... لكن هل ينهي لقاء البرهان وحميدتي حرب السودان؟

ليست المرة الأولى التي ترتفع فيها آمال السودانيين

AFP
AFP
جنود من الجيش السوداني يقومون بدورية في القضارف بشرق السودان، في 18 ديسمبر 2023

... لكن هل ينهي لقاء البرهان وحميدتي حرب السودان؟

راج في الأوساط السودانية بشكل مكثف في الأيام الماضية، احتمالية انعقاد لقاء مباشر بين قائدي الفصيلين المتحاربين، الجنرالين برهان وحميدتي، تحت رعاية "الإيغاد" (الهيئة الإقليمية للتنمية) في جيبوتي. وبقي الأمر يتأرجح بين التأكيد والنفي. لكن هل حصول لقاء بينهما ينهي "حرب الجنرالين"؟

كان الاتحاد الأفريقي و"الإيغاد" قد أعلنا منذ بدء اندلاع الحرب عن فحوى مبادرتهما لعقد اجتماع مباشر بين الجنرالين كمنصة مباشرة للتباحث حول وقف الحرب. وتلى ذلك تكوين الآلية الثلاثية لـ"الإيغاد" والتي ضمت رؤساء جنوب السودان وكينيا وجيبوتي. ولاحقا تحولت الآلية إلى رباعية بإضافة الرئيس الإثيوبي إليها.

مرت "مبادرة الإيقاد" بمراحل عدة من الشد والجذب، إذ تغيرت رئاستها من جنوب السودان إلى كينيا، وهو الأمر الذي أثار كثيرا من التحفظات عليها من جانب الحكومة السودانية التي شككت في حيادية الرئيس الكيني واتهمته بالانحياز، وبأنه أقرب لدعم مواقف ميليشيا "قوات الدعم السريع".

وصدرت عن مساعد القائد العام للجيش السوداني (ياسر العطا) اتهامات صريحة وعدائية ضد كينيا في الإعلام، ولكن لاحقا قام القائد العام للجيش السوداني ورئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان بزيارة كينيا ولقاء الرئيس وليام روتو يوم 13 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وهو ما يبدو أنه طبع العلاقة مع مبادرة "الإيغاد".

اقرأ أيضا: دوامة الحرب في السودان... إلى أين؟

وتناولت الزيارة بحسب البيان الرسمي الصادر عن الجانب السوداني (ضرورة عقد قمة طارئة لرؤساء "الإيغاد" ووضع إطار لحوار سوداني شامل لا يستثني أحدا). وبالفعل انعقدت قمة "الإيغاد" في جيبوتي يوم السبت 9 ديسمبر/كانون الأول 2023 بحضور البرهان. وتواتر عن مداولاتها أن البرهان وافق خلال أعمال القمة على عقد لقاء مباشر مع حميدتي للتباحث حول كيفية التوصل إلى حل ينهي أزمة الحرب المشتعلة في السودان منذ 15 أبريل/نيسان 2023.

وفي أعقاب القمة، أصدرت وزارة الخارجية السودانية بيانا احتجاجيا على البيان الصادر عن سكرتارية "الإيغاد" لعكس مداولات ومخرجات القمة، وقالت الخارجية السودانية في بيانها إن بيان "الإيغاد" لا يمثل ما خرجت به القمة، وأن السودان غير معني به حتى تقوم رئاسة "الإيغاد" وسكرتاريتها بتصحيح ذلك.

وجاء بيان الخارجية السودانية مليئا بالمغالطات الشكلانية ولكن النقاط الأكثر بروزا فيه كانت احتجاجها على الإشارة إلى مشاركة وزير الدولة بوزارة خارجية دولة الإمارات العربية في القمة، إذ إن ذلك لم يحدث بحسب روايتهم، ومطالبتها حذف الإشارة إلى عقد رؤساء "الإيغاد" مشاورات مع وفد ميليشيا "الدعم السريع" باعتبار أن البرهان وهو أحد رؤساء "الإيغاد" ولم يشارك أو يسمع بالمشاورات التي جرت.

تأتي اخبار اللقاء بين الجنرالين في ظل هذه الظروف المحتدمة والتي قادت البعض لإطلاق دعوات للمقاومة الشعبية والتسليح الشعبي 

كما طالبت الخارجية السودانية أيضا بحذف الفقرة التي تشير لمكالمة هاتفية بين رؤساء "الإيغاد" وقائد الميليشيا، إذ إن هذه "المكالمة تمت بين الرئيس الكيني وقائد التمرد وبعد انتهاء القمة، وبالتالي لا تعد من أعمال القمة حتى يشار إليها في البيان الختامي".

والواقع أن وزير الدولة بالخارجية الإماراتية، شخبوط بن نهيان، كان قد وصل بالفعل إلى جيبوتي وشارك في الاجتماع.

وشارك في الاجتماع أيضا بعض رؤساء "الإيغاد" وعلى رأسهم الرئيس الكيني، ورئيس جيبوتي، بالإضافة إلى السفير الأميركي في السودان جون غودفري بعد انقضاء الأعمال الرسمية للقمة، فيما لم يحضر الرئيس الأوغندي يوري موسيفني، ولا رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، وبالطبع البرهان، هذا الاجتماع.

اقرأ أيضا: تصاعد مخاطر الانفصال في السودان

 

AFP
سودانيون يتجمعون لدعم الجيش السوداني في مدينة ود مدني في 17 ديسمبر 2023

وكان هذا هو الاجتماع الذي تم فيه الاتصال مع قائد "قوات الدعم السريع" حميدتي، وذلك عبر هاتف أحد أعضاء وفد الميليشيا، وإن لم يتم التحدث معه مباشرة، ولكن عن طريق مترجم وسيط كان هو الذي يخاطب الاجتماع للتحصل على موافقة قائد الميليشيا على حضور الاجتماع مع البرهان.

وبالرغم من الضجة التي أثارها بيان الخارجية السودانية، ولكن وردت الأنباء من "الإيغاد" عن تجاوز هذه الاعتراضات، وموافقة قائد الجيش وقائد "الدعم السريع" على الاجتماع المباشر. وهو الأمر الذي أكده مستشار الميليشيا السياسي يوسف عزت في تصريحات صحافية، غير أنه أكد في التصريحات نفسها أنه لم يتم تحديد تفاصيل اللقاء بعد.

وكان من اللافت أن عزت والذي عمل سفيرا متجولا لـ"الدعم السريع" منذ اندلاع الحرب لم يحضر اجتماع "الإيغاد" المعني. وذكرت تقارير صحافية سودانية أن هناك خلافات بين عزت والقوني دقلو، الشقيق الأصغر لقائد الميليشيا، متعلقة بالطموح السياسي للرجلين لوراثة قيادة الميليشيا، أدت إلى إبعاد عزت من دائرة التأثير على قرار الميليشيا.

ينبغي أن يفهم وسطاء اللقاء إذ تم، أن هذه الحرب سيئة، وطرفيها لا تعنيهما مصلحة الشعب السوداني في شيء

ليست هذه هي المرة الأولى التي ترتفع فيها آمال السودانيين بوجود تحرك يفضي إلى حل سحري يؤدي إلى إيقاف الحرب. وتأتي أخبار اللقاء هذه المرة بعد الاجتياح البربري الذي قامت به ميليشيا "قوات الدعم السريع" على ولاية الجزيرة ومدينة "ود مدني"، والتي أعادت فيه تكرار ارتكاب الانتهاكات البشعة التي مارستها من قبل في الجنينة والخرطوم واردمتا وغيرها من المناطق التي اجتاحتها في السودان.

أكثر من مجرد لقاء

وتتهم منظمات حقوقية دولية ومحلية ميليشيا "قوات الدعم السريع" بممارسة القتل العشوائي والنهب والاغتصاب بشكل بشع في مدني وقرى ولاية الجزيرة التي لا توجد فيها أي أهداف عسكرية في حملة بربرية بشعة كشفت عن الوجه الحقيقي للميليشيا مرة أخرى.

واندفع إعلام الميليشيا وأصدقاؤها وحلفاؤها في محاولة إنكار الجرائم التي تم ارتكابها في ربوع الجزيرة. لم يجدِ الإنكار وسط تدفق الأنباء والصور عن الفظائع التي تم ارتكابها، بل ارتفع صوت الانتقادات ولو على استحياء من بعض حلفاء الميليشيا والتنظيمات المقربة منها، ووصل الأمر إلى استقالة بعض منسوبي الميليشيا وقياداتها مثل كبير مفاوضيها فارس النور والذي شهدت المنطقة التي ينحدر منها في ربوع الجزيرة (ود الحداد) ارتكاب فظائع على يد جنود ميليشيا قائده، ليدفع باستقالته من "الدعم السريع" في وسائط السوشيال ميديا، مبقيا على شعرة معاوية مع داعمي الميليشيا، بكيل الثناء لقائد الميليشيا في سعيه للسلام وإنهاء الحرب التي أشعلها، معلنا أنه يستقيل ليتفرغ لجهود وقف الحرب! في مشهد عبثي آخر من كوميديا الواقع البديل الذي تروج له الميليشيا وإعلامها.

AFP
نازحون بسبب الصراع في السودان يتحركون بأمتعتهم على طريق ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة في 16 ديسمبر 2023

ظهر خطاب التبرير الجديد بعد ذلك الذي يلقي باللائمة على المتفلتين، واندفع قادة الميليشيا العسكريين في التأكيد على الضبط والربط وحماية المواطن وما إلى ذلك من الكلمات المجانية التي تستخدمها أبواق الميليشيا دونما حساب أو انعكاس على أرض الواقع.

ولكن الشاهد أن ما فعلته ميليشيا "الدعم السريع" في مدني وولاية الجزيرة فعلت مثله وأسوأ منه في الخرطوم وفي الجنينة وفي كل مكان انتشرت فيه قواتها. وحاولت قيادات الميليشيا وحلفاؤها تلطيف جرائم مدني ووصفها بأنها مؤسفة وأن منفلتين هم من قاموا بها، هي سعي للإفلات من عواقب هذه الجرائم. وتبقى الحقيقة أن هذه الانتهاكات وما سبقها هي الوجه الحقيقي للميليشيا، ولن تنفع محاولات القفز من قاطرتها في اللحظات الأخيرة.

يجب على قائدي الطرفين المتحاربين الإعلان والتأكيد على التزامهما بالسماح للمدنيين بحرية التنقل بعيدا عن مناطق القتال.

تأتي أخبار اللقاء بين الجنرالين في ظل هذه الظروف المحتدمة والتي قادت البعض لإطلاق دعوات للمقاومة الشعبية والتسليح الشعبي في ظل يأس الجميع من أي قدرة للجيش على تحقيق أي تقدم عسكري حقيقي على أرض الواقع.

دعوات للمقاومة الشعبية

والمعقول أنه ينبغي إدارة التوقعات حول هذا الاجتماع بشكل واقعي في حالة حدوثه. فهذا اللقاء الأول يتم دون تحضير مسبق وفي ظل مواقف متباعدة وعمل عسكري متزايد، لن يفضي بالتأكيد لتحقيق اختراق كبير على أرض الواقع أو في طريق الحل السياسي النهائي.

ينبغي أن يفهم وسطاء اللقاء، إذا تم، أن هذه الحرب سيئة، وأن طرفيها لا تعنيهما مصلحة الشعب السوداني في شيء، وتجربة جدة في محاولة إيجاد حل يرضي الأطراف ماثلة وقريبة. من الضروري ترتيب الأولويات وإذا كان في المستطاع الخروج من هذا اللقاء بالتزامات من قائدي الطرفين فلتكن حماية المدنيين وضماناتها التي هي أولى من أي أمر آخر.

يجب على قادة الفصيلين المتعارضين الاعتراف بالفظائع وأعمال العنف التي ارتكبتها قواتهم وإدانتها بشكل واضح.

ما يجب أن يهدف إليه الوسطاء هو الخروج بالتزامات معلنة من قائدي الطرفين تتعلق بالآتي:

إصدار نداء مشترك لوقف العنف ضد المدنيين السودانيين فورا، بما في ذلك أعمال النهب والقتل الجماعي والعنف الجنسي ضد النساء والفتيات، وغيرها من أشكال الفظائع التي تم ارتكابها بواسطة القوات المتقاتلة.

دعوة جميع منظمات الإغاثة الإنسانية إلى استئناف العمل في المناطق المتضررة بالحرب وتوجيه جنودهما علنا بتمكين وصول المساعدات الإنسانية دون قيود.

الاتفاق على إنشاء مناطق آمنة للمدنيين وتأكيد التزام قائدي الطرفين بشكل مشترك بالسماح بممرات آمنة لإيصال المساعدات إلى المناطق المحاصرة في الخرطوم الكبرى وشمال وجنوب كردفان وجنوب وغرب دارفور وولاية الجزيرة. علاوة على ذلك، يجب على قائدي الطرفين المتحاربين الإعلان والتأكيد على التزامهما بالسماح للمدنيين بحرية التنقل بعيدا عن مناطق القتال.

وايضا من الأهمية بمكان أن يعلن قادة الفصيلين المتعارضين عن موافقتهم على إنشاء مخيمات للنازحين داخليا وأن يتعهدوا بشكل معلن بالامتناع عن أي شكل من أشكال العدائيات أو الاستغلال العسكري لهذه المخيمات من قبل قواتهم. لقد أدى التدفق الكبير للنازحين داخليا إلى استنزاف القدرة الاستيعابية للسكن في مختلف الولايات السودانية. ونتيجة لذلك، يعيش النازحون الآن في ظروف غير إنسانية وأوضاع معاناة بالغة التعقيد.

بالإضافة إلى ذلك، يجب على قادة الفصيلين المتعارضين الاعتراف بالفظائع وأعمال العنف التي ارتكبتها قواتهم وإدانتها بشكل واضح. ويجب عليهم التنصل منها بشكل مشترك وإصدار توجيهات إعلامية عامة لقواتهم بعدم السماح بارتكابها. إن مواصلة خطاب الإنكار والتبرير ومحاولات التملص من المساءلة عن هذه الانتهاكات سيعيق أي إمكانية أو تقدم نحو المصالحة الوطنية ويجعل العدالة الانتقالية في السودان من قبيل الاستحالة.

قد تكون هذه المطالب الأساسية لتخفيف مستوى معاناة المدنيين في خضم هذه الحرب المجنونة من قبيل المعقول والمنطقي والقابل للتحقيق وقياس مدى الالتزام عند النظر إلى تعقيدات الظروف الحالية. ومن الممكن أن يؤدي تنفيذها على أرض الواقع إلى تعزيز بيئة أكثر ملاءمة لتحقيق تقدم أكبر على مسارات إنهاء الصراع وتحقيق الحلول السياسية.

الأولوية الآن ينبغي أن تكون لحياة الناس وضمان الحد الأدنى من سلامتهم وأمنهم واحتياجاتهم الأساسية وهو التحدي والمحك الحقيقي الذي سيواجهه الجميع قبل الحديث عن معادلات قسمة السلطة والنفوذ.

font change

مقالات ذات صلة