بدر شاكر السيّاب في ستين رحيله: الرمز الشِّعري الحيّ

مجدّد لم يتخلّ عن البنية الكلاسيكية

تمثال الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، البصرة، العراق

بدر شاكر السيّاب في ستين رحيله: الرمز الشِّعري الحيّ

إنّها ذكرى الشَّاعر العراقي الكبير بدر شاكر السيّاب الستّين (1926- 1964)، أحد كبار مؤسسي حركة الشِّعر الحرّ التي تُعتبر الثورة الأولى في الحداثة الشعرية لخروجها على الأنماط التقليديّة وخصوصا القصيدة العموديّة التي بدأت في الجاهليّة واستمرت حتى عام 1947، وربّما قبل ذلك. السؤال: المُلتبس من كان المُبادئ (الرائد) لهذه الطريقة "الجديدة" في الشِّعر الغربي: نازك الملائكة، صلاح عبد الصبور أو البياتي؟ يقول بعضهم، ومن الناحية الزمنيّة إن محاولات الدكتور لويس عوَض وعلي باكثير هي السبّاقة في هذا المجال. لكن هذه الصرخة الأولى مرّت بلا أصداء. فتجربتا لويس عَوَض وباكثير، كأنّما كانتا متباعدتين من هموم التجديد نصا وتأويلا. فهما لم يخوضا هذه المغامرة في معركة التجديد أي في التجربة الحيّة مما يجعل ريادتهما غير فاعلة، فالأوّل كتب نصا اختباريا ذا هشاشة شعريّة والثاني أوّل مَنْ ترجم مسرحا لشكسبير.

ريادة متعدّدة

من هنا فقد تعدّدت مسألة الريادة وتفرّعت بين لويس عوَض مبدئيا، ونازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب (لنضيف البياتي وصلاح عبد الصبور).

تروي نازك الملائكة أنها كتبت قصيدة "الكوليرا" يوم 27-8-1947، كما تذكر أن السياب أصدر ديوانه الأول "أزهار ذابلة" في منتصف ديسمبر/ كانون الأول من العام ذاته، وتضمّن قصيدة بعنوان "هل كان حبّا؟" وعلق عليها في الحاشية بأنها الشعر المختلف الأوزان والقوافي، كما صدر في مجلة الآداب اللبنانية عام 1954، لكن بدر شاكر السيّاب أصدر ديوانه في القاهرة لكن وصل إلى العراق في شهر يناير/ كانون الثاني عام 1947 وإن قصيدته "هل كان حبا؟" المكتوبة على طريقة الشّعر الحرّ قد كتبها قبل طبعه بما لا يقلّ عن شهرين، وقد نشرت هذه القصيدة "هل كان حبّا" في مجموعة "أزهار وأساطير" التي طُبعت عام 1960عندما كان بدر يُعالَج في بيروت وقد وضع تحتها التاريخ التالي 29-11-1946.

تعدّدت مسألة الريادة وتفرّعت بين لويس عوَض مبدئيا، ونازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب

ويذكر الشاعر أيضا بحسب الناقد ناجي علوش الذي أصدر ديوان بدر شاكر السياب عن "دار العودة" في بيروت، أن نازك الملائكة كتبت حول قضايا الشّعر المعاصر وأوردت وجهة النظر الواردة لكنها لم تناقش بدر شاكر السيّاب. إذن هناك فارِق زمني يبلغ عشرة أشهر بين قصيدة بدر "هل كان حبا؟" وتاريخ قصيدة نازك "الكوليرا"، وهذا يعني أن بدرا كتب القصيدة قبل صدور ترجمة باكثير لمسرحيّة شكسبير وقبل صدور مجموعة لويس عوض، وكذلك نجد عبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وغيرهما أعلنوا كذلك إشارة إليه في مثل هذه التواريخ.

والجدير بالذِّكر أن كل هؤلاء الشعراء المتسابقين على الريادة ذوو تجارب شعريّة مهمّة قد تلامس تجربة بدر. وهذا يعني أن هؤلاء وسواهم سواء كانوا يريدون اللحاق ببدر أدركوا ذلك أم لا... وشكلوا كلٌّ بمفرده تجربة الشعر الحر التي اعتبرت ثورة على الشعر العربي القديم بقوالبه الجديدة، وعلى هذا الأساس لم تتحوّل هذه الظاهرة إلى فريق، تختبر بشكلها الجديد احتمال أن تكون جماعية موحّدة كما جرى عند حركة السورياليين التي ضمّت شعراء كبارا بقياده أندره بريتون الذي كان مُنظِّرها في بياناته. بل كأنها تحولت إلى ما يشبه الحزب، ومن أبرز شعرائها أراغون وبول الويار وأنطونان أرطو، وقد وضع بروتون لهذه الحركة سبعة بيانات جعلت بكل أسف كل بيان سوريالية جديدة.

بين النظرية والممارسة

وكذلك لم يحصل ذلك في "حركة أبولو"، ومثلها الرومانطيقيّة الغربيّة والعربيّة بعدها، والدادائيّة، لكن تشير في هذه المقدِّمة إلى أنّ ليس المهم الوقوع على طريقة جديدة للشِّعر أو للرواية، بل المهم هل حققت بنصوصها ما يجسّد نظريتها. هل شعراء السورياليّة ملتزمون بيانات بريتون، وتاليا هل حقّق "الروّاد" عندنا ما سمّوه جديدا وتجاوزا. وهذا يُحيلنا على كل المدارس والاتجاهات الثورية كانت أم تغييريّة أم عادية كالرمزية.

AFP
تمثال للشاعر العراقي بدر شاكر السياب (1926-1964) في البصرة

الواقع أن تجربة الشّعر الحرّ لم تختزل باعتبارها فرديّة نظريّات ديكتاتوريّة كالسورياليّة، بل جمعت على اتصال واهن شعراء تزامنوا في كتابتها متجاوزين كلّ على حدة العامود الشعري الذي بقي إلى حدّ ما مهيمنا على مسار القصيدة العربيّة، وإن كان بعض شعرائها لم يتخلوا عن القصائد "العموديّة" نهائيّا، بل مارسوها في قصائد كثيرة كبدر شاكر السياب.

من هنا نقول إن هؤلاء الشعراء "الروّاد" للقصيدة الحرّة، يكادون يتشابهون في تجسيد النصّ لكنهم غير متشابهين في الرؤية. وهذا ما يفسّر استمرار بعضهم في كتابه القصيدة التقليديّة. بل إن نازك الملائكة انسحبت من تجربتها وعادت إلى ممارسة الشّعر الذي تجاوزته.

يبقى صلاح عبد الصبور الذي يعتبر أنه استفاد من الشِّعر الحرّ في كتابة مسرحيّاته الشعريّة. أما البياتي فهو من المبرزين في هذه الطريقة الجديدة. ويبقى هنا السيّاب الذي جاور بين الشِّعر الحرّ والقصيدة القديمة وبرع في الطريقتين، وقد استخدم هذه الحركة لتعميق تجاربه الشعريّة، لأنّه كان الأكثر اطّلاعا على الشّعر الإنكليزي ومنه قام بترجمة مئات القصائد الفرنسيّة والإنكليزيّة إلى العربيّة، وهذا بالذات طوّر تجربته وعمّقها على صعيد الإيقاع والموسيقى أو المضمون والبنية.

 هؤلاء الشعراء "الروّاد" للقصيدة الحرّة، يكادون يتشابهون في تجسيد النصّ لكنهم غير متشابهين في الرؤية

أمّا من حيث اعتماده الشِّعر الحرّ، فلم يكن التزامه من حيث الشكل فحسب، بل كانت تجربته طالعة من عمق نفسه، وجسده، وحواسه، ومن ابتكاراته من داخل الإحساس، والمشاعر، لا من خارج النظريّة. ولهذا لم يحاول أن تكون النظريّة أوّاليّة بل تأتي من ضمن متطلبات النصّ (أو الحالة)، على عكس لويس عوَض الذي سبق الجميع في لعبة القصيدة "الثوريّة"، بلا قافية أو بلا وزن، وهو لم يكن شاعرا بشروط الموهبة، بل مفكرا يقارب الشِّعر، ولهذا كانت نظريته قويّة بجِدّتها وشِعره ضعيفا، ولهذا بقيت ريادته محصورة في إطار الفكرة الشعريّة لا في ممارسته.

فهو على عكس السيّاب الذي عرف كيف يعجن اللغة بتظهيرها وتشكيلها في مداراتها الشعريّة الجديدة، فهو لم يطلع من النظريّة بل النظريّة طلعت منه، ومن حواسه وخلاياه وحالاته وحياته، من إيقاعات حياته ومحاولة اكتشاف احتوائها بتعدّديّة القوافي أو في توزيع الشطور توزيعا حرّا خارج إلزامات الشّعر العمودي الذي يتقبل القصيدة بطريقة واحدة، العُجز والصدر، وفي صورة واحدة، أي حرّية توزيع الكلمات كما نبْض الشّاعر لا كما نبْض القافية الواحدة في الترسيم الواحد.

رحابة التجربة

لقد أصبح الشّعر مع حرّية الحركات أوسع وأرحب. بمعنى آخر لقد مارس السياب تجربة الشعر كما مارس عمود الشعر التقليدي أي من نبضات قلبه، وتحرّك أصابعه وطبيعة تجربته. فهو حرّ أخيرا بلا قواعد وموازين جاهزة. لهذا، فعندما تقرأ مجمل أعمال السيّاب تجد أن اختياراته الإيقاعيّة، القويّة، والنصيّة، لا تتعدّد تعدّد تحوّلاته السياسيّة (من الشيوعيّة إلى العروبة)، فإلى مجلة شِعر. فالمهم أن يعتمد ما يعتلج في قلبه، وما يتحرّك من ذهنه. وهنا نشير إلى تصنيف بعضهم شاعرنا ضمن ثلاث مراحل: المرحلة الرومانسيّة ثم المرحلة الشيوعيّة، والعروبيّة، ثمَّ المرحلة التي انخرط فيها بمجلة شعر وخصوصا بيوسف الخال مؤسّس هذه المجلة. نظن من خلال بحثنا عن مراحل حياته وكتاباته أن بدرا بقي رومانسيّا في بداياته، وبقي رومانسيّا في "شيوعيّته"، كأنه مَرَّ مرورا على ماركس ولينين وحركة التاريخ ونظام الطبقات.

AFP
ضريح الشاعر العراقي بدر شاكر السياب

انخرط في الحزب الشيوعي العراقي عندما كان الحزب في أقصى حضوره وانتشاره، كأنّما انسياق مع الموجة، لا اختيار "ثقافي" أو أيديولوجي. وهكذا قارب شعراء مجلة الشعر، لا بالثورة السورياليّة التي اقتبسوها بحواضرها وبداياتها، وكتبوا استئناسا بها، أو رغبة في التغيير، بل لأن السيّاب وَجَد في هذه الحركة ظاهرة حلميّة، متخيّلة، تغييريّة... لكنه بقي على مسافات بعيدة منها، على الرغم من أن مجلة شِعر منحته جائزتها في بيروت.

عرف السياب كيف يعجن اللغة بتظهيرها وتشكيلها في مداراتها الشعريّة الجديدة، فهو لم يطلع من النظريّة بل النظريّة طلعت منه

كل هذا لا يعني أن السيّاب عصيّ على التغيير، ومتمسّك بأسلوبه ومناخاته، بل على العكس انفتح على كل هذه الظواهر وحاورها، ونادمها، لكنه كأن يفهم التغيير الحقيقي من خارج القوالب والمذاهب والمدارس الشعريّة (والأيديولوجيّة)، بل بهذا الحوار مع الحياة نفسها، مع حالاتها، وتمزقاتها، ورجائها، وخصوصا حرّية التعبير بها، على هذا الأساس تعامل مع "رمزيّة" سعيد عقل الذي تأثر بالرمزيّة من خلال بعض شعرائها الكبار كبول فاليري، وورث فكرة الغموض من شاعرنا الكبير أبي تمام في العصر العباسي الثاني من دون أن ننسى مدى اطّلاعه على الشّعر العربي بقديمه (من الجاهليّة وحتى أحمد شوقي والبارودي ومطران...)، بل كما نستشف من قراءاتنا لأعماله مدى ثقافته الأدبية النثريّة أو الفقهية، ترافقه في مجمل مراحله. ولهذا بالتحديد يدهشنا ثراء معجمه الشعري ومفرداته وحتى اشتقاقاته، من دون أن يغيب عنا انفتاحه على الشّعر العالمي في القرون الماضية وإلى القرن العشرين، من شكسبير إلى رمبو إلى لامرتين وفيكتور هوغو وإليوت  (الذي تأثّر به لا من أسلوبيّته بل من مناخاته. أي إنه لم يكن إليوتيا، بل قارئ شفّاف لتجربته).

ظاهرة استثنائية

على هذا الأساس قد برع براعة غريبة في الشّعر الحرّ وكذلك في القصيدة التقليديّة، جدّد الأولى بانفتاحه على الثانية وجدّد الثانية بمخزونه العربي إبداعا ولغة.

ومن خلال ذلك كتب بغزارة، أو بقلم سيّال، كل منهما على اختلاف وافتراق، لتأكيد هُويّة الشاعر المتعدّدة، والخصبة. فهو "تمّوزي" القلق ومتدفّق اللغة، وممسك بإيقاع القصائد الطويلة، حرصا على وحدتها، وتماسكها وبنيتها الغامرة مهما تنوعت الأساليب والحالات.

إنّه ظاهرة استثنائيّة بين الظواهر الاستثنائيّة، لا في الشّعر العربي الحديث بل في الشّعر العالمي، الذي كرّمه مرّات ليس لقوة تجربته وطليعّيتها بل أيضا لملازمة الشعر كتعبير عن كل الأمكنة التي زارها، بل وكل الحالات الشاحبة التي عاناها بمرضه وراح يبحث عن جسده المريض في أمكنة كثيرة من بيروت إلى لندن، إلى باريس، فإلى الكويت حيث توفّي في أحد مستشفياتها.

تمثال الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، البصرة، العراق

وأخيرا عندما عاودت قراءته في ذكراه الحاليّة خِفت كثيرا، بعد نحو 30عاما لم أطالعه فيها، أن يخيب أملي، كما خيّب أملي العديد من الشعراء العرب والأجانب عندما عدت إلى بعضهم بعد قراءاتي لهم، من الخيبة.

 إنّه الآن بيننا في جيكور التي كتب فيها أولى قصائد الحب وها هو معنا في الكويت وآخر القصائد التي رثى فيها نفسه.

 وأخيرا نُبدي أسفنا لهذه الحملة المقصودة التي صبها بعض الشّعراء على السيّاب بلغة لا نقديّة ولا شعريّة، بل وجعلها منظّمة لتشويه صورته، وشعِره والإساءة إلى تاريخه، وتراثه الشِّعري الذي يدافع عنه وحده في هذه الحملة العشواء في ذكراه.

font change

مقالات ذات صلة