المسرح العربي: عراقة أم إبداع؟

المسرح العربي: عراقة أم إبداع؟

في كل ندوة، أو ملتقى، أو مهرجان، أو مناسبة، أو غير مناسبة، تنفقع آراء وأقوال عن المسرح، هي، أقرب إلى السورياليّة أو الدادائية، أو إلى باب اللّامعقول، والعَبَث.

بين هذه الآراء والأقوال، أنّنا، نحن العرب، ليس عندنا تقاليد مسرحيّة عريقة، ولا كتابات مسرحيّة راسخة، ولا ممارسات مسرحيّة مستمرة، ولا، تاليا، مسرح ذو تكاوين وتباشير وتقاسيم عربيّة. السبب، حسب هذه الأقوال والآراء، أنّنا حديثو عهد بهذا الفنّ العريق، لأنّ المسرح، كنصّ وكأداء وكتحريك خشبة لا يتجاوز عمره 150 سنة، وتحديدا منذ تجربة اللبناني مارون النقاش عام 1848.

لا نريد أن نناقش هذه الآراء من خلال وثائق مكتشفة ومعروفة، في كلٍّ من مصر وسوريا وتونس ولبنان، بأن هذه الأقطار عرفت المسرح منذ 4000 سنة. فهذا موضوع آخر، ولكن ما نريد تناوله، بالنسبة إلى هؤلاء أن 150 سنة، كافية، (كما نظنّ) لتأسيس مسرح ما، ذي تكاوين وتباشير عربيّة. 150 سنة وليس عندنا مسرح عربي! الحجّة أنّ هذه المدة غير كافية، ويلزمنا، ربّما، حسب آرائهم، عشرون قرنا أو ما يزيد. إذاً، لماذا كتب هؤلاء الكتَبَة مسرحا، ما دام علينا أن ننتظر عشرين قرنا أو ما يزيد، ليكون لنا مسرحنا. إذاً، لماذا، أخرج هؤلاء مسرحا، ما دام علينا أن ننتظر عشرين قرنا أو ما يزيد، ليكون لنا مسرحنا. لماذا أتعب هؤلاء المنتظرون أنفسهم بكتابة بيانات، وتحرير اتجاهات، وتفسير مقولات، ما دام علينا أن ننتظر عشرين قرنا أو ما يزيد، ليكون لنا مسرحنا؟ لماذا لا ينتظرون عشرين قرنا، أو ما يزيد، ويُوصون أحفادهم، وأحفاد أحفادهم، وأحفاد أحفاد أحفاد أحفادهم، بأن ينتظروا عشرين قرنا أو ما يزيد، ليئين الأوان، كي يُكتب نصّ ذو تاريخ عريق، ويُرسَم إخراج ذو تاريخ عريق، وبهذا نملأ المراحل بكلّ هدوء، وبكل تأنٍّ، ولا نحرقها، ونبحث عن مسرح لنا.

مع هذا، وعلى الرغم مما يقولون، يعتبرون أنّ نصوصهم إبداعية، وإخراجاتهم عبقرية، يمطروننا بالمسرحيات، ويُحاصروننا بالتجارب.

لماذا كتب وأخرج هؤلاء في هذا العصر، ما دام هذا العصر غير كافٍ لأن يكون لنا مسرح، وممثلون، وخشبة وفضاءات، وجمهور؟

لماذا كتب وأخرج هؤلاء في هذا العصر، ما دام هذا العصر غير كافٍ لأن يكون لنا مسرح، وممثلون، وخشبة وفضاءات، وجمهور؟ لماذا لا يحرقون ما كتبوا وما سجّلوا؟

كيف يظنّ هؤلاء أنّ 150 عاما غير كافية ليكون لنا مسرح، وممثّلون. وجمهور، وممارسات؟ وهل يعتبرون أنّ توقيت الكتابة والإخراج وما إليهما، بمثابة وصفة طبيّة، يُحدّد تناولها في زمان معيّن، وربّما في مكان معيّن؟ ماذا لو قلنا إنّ السينما هي أيضا حديثة العهد، وعلينا انتظار قرن كي نباشر صناعتها؟ وماذا لو عمّمنا هذه النظريّة على مختلف وجوه الإبداع والصناعات والعلوم، أترى يتبقّى شيء لنا؟ أترى يتبقّى ما ننفرد به، أو نواصله، أو نُطوّره؟ وماذا لو اتّبعت الشعوب الأخرى، الحديثة العهد بهذه الظواهر الإبداعيّة، ذلك، أترى يتبقّى لها أن تقول شيئا، أو أن تفعل شيئا، أو تبتكر شيئا. قبل مرور قرون على معرفتنا بأطراف هذه الظواهر؟

هذه النظرة الزمنيّة - الكمّية للإبداع مغلوطة في أساسها. فالإبداع ليس له مواقيت، وليس له مواعيد، وأزمنة محدّدة سلفا، ينطلق أحيانا من عبقريّة شعب، وأحيانا من عبقريّة فرديّة أو جماعيّة، وهذا لا يعني أننا ننفي عنصر التراكم، أو عنصر الاختمار، أو ظروف الاعتمالات.

على العكس. ولكن التراكم والاختمار والاعتمالات لا تُقاس دائما بِكَمّ الزمن، ولا تُقاس بقوانين ثابتة، لازبة، جامدة. إنّها جزء من التحوّلات العميقة التي تصيب واقعا ما، ومن ثمَّ مكوّنات هذا الواقع، خصوصاّ المبدع. هذا ما حصل بالنسبة الى ملحمة هوميروس، ومن ثمَّ الى كوميديا دانتي، والنصوص القديمة، من دينية وغير دينيّة.

 أمّا أزمة المسرح اليوم، فلا نظنّها عائدة إلى هذا السبب وإنّما إلى ظروف اجتماعيّة وسياسيّة وبيروقرطيّة واستهلاكيّة مختلفة

بالنسبة إلى المسرح، هذا ما حصل مع الإغريق: سوفوكل ويوريبيدس وأرسطوفان... أكان على هؤلاء وسواهم من الإغريق أن ينتظروا بدورهم أربعة آلاف سنة ليكتبوا مسرحياتهم. وكان على الرومان بعدهم، ورَثَة الإغريق، أن ينتظروا بدورهم أربعة آلاف سنة، كي يقدّموا مسرحا عريقا؟ وكان على أوروبا أن تنتظر بدورها أربعة ألاف سنة كي تتهيّأ لكتابة مسرحها؟ وأميركا أكان عليها أيضا أن تنتظر بعد قيامها أربعة آلاف سنة كي تبيح لنفسها وضع مسرحها؟ والكلام إيّاه ينطبق على اليابان والصين وأفريقيا.

على سيرة أميركا، أترى المسرح في أميركا أعرق من المسرح العربي؟ وما عُمْر الحضارة الأميركيّة بالنسبة إلى الحضارة العربيّة؟ أوَليست الحضارة العربيّة الضاربة في التاريخ أعرق وأرسخ من الحضارة الأميركيّة، ومع هذا، عندهم مسرح، ولم أسمع من أيّ مسرحي أميركي يقول إنّ ازمة المسرح عندهم تعود إلى كون هذا الفنّ حديث العهد بالنسبة إلى مَنْ سبقوهم. المسألة إذاً ليست مسألة زمن فحسب، صحيح أن فترة الانحطاط أثّرت كثيرا في الثقافة العربيّة، وصحيح أننا نحتذي (ولا نزال) النموذج الغربي في المسرح، لكن الصحيح أيضا أن المسرح الغربي الحديث هو ابن المسرح اليوناني والياباني وكذلك الصيني، والصحيح أيضا أن 150 عاما إذا لم تكن كافية لتأسيس مسرح عربي، فلن تكفينا ألوف السنين. نقول هذا ونُشير إلى أنّ المسرح العربي سواء في فترته التقليديّة أَم في فترته المعاصرة والحديثة، قدّم تجارب مهمّة جدا، وطليعيّة جدا، في مصر ولبنان وسوريا والعراق والمغرب وتونس والجزائر. وهذا يعني، أننا على الرغم من المقولة القائلة بعدم عراقتنا المسرحيّة، قد انخرطنا في المسيرة المسرحيّة الجادّة والطليعيّة.

أمّا أزمة المسرح اليوم، فلا نظنّها عائدة إلى هذا السبب وإنّما إلى ظروف اجتماعيّة وسياسيّة وبيروقرطيّة واستهلاكيّة مختلفة، وكذلك إلى وضع المسرحي نفسه، الذي بدل أن يصمد إزاء الصعوبات القائمة ويتجاوزها برسوليّة فنّية عالية، تراه يختلق الحجج لتبرير انكفائه وهروبه وعقمه، بأن يقول: مشكلتنا أننا لسنا عريقين في صنع المسرح. مثل هذا القول قناع هشّ يخفي جفاف المبدعين وسهولتهم ووقوعهم في السائد.

font change