خليل حاوي شاعر التراجيديا العربية

خليل حاوي شاعر التراجيديا العربية

قبل 42 عاما وعشية الغزو الإسرائيلي للبنان، انتحر الشاعر خليل حاوي بطلقة من بندقية في رأسه. لكنها لم تكن المحاولة الأولى، فقد سبقتها محاولتان نجا منهما، الثانية بواسطة عقار لقتل الفئران. أتذكر بعد هذه العملية أنه جاء إلى مقهى "الويمبي" في الحمراء وهناته بالسلامة. فهو كان أستاذي في كلية التربية في الجامعة اللبنانية، في مادة الأدب العربي.

رأى كثيرون أن انتحاره كان احتجاجا على غزوة إسرائيل لبنان، وخصوصا أولئك الذين تابعوا شِعره تحت عنصر الانبعاث القومي، وآخرون عزوها إلى مزاجه الانتحاري. هذا إلى حد صحيح، لكن نرى، إلى ذلك، شعوره بالعزلة والإحباط. فهو في هذه اللحظة وجد أن كل ما ناضل من أجله قد تساقط كالغبار، وأن حلمه التموزي (الخصب)، قد تداعى، إضافة إلى فشل علاقته بالمرأة التي أحبها، وها هو قاعد في منزله (يبعد بنايتَين عن منزلي في شارع الحمراء)، وحيدا يجر أيامه بلا رجاء، بلا معنى، ولا رجاء! يضاف أنه نضب شعريا، أي أنه فقد السبيل الوحيد للتعبير عن حاله، وحال الأمة. وعندما قرأت الكتاب الذي نشرته دار "نيلسن" حديثا بمناسبة هذه الذكرى في بيروت، اكتشفت مدى "جفافه"، فالقصائد الأخيرة هذه كأنما كتبتها أصابع أخرى: ضعف في البنية، وهشاشة في الأسلوب.

أتذكر أن جريدة "لوموند" الفرنسية قد نشرت آخر قصيدة من ستة أسطر لسان جون بيرس بعنوان "جفاف". وهي تلائم حقا عنوانها. فالشعراء ينضبون كالينابيع، في مرحلة من مراحل حياتهم. وهذا ما لمسناه عند شعراء عديدين (كأنطونان أرطو) لكن بعضهم يكمل مشواره الشعري بمستوياته الضعيفة كالعديد من الشعراء الغربيين والعرب، كأنهم ينتحرون، لا بعقاقير الفئران، ولا بقطع الشرايين ولا بالمسدسات. وهذا يعني أن خليل حاوي التحق بنفسيته الانتحارية، بشعره، وعزلته، وسقوط رهاناته على الشعر، وعلى سواه.

 هذه القصائد الأخيرة دليل دامغ على أن كل شيء انتهى عند شاعرنا الكبير، خصوصاً عندما نتذكر دواوينه السابقة في عز فورانها

هذه القصائد الأخيرة دليل دامغ على أن كل شيء انتهى عند شاعرنا الكبير، خصوصاً عندما نتذكر دواوينه السابقة في عز فورانها، كانت فتحاً جديدا في الشعر العربي، بقوتها وعمقها وحيويتها ودلالاتها: فجديدها يكمن في أنها أول قصيدة تراجيدية، في شِعرنا، تشبه صاحبها باتساع ثقافته الفلسفية، والشعرية، واللغوية. فهي ليست لغة يومية، متصلة بظروف طارئة، ومناسبات خارجية، بل هي تعبير عن أفكاره، وخصوصيته، وعن القضايا الكامنة. ولهذا تندر قصائده الغزلية في هذه المراحل، وكذلك همومه المباشرة: إنها قصائد طالعة من جو مكتظ بالأحلام والأزمات. في مراهنة على التقدم والانبعاث: انخرط أولا في شبابه في الحزب القومي السوري ومؤسسه أنطون سعادة الذي بشر بسوريا الكبرى التي تتجاوز الحدود العربية، بآفاقها، في ما سماه الهلال الخصيب الذي يضم قبرص إلى مساحته المُعلنة: ثم وجد انتماءه الثاني في العروبة، بتاريخها وحدودها.

لم تشده الأيديولوجيات الماركسية بتفرعاتها، ولا الظواهر القومية الغربية التي التزمتها أحزاب عديدة في لبنان وسواه. إنها القومية العربية يتأبطها خليل حاوي، برموزها وتاريخيتها وحاضرها السياسي والفكري، عندما كان يجسدها "حزب البعث" الذي أسسه المفكر السوري ميشال عفلق فلا قومية جغرافية ولا محلية، ولا عالمية. هذا الاحتضان لها، نما عندما كانت القومية العربية في عز بروزها في عالمنا العربي. بل كانت جزءا من الاتجاهات القومية والمتوسطية، واللغوية تتصارع في العالم، إنه زمن الخصوصيات التي تفجرت. خليل حاوي انتصر لقوميته ولغته وتاريخه، وهذا يعني أن الأحلام التي ورثها عن الماضي العربي، التقت بثقافته الواسعة (وضع أطروحة الدكتوراه عن جبران خليل جبران، العربي غير المُعلن واللبناني الذي محا الحدود بين لبنانية وعروبية وعالمية. إنها العروبة الحضارية عبر عنها كثيرا مباشرة أو بالرموز. العروبة المتصلة بأفكار النهضويين العرب كميخائيل نعيمة، وخليل مطران، والإمام محمد عبده، وتأثراتها الغربية والعربية في الدعوة إلى الخروج من القديم، وابتكار الجديد، ومواجهة كل أشكال الاستعمار الخارجية: نضال متعدد فكري، سياسي، تحرري.

من هنا بالذات بدأ حاوي انطلاقه الثاني، متوجا بالفكر القومي، والشعب العربي الواحد، ومواجهة كل احتلال، أوروبي وغير أوروبي. فهو نهضوي، متأخر، لكنه وبثقافته المتسعة، عالَج هذه العلاقات بالأسلوب الجدلي، وليس بالشعارات والانشائيات والخطب، بل في نص، هو إلى مساحته العمومية خاص. وإذا كان موضوعه شائعا في تلك الفترة، إلا أنه لم يكتب قصيدة "شعبية" كالكثير من الشعراء العرب، أو قصائد مناسبات خطابية: موضوعه شعبي وشعره انتقائي. لكن هذه الانتقائية لم تُوقعه في الغموض والإبهام، واعتماد التجريب، أو رفع لافتة الحداثة، فهو متجذر بالتراث العربي، لم يقع في فخ من أصحاب عناوين "اجتثاث اللغة" أو "هدمها"، ونسف كل ما كان من قبل.

انتقل حاوي من سفر الدخول باحتفاليته، إلى سفر الخروج الذي رافقه كثير من الإحباط الاجتماعي والقومي والسياسي والشعري والنفسي والثقافي

صحيح أن توجهه إلى قارئ متمرس إلا أن خلفيته قومية من خلال بنائه الضخم، عمق النص بطبقاته ودهاليزه، قد يخالطها البعض بالرمزية التي غزَت الشعب العربي، وهذا لا نجده في البناء الراسخ فحسب، بل في كثرة الرموز التي استخدمها، "فالبعض الحضاري" نتلمسه في هذه الإشارات النفسية الرمزية والأسطورية والدينية والشعبية والتاريخية المسيحية والإسلامية إنها الأقنعة الحية التي توسلها، كالعنقاء؛ وتموز (الخصب)، والريح والطاووس والناي، والبدوية السمراء و"السلام".

فهذه الرموز "مداخل" تخترق معاني النص ودلائله: إنها نسبياً كثيرة، لكنها ليست تزيينية بل مجرد مفاتيح؛ ولا تأسر ما بعدها بإيحاءات مجانية أو أحادية، بل تعبر عن قصائد مركبة، فيها ما يُوحي الحنين إلى الطهارة، وأخرى إلى السواد. ويلتقي حاوي في هذا العنصر بدر شاكر السياب الذي تجاوزه باستخدامها فأثرت سلباً على القصيدة، وحاصرت مضامينها، وإيقاعاتها، ونجد عنده حوارات يومية، ورثها عن إليوت، من دون تناسي الشعراء الذين تأثرهم مثل ووردثورث وكولردج وإليوت.

إلا أن تأثره لم يكن تبعيا لا بأسلوبه ولا بمعناه. إنه تأثر متفاعل، حي رفده بمناخات أغنت نصه، من دون تبسيط. فقصيدة حاوي أبعد من التأثر المباشر ومختلفة، بإيقاعاتها العنيفة، والعصبية كأنه يكتب بأعصابه، لكن رمزية حاوي تقع أحيانا بالذهنية وهو يختلف عن رمزية سعيد عاقل الشكلانية.

لهذا فقصيدته، لا تسعى إلى جمالية مجانية، بل جمالية تُوحي بعالمها المركب، الضمني، والصارم والحسي والدال والمؤثر بكيميائيته التي تجمع أجزاءه في ما يُسمى البناء العضوي. فإن مزيدا من هذه الاستعمالات يفكك القصيدة، ويحولها عن إيماءاتها الداخلية. فالداخل هو البؤرة التي توجه النص، وعمقه. وهنا جماليته في سره، بلا إبهام، ولا استعراض ولا انبهار. فخليل حاوي لا يسعى إلى مثل هذه الحالة، بل يجعلها تضرب إيقاعات الفكرة، والموقف، جزءته المحتوى، كالصفع أحيانا وكالنشيد أحيانا أخرى.

ليس في عالم حاوي أنصاف حلول، فرهانه متكامل. وهكذا، ازدهر نصه وأخصب، في أوقات انتظار. شاعر الانتظار (غودو عند بيكيت) لكن الهزيمة، هزيمة الأمة، (وهو شاعرها) اكتملت بغزوة إسرائيل، وهنا بالذات نفد التوقع، فاستعجله بالانهيار. عالم ضخم يسقط معه، تاريخ كامل ينهار عليه. و"الأمة العربية من المحيط إلى الخليج تحولت فحمة سوداء" (كما قال في إحدى مقابلاته).

انتقل حاوي من سفر الدخول باحتفاليته، إلى سفر الخروج الذي رافقه كثير من الإحباط الاجتماعي والقومي والسياسي والشعري والنفسي والثقافي والاجتماعي، لم يبقً عنده شيء ليقوله، فليسلمْ رأسه برصاصة من بندقيته ويحسم الأمر.

لم يبقَ إذن سوى الصمت (كما قال هاملت) آخر كلماته في مسرحية شكسبير.

ربما الصمت السادر بأنفاسه المطفأة، ربما المفتوح على تاريخه... ربما صمت القبور… ربما صمت الانبعاث... المستحيل.

font change