوم وهو اختطاف صريح لرأي وموقف التنسيقية السياسي". وبالطبع صمت تحالف "تقدم" الذي يدعي تمثيل المدنيين عن هذا الاتهام الواضح الصريح. 

Reuters
رئيس جيبوتي اسماعيل جيله مستقبلا محمد حمدان دقلو في القصر الرئاسي في جيبوتي في 31 ديسمبر

ليس هذا هو المثال الوحيد لمحاولة صناعة جبهة مدنية موحدة بتقسيم الكيانات المكونة لها. قبلها قامت "قوى الحرية والتغيير" بممارسة المنهج نفسه مع الحزب الاتحادي الديمقراطي عبر إحضار إبراهيم الميرغني لتمثيل الحزب في تحالفها حينها للتوقيع على الاتفاق الإطاري بمعزل عن حزبه، واستمر إبراهيم في ادعاء تمثيل الحزب، رغم إعلان مؤسسات الحزب عدة مرات تجميد عضويته، آخرها جاء مرة أخرى بعد لقائه مع قائد الميليشيا عقب اجتماعه مع "تقدم"! 
الشاهد، أن "تقدم" قد اجتمع مع حميدتي، وخرجا باتفاق يقول إنه يسعى لإيقاف الحرب. جاء الاتفاق في ثلاثة أقسام. احتوى الأول على قضايا وتعهدات إنسانية صرفة لا يستطيع أحد الاعتراض على عناوينها، ولكن هل يمكن أن نشاهدها على أرض الواقع؟
التزمت قوات الدعم السريع بإطلاق سراح أسرى الحرب والمحتجزين لديها، والذين بلغ عددهم بحسبها 451 وتسليمهم للصليب الأحمر. واعتبر الاتفاق ذلك بادرة حسن نية، ولكن لم يوضح الاتفاق هوية هؤلاء المحتجزين! فالأمر واضح في تعريف أسرى الحرب، ولكن سكت الجميع عن تعريف هؤلاء المحتجزين، فلماذا تحتجز الميليشيا المواطنين وتعتقلهم في أسوأ الظروف في معتقلات قدرتها منظمات حقوقية بـ44 معتقلا في الخرطوم وحدها، وعلى أي أساس؟! ما علينا... فالاتفاق أقر بإطلاق سراحهم، ولا عزاء لشعارات دولة القانون أو المساواة في الحقوق والواجبات أو حماية الحريات العامة.

لم تخبرنا الميليشيا ولا "تقدم" في اتفاقهما، عن الإجراءات التي سيتم اتخاذها من قبلهم لإخلاء مساكن المواطنين التي تستمر عناصر الميليشيا في احتلالها بعد أن نهبتها مرارا وتكرارا

مضى الاتفاق بعد ذلك ليعلن التزام الميليشيا بـ"فتح ممرات آمنة لوصول المساعدات الإنسانية وتوفير الضمانات اللازمة لتيسير عمل منظمات العمل الإنساني وحماية العاملين في مجال الإغاثة"، و"تهيئة الأجواء لعودة المواطنين/ات لمنازلهم في المناطق التي تأثرت بالحرب (الخرطوم، دارفور، كردفان، الجزيرة)"، و"تشكيل اللجنة الوطنية لحماية المدنيين من شخصيات قومية داعمة لوقف الحرب، تتولى اللجنة مهمة مراقبة إجراءات عودة المدنيين لمنازلهم وضمان تشغيل المرافق المدنية الخدمية والإنتاجية، وتعمل على تعبئة الموارد الداخلية والخارجية لتوفير الاحتياجات الإنسانية للمدنيين"، وغير ذلك... وهو ما يصح تسميته في أفضل الفروض بأنه محض كلام مجاني؛ فلم يضع البيان في اعتباره أن الميليشيا وعملياتها هي السبب الأول والرئيس لتوقف عمليات الإغاثة الإنسانية. 
فقط وقبل أيام قليلة، أعلن مكتب تنسيق العون الإنساني عن إيقاف كافة عمليات الإغاثة الإنسانية في ولاية الجزيرة نتيجة لهجوم قوات الدعم السريع على "ود مدني"، ولا تزال جهود اليونيسيف مستمرة في نقل الأطفال فاقدي السند من ملجأ "المايقوما" الذين تم نقلهم إلى ود مدني بعد اجتياح الميليشيا للخرطوم، ليتم نقلهم مرة أخرى. 
أما فيما يخص عودة المواطنين إلى مساكنهم، فلم تخبرنا الميليشيا ولا "تقدم" في اتفاقهما، عن الإجراءات التي سيتم اتخاذها من قبلهم لإخلاء مساكن المواطنين التي تستمر عناصر الميليشيا في احتلالها بعد أن نهبتها مرارا وتكرارا، بل أصبح يتم تبرير ذلك بالرد على هذا المطلب بسؤال: "واين سيذهبون إذا خرجوا من بيوت المواطنين"...
مضى الاتفاق بعد ذلك في الحديث عن "تشكيل لجنة ذات مصداقية لكشف الحقائق حول من أشعل الحرب" وتجاهل هذا الأمر تماما تقرير مرصد النزاعات الذي تم تمويله ورعايته بواسطة منبر جدة الذي يتغنى به الاتفاق و"تقدم" والميليشيا، تحت إشراف جامعة ييل الأميركية. أعلنت الخارجية الأميركية في بيان لها صادر بتوقيع الناطق الرسمي للخارجية الأميركية يوم 9 يونيو/حزيران عن تبنيها وتمويلها للمرصد "Sudan Conflict Observatory"، الذي يتم تمويله من إدارة النزاعات وعمليات تحقيق الاستقرار بوزارة الخارجية الأميركية في سياق مفاوضات منبر جدة التي كانت تدور حينها. وقال الناطق الرسمي باسم الخارجية الأميركية يومها إن المرصد سيستخدم صور الأقمار الاصطناعية ويحلل البيانات مفتوحة المصدر لتحليل ورصد وتوثيق الجرائم والانتهاكات التي يرتكبها الطرفان بموجب التزاماتهما بحسب اتفاق جدة لحماية المدنيين الذي تم توقيعه بين الطرفين يوم 11 مايو/أيار 2023. 
وصدر تقرير المرصد يوم 14 يوليو/تموز 2023 والذي احتوى على صور وتحليل للوقائع والأحداث بالإضافة إلى المعلومات التي تم تجميعها، لينص بشكل واضح وصريح على أن قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو هي التي بدأت الحرب في السودان يوم 15 أبريل/نيسان 2023 في محاولة منها للاستيلاء على السلطة! هذا بالإضافة إلى ما شاهده السودانيون بأعينهم من أفعال الميليشيا في حربها البربرية ضد السودانيين والتي وصفها التقرير نفسه بأن الدعم السريع قد عاد فيها إلى استخدام الأساليب نفسها التي ظلت تستعملها الجنجويد منذ 2003–2004 في حرب دارفور. فما الذي تريده "تقدم" في اتفاقها مع الميليشيا؟ أم إن المصداقية التي يطلبونها هي أن تتم تبرئة الدعم السريع لتقر أعينهم؟

"تقدم" يحاول فرض رؤيته في قضايا ذات طابع سياسي مسبق مستعينا بغطاء وقف الحرب. ولكن هذا يهزم المطلب الأساسي والشعار الذي اندلعت من أجله الثورة وهو إخراج العسكر من ممارسة السياسة

استمرار تحالف "تقدم" في الترويج لسردية الواقع البديل التي تحاول الميليشيا صناعتها والدفاع عنها لا يضعه بشكل مباشر في خانة التواطؤ مع الميليشيا في حربها، لكن القسم الثاني من اتفاق أديس أبابا يكشف التحالف المضمر بينهما، فهذا القسم احتوى على قضايا سياسية مباشرة. مثل شكل حكم الدولة وترتيبات إعادة هيكلة وإصلاح القطاع الأمني وحتى إعادة بناء أجهزة الخدمة المدنية. وهي قضايا ذات طابع سياسي مدني ينبغي أن يتم الحوار فيها بين الساسة المدنيين في المقام الأول وهم الذين لا يمثلهم تحالف "تقدم" بأي حال من الأحوال.

AFP
مؤيدون للجيش السوداني يتظاهرون في القضارف في الاول من يناير

وإذا كان يمكن قبول تبرير "تقدم" وسعيه للالتقاء بقادة الميليشيا في إطار سعيهم لوقف الحرب، فما شأن هذه القضايا بوقف الحرب! الشاهد أن "تقدم" هنا يحاول فرض رؤيته في قضايا ذات طابع سياسي مسبق مستعينا بغطاء وقف الحرب. ولكن هذا يهزم المطلب الأساسي والشعار الذي اندلعت من أجله الثورة وهو إخراج العسكر من ممارسة السياسة. إضافة إلى أنه يهزم هدفهم المعلن في السعي للتقريب بين الطرفين في سياق وقف الحرب، إذ إنه يقرر في قضايا سياسية بشكل مسبق ويعلن اتفاقه عليها مع طرف ويسعى لفرضها على الطرف الآخر.

لقد تحدثت في مقال سابق على صفحات "المجلة" عما ينبغي السعي إليه في اللقاء مع الجنرالين وهو انتزاع الالتزام منهما بتخفيف وطأة وآثار الحرب على السودانيين، وذلك عبر إلزامهما بالالتزامات والتعهدات الإنسانية الضرورية، والسعي لفرض وقف إطلاق نار تتم مراقبته عبر جهات محايدة لها القدرة على إنفاذ التعهدات التي يلتزم بها الطرفان العسكريان.

لكن إشراك الطرفين مرة أخرى في قضايا السياسة وإدارة الدولة لا يمكن أن يكون من قبيل المعقول أو المقبول لإنهاء حرب السودان. ما حدث في أديس أبابا لا يعدو سوى كونه خطوة في طريق إعلان تحالف سياسي مهين بين "تقدم" وميليشيا "الدعم السريع". والاتفاق حول رؤية سياسية يعني تحالفا ثنائيا بين قوى مدنية وقوى عسكرية وهو ما يشرعن استمرار القوى العسكرية في الانخراط في العمل السياسي، لكن الأخطر من ذلك، أن اتفاق مطلع العام بين حمدوك وحميدتي في أديس أبابا قد يعرقل أو يعقد جهود "الإيقاد" التي أعلنتها للجمع بين برهان وحميدتي بشكل مباشر.

كان "تقدم" قد استبق لقاء البيعة ببيان حاول فيه إلقاء اللوم على الجيش في تعطيل لقاء الجنرالين، وذلك على الرغم من الخارجية الجيبوتية والتي كان يفترض أن يتم اللقاء على أراضيها قد أوردت بشكل صريح أن تأجيل اللقاء قد تم بسبب ظروف فنية متعلقة بقائد "الدعم السريع".

لم تخيب الميليشيا سوء الظن فيها بعد توقيعها على الاتفاق، وأثبتت أنها ليست أكثر من مجرد حبر على ورق تهرقه دون إرادة سياسية حقيقية للالتزام به

والواضح أن هذه الظروف الفنية التي تعلل بها قائد الميليشيا كانت مرتبطة بهذا اللقاء بينه وبين "تقدم". وكانت الاجتماعات التحضيرية لـ"تقدم" التي سبقت لقاء بداية السنة قد شهدت تداول مقترح من بعض أعضاء الهيئة القيادية لـ"تقدم" بإعلان تحالف صريح مع قوات الدعم السريع باعتبارها تقاتل في سبيل استعادة الديمقراطية والحكم المدني، وهو الأمر الذي أثار تخوف بعض أعضاء "تقدم" من رد الفعل الجماهيري، نظرا إلى الانتهاكات التي واصلت الميليشيا ارتكابها. ولكن يبدو أن بيان إلقاء اللوم على الجيش في تعطيل لقاء جيبوتي واتفاق حمدوك-حميدتي جاءا في سبيل التمهيد لإعلان هذا التحالف بشكل متدرج. 

AFP
مريض سوداني محمول على كرسيه المتحرك امام مستشفى امراض الكلى في القضارف في 1 يناير

وعموما لم تخيب الميليشيا سوء الظن فيها بعد توقيعها على الاتفاق، وأثبتت أنها ليست أكثر من مجرد حبر على ورق تهرقه دون إرادة سياسية حقيقية للالتزام به؛ إذ قامت في اليوم الذي تلى توقيع الاتفاق بفرض حصار ومنع خروج المواطنين من منطقة بانت في أم درمان، وقامت بإرجاع الأسر التي حاولت الخروج من المنطقة إلى أماكن أكثر أمانا. كما تواصل قواتها التقدم نحو مدينة الفاو في ولاية القضارف وهو ما أثار رعبا واسعا في المنطقة، خشية تكرار سيناريو اجتياح "ود مدني" في ولاية الجزيرة. كما اجتاحت قواتها محلية هبيلة في ولاية غرب دارفور، يوم الخميس 4 يناير/كانون الثاني، بعد يومين من توقيع الاتفاق. وكل هذه الأخبار وما يصاحبها من انتهاكات يتم ارتكابها يتم التغطية عليه بأخبار الاتفاق الذي يمهد للسلام في السودان. وعند السؤال عن الالتزامات التي قطعتها الميليشيا على نفسها في الاتفاق، يأتي الرد مكررا من غرف "الجاهزية" الإعلامية التي أصبح يتشاركها مؤيدو الميليشيا و"تقدم" بشكل فاضح، أنه لن يتم تنفيذها قبل توقيع الطرف الثاني (الجيش) على الاتفاق! وهو الاتفاق الذي يحتوي على ما استعرضناه مسبقا من بنود سياسية ويأتي بشكل أن تأخذه كله أو تتركه كله. 
انخرط مثقفو "تقدم" والذين انتقد بعضهم من قبل مرارا وتكرارا أفاعيل الميليشيا وجرائمها بشكل علني مثل دكتور سليمان بلدو، في الدفاع عن اتفاق حمدوك-حميدتي، والترويج له كاختراق كبير يحدث حراكا في السودان. لم يقم أحد بالإشارة إلى ما في هذا الاتفاق من هفوات ومشاكل منطقية وسياسية، بل انخرط جميع هؤلاء (المفكرين) في أكبر عملية تلاعب بالعقول من أجل الترويج للاتفاق. 
وكشف هذا المنحى عن خلل حقيقي في بنية هؤلاء المثقفين الذين يرغبون بأي شكل كان في الحفاظ على علاقاتهم مع السلطة السياسية، وهذه ليست بالضرورة أن تكون على جهاز الدولة. فقد اعتبروا وجودهم على مائدة "تقدم" أمرا كافيا للتصدي للدفاع عما يفعله ساستها، حتى ولو جاء ذلك على حساب تضليل شعبهم والتلاعب به. 

الحل السياسي الصحيح لإيقاف الحرب هو ما يضمن وبشكل واضح حل الميليشيا وإنهاء وجودها كمؤسسة مستقلة، وليس دمجها في قيادة الجيش

الواقع الآن يقول إن الميليشيا تأخذ السودانيين كرهائن لتنفيذ مطامحها السياسية، وإن "تقدم" قد انخرطت معها الآن (خوفا أو طمعا) في شرعنة هذا الاختطاف. إن أطروحة الحل السياسي لوقف الحرب هي الأطروحة الوطنية الصحيحة. وإيقاف هذه الحرب المجنونة يجب أن يكون هو الهدف الوطني الوحيد لكل حادب في هذا الوقت. لكن الحل السياسي لا يعني تسليم البلاد للميليشيا وفق منهج "الحكم لمن غلب"، بل ينبغي أن يكون الحل السياسي الصحيح الذي يعالج جذور المشكلة وأسباب الأزمة، وهي تعدد المؤسسات العسكرية في البلاد وانخراطها في السياسة وفسادها. 
لا يمكن القبول باستمرار الوجود المؤسسي لميليشيا الدعم السريع كما لا يمكن القبول باستمرار الجيش على وضعه الحالي. هذا لن يكون حلا بل مجرد مساومة سلطوية بمستقبل البلاد وخضوع لابتزاز السلاح والحرب في تأجيل للأزمة، والسعي لتحقيق مكاسب سياسية من معاناة الناس ومن الحرب التي قتلت وشردت واغتصبت أبناء وبنات شعبنا. 
إن أي حديث عن استمرار قوات الدعم السريع في الحياة السياسية أو منحها مناصب في قيادة القوات المسلحة هو مجرد "استهبال وانحطاط سياسي". المجرم والغاصب لا يمكن ائتمانه على جهاز العنف الشرعي للدولة. وكذلك فإن انكشاف حال القوات المسلحة الذي ظهرت عوراته جلية، أثبت مدى الإفساد الذي تركته فيها سنوات الأسلمة والتمكين، وكذلك أثبتت صحة مطلب وضرورة إصلاح المؤسسة العسكرية والأمنية في السودان.  
الحل السياسي الصحيح لإيقاف الحرب هو ما يضمن وبشكل واضح حل الميليشيا وإنهاء وجودها كمؤسسة مستقلة، وليس دمجها في قيادة الجيش، وكذلك يتضمن الإصلاح الجذري في المؤسسة العسكرية السودانية. والهدف من التفاوض لا يعني مغازلة طموحات الطرفين، والسعي لإرضائهما بل يعني السعي لتنزيل القواعد والأركان السليمة لإعادة بناء الدولة السودانية. 

font change

مقالات ذات صلة