سقوط ولاية الجزيرة في يد "الدعم السريع" يوسع الحرب في السودان

بعدما كانت مركز عمليات الاغاثة

AFP
AFP
مؤيدون للجيش السوداني في ود مدني قبل سقوطها في يد "الدعم السريع" في 17 ديسمبر

سقوط ولاية الجزيرة في يد "الدعم السريع" يوسع الحرب في السودان

في وقت مبكر من فجر 15 ديسمبر/كانون الأول 2023، بدأت "قوات الدعم السريع" هجومها على ولاية الجزيرة جنوبي العاصمة الخرطوم، ومحاولة اقتحام عاصمتها "ود مدني" من الجهة الشرقية. وكانت الميليشيا قد تمددت بقواتها جنوبا على مدى الأسابيع الماضية، بعد ما يئس طرفا القتال من حسم معركة الخرطوم التي تحولت إلى مدينة أشباح حرفيا، تسيطر "الدعم السريع" على شوارعها وأحيائها، بينما يتحصن الجيش داخل المعسكرات التي بقيت له. أما سكان المدينة، فتوزعوا بين الذين هجروا منازلهم ونزحوا إلى مناطق أخرى أو الذين لا يزالون تحت سطوة حصار الميليشيا، لا حول لهم ولا قوة.

منذ اندلاع الحرب، وانفجار موجة النزوح التي شملت أكثر من ثلثي سكان العاصمة الذين يقارب تعدادهم الثمانية ملايين نسمة، احتضنت ولاية الجزيرة وحاضرتها "ود مدني" مئات الآلاف من النازحين الذين تشردوا من ديارهم في الخرطوم. بشكل رئيس، كان ذلك بسبب قربها الجغرافي من الخرطوم حيث تقع على بعد 186 كيلومترا جنوب شرقي العاصمة، وهي أيضا المدينة الحضرية الثانية في البلاد بعد الخرطوم نسبة لارتباطها بشبكة طرق معبدة مع معظم أصقاع البلاد الأخرى وأهمها الطريق الرئيس السريع الذي يربطها بميناء بورتسودان عبر مدينتي القضارف وكسلا بمسافة قدرها 950 كيلومترا. يضاف ذلك إلى ارتباطها بشبكة طرق معبدة تمتد إلى سنار وكوستي والأبيض جنوبا وغربا.

وتتوفر فيها شبكة خدمات وبنية تحتية معقولة نسبيا بسبب وجود عدد من الأنشطة الصناعية- خصوصا في مجال الصناعات الغذائية- في الولاية التي ظلت لفترة طويلة تحتضن أكبر مشروع زراعي في السودان، وأكبر مشروع ري انسيابي في العالم (مشروع الجزيرة). وكما أنها المدينة التي تحتضن أكبر عدد من دور إيواء النازحين حاليا في السودان.

أصبحت ولاية الجزيرة وعاصمتها "ود مدني" مركزا لغالبية عمليات الإغاثة الإنسانية المحلية والدولية. فعلى سبيل المثال، تم نقل وتخزين أغلب لقاحات تطعيم الأطفال إلى مدينة "ود مدني" بعد أن قامت الميليشيا باجتياح الخرطوم، وهو الأمر الذي سيعرقل بشكل مباشر تطعيم 1.4 مليون طفل تحت السنة الأولى من العمر بالإضافة إلى أنه سيعطل حملة تطعيم تستهدف تحصين 15.5 مليون طفل من الحصبة الألمانية في مختلف أنحاء البلاد. بالإضافة إلى ذلك، انتقل أغلب المراكز العلاجية التخصصية مثل المركز القومي لعلاج الأورام، ومركز جراحة وعلاج أمراض القلب، والمركز القومي للنزيف المعوي، وغيرها، إلى مدينة "ود مدني" وولاية الجزيرة.

AFP
نازحون من ود مدني لدى وصولهم الى القضارف في 18 ديسمبر

كل هذا ذهب أدراج الرياح بعد هجوم الميليشيا على "ود مدني". كذلك فإن "ود مدني" تعتبر حاليا المركز الأساسي للتخزين والإمداد الدوائي لبقية البلاد بعد احتلال الميليشيا لمخازن الصندوق القومي للإمدادات الطبية في الخرطوم، خصوصا للأدوية التي تحتاج إلى تبريد مثل الأنسولين لمرضى السكري والأوكسيتوسين المستخدم في تسهيل الولادات المتعسرة والسيطرة على نزيف ما بعد الولادة.

كل ما يحدث الآن هو نتيجة مباشرة لقطع مسار التحول المدني الديمقراطي للفترة الانتقالية التي تلت خلع الطاغية البشير، والعودة لاستخدام السلاح في مخاطبة الخلافات السياسية

ومنذ سريان أخبار الهجوم على "ود مدني"، تدافع سكانها والنازحون إليها إلى الخروج منها. واجتاحت الميليشيا منطقة رفاعة شرقي المدينة، ثم منطقة حنتوب، وارتكبت فيها ما ارتكبت من فظائع النهب والترهيب. وأعادت قوات الدعم السريع تكرار المشاهد نفسها التي ارتكبتها في الخرطوم وفي الجنينة وفي كل منطقة اجتاحتها قواتها في السودان. وأعلنت الوكالات الإنسانية أن أكثر من 300 ألف مواطن قد نزحوا من "ود مدني" في اليومين الأولين لهجوم الميليشيا فيما وصلت الأعداد خلال الأيام التي تلتها إلى حوالي خمسمئة ألف من الذين أصبحوا ضحية غائلات النزوح المتتالية. وفي 19 ديسمبر/كانون الأول، منعت الميليشيا النازحين الذين يحاولون الفرار من "ود مدني" من الخروج من المدينة، ودعتهم- في مشهد عبثي ساخر من الواقع- لمواصلة حياتهم بشكل طبيعي. وفرضت الميليشيا حصارها على مدني وحولتها بشكل فعلي إلى سجن كبير- يشبه ما صنعه الإسرائيليون في غزة- وأخذت سكانها رهائن. وقد وثقت مقاطع الفيديو من مدني اجتياحهم لمزرعة الكنيسة القبطية في شرق مدينة "ود مدني". وسجل أفراد الميليشيا الفيديوهات لأنفسهم وهم يحملون مدافعهم الرشاشة، ويحاولون ابتزاز وترهيب رهبان الكنيسة للخروج منهم بكلمة ثناء على قوات الدعم السريع دون أن ينتبهوا إلى حرمة دخول الكنيسة بالسلاح في الأساس. فيما انتشرت في الأخبار صور نهب البنوك وإحراق مقر بنك السودان المركزي في المدينة.

وقد ارتفع خطاب الفيديو المسجل ونداء الاستغاثة الذي أطلقه السيد رضوان عبدالجبار- أحد مسؤولي دار رعاية الأطفال فاقدي السند الذي انتقل إلى "ود مدني" بعد اجتياح الميليشيا للخرطوم ليؤوي أكثر من مئتي طفل نصفهم من ذوي الاحتياجات الخاصة- شاهدا على حجم الكارثة ومدى الرعب الذي بثته الميليشيا في أرجاء "ود مدني". بينما انتشرت في الوسائط الاجتماعية الأسئلة والطلبات حول توفر وسائل منع الحمل بعد الاغتصاب والوقاية من الأمراض المنقولة جراءه. وثقت التقارير بشكل مؤكد ست حالات اغتصاب جنسي من قبل أفراد قوات الدعم السريع، بينما وصل عدد التقارير عن الحالات غير الموثقة إلى أكثر من 130 حالة ولا تزال تتزايد. أما وكالات الأمم المتحدة، فقد اكتفت بعرض الإحصائيات الأولية وإعلان تعليق جميع العمليات الإنسانية الميدانية في الولاية وخارجها أيضا.

AFP
مؤيدون للجيش السوداني في ود مدني في 17 ديسمبر

سقطت مدني في يد الميليشيا يوم 18 ديسمبر/كانون الأول. وأصدرت القيادة العامة للجيش السوداني يوم الثلاثاء 19 ديسمبر/كانون الأول بيانا عن ملابسات سقوط ولاية الجزيرة في يد الميليشيا، وقالت إن الفرقة الأولى مشاة الموكلة بحماية المنطقة قد انسحبت من مواقعها وأنها ستجري تحقيقا لمعرفة الأسباب والملابسات التي أدت لانسحاب هذه القوات. ما يغيب على قيادة الجيش وهي تترنح في عجزها الفاضح، أن التحقيق المطلوب ليس في مجرد انسحاب قواتها من مدني، بل في ملابسات الدوامة التي قادت إليها البلاد منذ انقلابها بمعية ميليشيا قوات الدعم السريع في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021. فكل ما يحدث الآن هو نتيجة مباشرة لقطع مسار التحول المدني الديمقراطي للفترة الانتقالية التي تلت خلع الطاغية البشير، والعودة لاستخدام السلاح في مخاطبة الخلافات السياسية.

قادة الفصائل المدنية المنضوية في تحالف "قوى الحرية والتغيير" فقد فشلوا للمرة المليون، في الانحياز إلى السودانيين في خضم معاناتهم

كان انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 هو قطعة الدومينو الأولى التي بدأت الانهيار الشامل الذي نشهده الآن في السودان. إن ما يحدث الآن في أرض السودان الذي تستبيحه الميليشيا وتقف فيه مؤسسة الجيش عاجزة عن أداء دورها الأساسي في الحفاظ على أمن البلاد والمواطنين، يعيد التأكيد على ضرورة إصلاح المؤسسة العسكرية في السودان واستعادة مهنيتها وفاعليتها لتصبح قادرة على أداء مهامها بفعالية بدلا من هذا العجز المعيب الذي نشهده الآن، وقد كان التدافع حول هذا المطلب الذي ظلت قيادة الجيش ترفضه وتراوغ حوله هو السبب الرئيس للصراع السياسي الذي سبق الانقلاب وقاد إليه، وهي المماطلة والمراوغة نفسها التي مارستها ميليشيا "الدعم السريع" بعد الانقلاب. إن أولئك الذين لا زالت تعمي أعينهم الآيدولوجيا وبقايا امتيازات العنف السياسي التي نالوها في حماية نظام "الإخوان المسلمين" الذي أسقطته ثورة السودانيين في أبريل/نيسان 2019، هم الذين قطعوا الطريق إلى المستقبل الأفضل الذي يتشارك بناءه كل أهل السودان، وقادونا بشكل مباشر وغير مباشر إلى محرقة هذه الحرب المدمرة.

AFP
دورية للجيش السوداني في القضارف في 19 ديسمبر

أما قادة الفصائل المدنية المنضوية في تحالف "قوى الحرية والتغيير" فقد فشلوا للمرة المليون، في الانحياز إلى السودانيين في خضم معاناتهم. وكشف الهجوم الإعلامي ومحاولة التشتيت وتغيير وجهة الخطاب الذي قامت به غرفهم وكوادرهم الإعلامية على الدعوات لإيقاف هجوم "الدعم السريع" على مدني وولاية الجزيرة عن تواطؤهم المضمر مع الميليشيا! فيما اندفع قادتهم لتبرير جرائم "الدعم السريع" بالحديث عن انتهاكات الجيش وهو ما أصبح استراتيجية مفضوحة في استخدام "الماذا عن" (Whataboutism) لتبرير فاشية الميليشيا. اندفع ياسر عرمان، رئيس فصيل "الحركة الشعبية" المنضوي في "الحرية والتغيير" إلى الحديث عن اعتقالات تقوم بها قوات الجيش على أسس إثنية وجغرافية في مدني، في خضم الانتهاكات والجرائم التي ترتكبها قوات الميليشيا الغازية، مستندا إلى خطاب مزور أمر بالاعتقالات من والي الجزيرة تم تداوله في الوسائط الاجتماعية بين مؤيدي الميليشيا ولكن سرعان ما كشف مركز جهينة للتوثق من الأخبار عن أنه مزور. ولكن بالرغم من ذلك فضل ياسر عرمان المشاركة في حملة التضليل وصناعة الواقع الافتراضي البديل الذي يحاول تصوير الميليشيا كفاعل خير يقاتل من أجل العدالة والحكم المدني! فيما فضلت قيادات أخرى من "الحرية والتغيير" تبني خطاب الميليشيا بتبرير هجومها على "ود مدني" بزيارة قائد الجيش البرهان لها وتصريحاته هناك، أو الحديث عن قصف الجيش مناطق في دارفور.

لم يستطع كل هولاء القادة (المدنيين) حتى الآن التعامل بصدق مع حقيقة أن هذه الحرب تدور بين طرفين سيئين وأن الانتهاكات لا يجب ولا يمكن تبريرها بالانتهاكات. وأن الموقف الحقيقي ضد الحرب لا يجب أن يتبنى محاولة صرف النظر عما يحدث من أحد الأطراف بالإصرار على مقارنته بالآخر. كل هذه الحرب سيئة وكل أطرافها سيئون. ومحاولة تبرير جرائم الميليشيا الفاشية بأي أمر كان، هو مشاركة مباشرة في الجريمة تجعل أصحابها لا يختلفون في شيء عن أولئك الذين يحملون السلاح. إن القيادات المدنية التي تحتفي الآن بالذكرى الخامسة لثورة ديسمبر المجيدة والتي اندلعت في 19 ديسمبر/كانون الأول 2018، عليهم أن يتذكروا أن الثورة كانت بالناس ولأجل الناس ولن يمثلها من يتجاهل ما يحدث لهم من معاناة وضدهم من جرائم في خضم هذه الحرب المأساوية حتى وإن علا صوته أو ارتفع صخب ادعاءاته. لن تحملكم بنادق الميليشيا إلى مقاعد الحكم فوق جماجم الشعب، وإن فعلت، فلن تكونوا سوى حاشية موظفين للزينة في خدمة الفاشي.

هجوم الميليشيا على شرق السودان قد يدفع إريتريا للتدخل العسكري إلى جانب الجيش وهو ما قد يدفع إثيوبيا أيضا للتدخل في اتجاه مضاد

هجوم الميليشيا على مدني وسيطرتها على ولاية الجزيرة وهي منطقة كانت آمنة بالنسبة إلى النازحين مؤشر خطر على اتساع دائرة الحرب. فالطريق الآن أصبح مفتوحا لهجوم الميليشيا– والتي لا يعوزها على ما يبدو الإمداد بالسلاح والذخيرة والمقاتلين- على ولايات شرق السودان (القضارف، كسلا، والبحر الأحمر)، وهي التي ترتبط بواقع جيوسياسي معقد مع دول في المنطقة تشهد توترا عاليا وبالأخص (إريتريا وإثيوبيا).

إن هجوم الميليشيا على شرق السودان قد يدفع إريتريا للتدخل العسكري إلى جانب الجيش وهو ما قد يدفع إثيوبيا أيضا للتدخل في اتجاه مضاد. ولن تعوز كلتيهما التبريرات، فاللغة سمسم الكاذبين الوفير، وخصوصا في المساحة التي تتداخل فيها المصالح السياسية والاقتصادية والروابط الاجتماعية. سيحول هذا الكارثة في السودان من مجرد حرب أهلية طاحنة إلى مركز انطلاق لحرب إقليمية مدمرة، ستؤثر على الإقليم والعالم لفترة طويلة.

قام قائد الميليشيا محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي بإعلان أبو عاقلة محمد أحمد كيكل كقائد عسكري للمنطقة. وكيكل مهرب وقاطع طريق معروف وتاجر سلاح كان ينشط في سهول البطانة شرقي ولاية الجزيرة. لقد أعلن كيكل في عام 2022 تشكيله لميليشيا عسكرية باسم "درع السودان"، بهدف دعم انقلاب الجيش و"الدعم السريع" ضد المدنيين، بعد أن اشتركا في إسقاط الحكومة المدنية الانتقالية يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول من العام الذي سبقه. قام كيكل وميليشياته بإعلان الانضمام إلى قوات الدعم السريع بعد اندلاع هذه الحرب، وهو ما أطلق يده كقائد ميداني للميليشيا في ممارسة النهب والترويع كما يشاء وتولى قيادة الهجوم على "ود مدني"، وتمت مكافأته بعد ذلك بمنحه عطية كرسي قيادة المنطقة. فيا لهذه المدنية والديمقراطية التي تأتي في ركاب قطاع الطرق وتجار السلاح!

font change

مقالات ذات صلة