هنري ميشو المتمرّد على المذاهب والأساليب الجامدة

أربعون عاما على رحيله

Alamy
Alamy
هنري ميشو (1899-1984)

هنري ميشو المتمرّد على المذاهب والأساليب الجامدة

هنري ميشو (1899-1984) قد يكون من أخصب الشعراء الفرنسين (من أصل بلجيكي)، وأكثرهم تنوعا وتفلّتا وحرّية، وربّما تناقضا، وأبعدهم عن المدارس والأفكار "المقوننة" والإعلانات الشعريّة، إنه شاعر يذهب في كل الاتجاهات، ويفتح الأنواع والفنون على مصاريعها، لتتداخل وتتشابك وتتواصل وتتناكر وتتخاطر. كأنه الشاعر "بعد الشعر"، أو "قبله"، أو إزاءه، أقصد الشعر المحدّد بالشروط المعهودة، والقصيدة الخاضعة لإلزامات "الفن"، والتوازن والبناء.

مرارا قال هنري ميشو "لست شاعرا"، ومرارا قال "لا أكتب قصائد". ذلك أن الشعر بالنسبة إليه، لا يسلك المعابر المطروقة، ولا يتبرّج بالزينة والإطراء والبلاغة والإبلاغ، والقصد والمعلوم والمحدّد. فلنقل إنه "مسافر زاده الخيال". مسافر في ظلّ الوجهات، إلى الداخل، إلى الخارج،: "أكتب إليك من بلاد بعيدة" إلى الأليف، إلى الهلوسة، إلى الصوفية، إلى الجنون. دائما وأنت تقرأ ميشو تحسّ إما أنه آتٍ من سفر، أو مغادر، دائما على رحيل، أي دائما في لحظة الاختفاء، وهذه المغادرة، المحفرة في جذور الكائن هنا، والمتنائية كغيمة بلا جذور، هناك، أو المتغلّفة في عتمة اللاوعي، أو المتخبّطة في غيبوبات المخدرات والحقن، أو المتقلبة في الوساوس والهواجس، هذه المغادرة كأنها بلا عتبات، ولا نوافذ ولا أبواب. مغادرة كالهواء "تمشي، تغوص، تجنح، تحبو، تجري".

وقد عبّر عن ذلك جيّدا في كتابه الرائع "بلوم" (1930) الذي يرسم فيه شخصية بلوم، الفانتازية، الشعرية، القاسية الساخرة، بأسلوب الحكاية، يقول ميشو "يحب بلوم السفر بتواضع"، أو "يفكّر بلوم في البائسين الذين لا يستطيعون السفر إطلاقا، بينما هو، يسافر يسافر باستمرار" (ص 89، غاليمار).

الشِّعر بالنسبة إليه، لا يسلك المعابر المطروقة، ولا يتبرّج بالزينة والإطراء والبلاغة

إن هذا الكتاب الذي نحبه كثيرا حبنا مثلا لـ"الأمير الصغير لاكزوبري"، زاخر بالصور، وبالسخرية والمواقف، والمفارقات وبالعذوبة والعنف وبالغرابة والدهشة: "فتاة بودابست" ذراعاها بلا وزن، تلتقيهما كالماء، ما ذبل يختفي أمامها. لا يبقى سوى عينيها. أو "البيض" في نفس عجل. البيضات تمضي إلى هناك. وهناك تستمتع تضرب مواعيد في نفس العجول (108) أو "جماعة من السكاكين ترتفع في جذع الشجر كما في قفص المصعد، تتضاجع ثمّ تطعن الحقل" (109).

هذا السفر الدائم كتبه في نصوص كثيرة مشتعلة، أو مبثوثة في تضاعيف نصوص أخرى. في Voyage en grankls carabagne (1936)، وLointains interieures (1938) وفي مؤلفات أخرى.

لكن هذه الحفاوة عند ميشو في الزمان والمكان، كأنها "العودات الأبدية". بل كأنها المراوحة في الذات، أو كما يقول "العزلة المأهولة" فلنقل إنها الحركة أو القلق أو الشّغف بالكشف، والتيار المجهول وربّما الخوف وربّما الجرأة وربّما العنف، وربّما الولع. من الذات إلى الذات، وكم قال "لا تنسوا أن الأرض مستديرة" وكما قال الشاعر جيرودو في إحدى مسرحياته "الأرض مستديرة لمن يتحابّون"، العودة إلى نقطة الانطلاق، للانطلاق.

الحركة

هذه المغادرة لا تتمثّل في توق ميشو إلى الحركة في اتجاه جهة ما، أو منطقة أو شخص، أو حالة، وإنّما بل وخصوصا كأنّها الوجه الآخر لكتاباته، التي ما أن تبدأ بمحاولة حتى تغادرها ثمّ تعود إليها ثم تتنفّسها، ثم تحيلها ذرات في أبجدية متّسعة.

وهذا يعني أنّ ميشو كبيكاسو، مفجّر مراحل، لا يتبنّى أسلوبا أو نمطا أو شكلا، بل كأن كتاباته بلا توقيع. يذكّرنا هنا ببسوا خاتم التواقيع المتعدّدة والأسماء المستعارة.

على أن ميشو ذا التوقيع، يرفض الوقوع في النص الواحد. أو في القصيدة الواحدة: بودلير كتب "القصيدة الواحدة" في "أزهار الشر"، والفنّانون جياكوميتي ودالي وكلي وميرو كأنّما رسموا المنحوتة أو اللوحة الواحدة، تتنسّمها عن بعد وكأنها القصيدة أو اللوحة أو المنحوتة المستقرة في عمقها الواحد، في جذرها الحي.

رينه شار مثلا في الشعر الحديث يشبه بودلير في كتابته القصيدة الواحدة ولو حاولنا استثناء المرحلة السوريالية عنده. فهو لا يغادر قصيدته ولا هي تغادره، راسية على "أرض صلبة" أو فلنقل، إنها في "إقامة متجذرة"، والسورياليون ألم يقعوا مثلا في النص الواحد في مرحلة من المراحل؟

Alamy
هنري ميشو (1899-1984)

ميشو هو المقيم القلِق إذا أقام ولو حينا، والمغادر الأساليب: كتب القصيدة الغنائية ولم يرد أن يكون غنائيّا، انخرط في السوريالية وأمعن في تجاربها وبقي على هامش السوريالية. وضع نصوصا سرديّة أقرب إلى القصة الشعريّة أحيانا، وغير الشعريّة أحيانا أخرى.

صاغ نصوصا وضعيّة، دقيقة أقرب إلى المدرسة الواقعيّة، ثمّ عصف في متفجرات المخيّلة، أو توغّل في اللاوعي، ثمّ وضع هنا، وتأمل هناك، وخطب هنا وهناك، وتعقلن في غير مكان، وتدفّق حيث إنسان في هلوساته، وقطّر في التقاط خواطره، ومأثوراته.

ميشو كبيكاسو، مفجّر مراحل، لا يتبنّى أسلوبا أو نمطا أو شكلا، بل كأن كتاباته بلا توقيع

عالم بلا حدود، ولا هوية، ولا أسلاك شائكة، ولا يافطات، كأنّما يسافر في عدّة قطارات معا، ويعبُر عدّة تقاطعات معا فكأنّما لا يكفيه سفر واحد. ولا لغة واحدة. ولا يقظة واحدة، ولا حلم واحد، ولا كابوس واحد، ولا فكرة واحدة، ولا موت واحد، ولا حياة واحدة، ولا جغرافية واحدة، ولا غيبوبة واحدة، رجل المنعطفات والمزالق والتشرّد والصعلكة، موتور، ضعيف، عنيف، طفل، عجوز، سادي، مازوشي، عاطفي، عقلاني، دقيق، متفلّت، حرّ، مأسور، ميّت، حي، عاشق، زاهد، منعزل ومشرّع. هذا هو ميشو، أكثر من قناع، وكثير من الوجوه، ومن الحيوات، لا ترصده بمنظار واحد، ولا تفهمه بإذن واحدة، ولا تتلقّفه بيدين ولا تحدّده بزمن، ولا تحصره بمرحلة. إنه الشاعر المُطلَق من دون أن يجنح إلى المطْلَقات، الشاعر الشامل، من دون أن يتجدّد في شعرية ما، فالشعر يمشي معه، يغادر معه، يتحوّل معه، يتمسّخ معه، يهزل معه، يتدفّق معه، يموت معه، ينظر معه، ينبعث معه.

بلا اسم وبأسماء، وبلا وجه وبوجوه، وبلا قناع وبأقنعة.

جمالية مرفوضة

لكن هذه المغادرات الملتبسة وتضارب النصوص والأساليب (يرفض الأسلبة لأنّها تصبّ في النهاية في جماليّة يرفضها)، والتدفق، والغزارة، والخلط بين النثر (كنثر)، وبين الشعر، وبين السرديّة والإمعان فيها حتى الثرثرة، كل هذا يجعلك أمام خيارين: إما أن تقبل ميشو، الكثير والمتعدّد حتى التنافر، وإما أن ترفضه.. وقد رفضه البعض وشكّك في شعريته.

على أن ميشو لا يطلب مرتبة ولا موقفا ولا تصنيفا ولا حضورا في قائمة، أو في لائحة أو في مسابقة أو في إعجاب وطبعا أو في جائزة أو تكريم أو علاقات للترويج أو للترجمة، كل هذا وراءه.

الكتابة عنده طريقة وجود. وطريقة عيش. وبحث لا يستقر عما يسميه "الجوهر" أي قلق يجري ويتفجّر في جميع الاتجاهات بل من دون أن ينحصر بنوع أو باسلوب، بل كأنّ ميشو يبحث لكي لا يجِدْ، ويمشي لكي لا يصل. وهنا تلبس الحركة بالواقع ثمّ بالمخيّلة ثمّ بالداخل وبالخارج، وعندها تصبح الكتابة جزءا من هذه التحوّلات، والرحلات وأشكال الهذيان والجنون والصفاء. أن يُبقي كل شيء في شبه "سكون" في الحركة، أو شبه حركة في السكون، وكأنّ كل تفتح على مسافة ما يبدأ من الصفر، بل كأن بين كل حركة وأخرى هاوية. أو "جبل لا يطل على شيء" بحسب تعبيره الرائع، أي يصعد في ذاته وينزل في ذاته، أو فلنقل يتحرك في أسئلته المركّبة هنا والعفوية هناك. كأن كل نتاج ميشو ليسائل به، ليشرح، وليقارب مسألة الكائن، مستخدما كل شيء من أجل مقاربة هذه المساءلة.

لكن هذه المساءلة قلما كانت عقلانية أو حيادية بل يكتبها على الحامي، أو الأحرى يُطلقها كصرخة تحت تأثير وجع أو انفعال، بكل قوّة عفويتها، من دون روابط مسبقة، وبنصوص بلا وحدة فالمقطوعات كما يقول ميشو عن نفسه "بدون روابط صنعت بكسل، يوما بيوم، تابعة حاجاتي، حتى الحيوانات المخترعة، والكلمات المخترعة، إنّما ابتكرتها بعصبيّة وليس ببنائيّة".وهذا ما يضفي على نصوصه الأكثر جفافا (التشريحية منها والوصفية) مادية ونكهة.

  كأنّ ميشو يبحث لكي لا يجِدْ، ويمشي لكي لا يصل. وهنا تلبس الحركة بالواقع ثمّ بالمخيّلة ثمّ بالداخل وبالخارج

ميشو المتعدّد تقرأه من كتاب إلى كتاب، ومن نصّ  إلى آخر، كأنك تنتقل من قارة إلى قارة، ومن قبو إلى قبو، ومن عالم إلى عالم، تقلق معه، تجرّك حركته المحمومة، ويصيبك سكونه الشاسع، لتشعر بأن "الأرض ما عادت تدور حول الشمس، بل عكس ذلك"، وبأن هذا الهامشي، المتنائي، المتنكر، المتخفّي، هو رفيق الأشياء الأليفة، عندما يحول كل هذه الغرائبيات والأصقاع إلى أشياء مألوفة، ولو قاسية وسوداء.

ميشو الهامشي، فنان الأعمال المبتورة والناقصة، ومازج الأنواع، هو، على الرغم من كل ذلك، حصيلة "الشعراء الملعونين" أو ما اصطلح على تسميتهم بـ "سارقي النار" من بودلير إلى لوتريامون إلى رمبو وصولا إلى كافكا من دون أن ننسى باسكال وشوبنهاور والسورياليين وصولا إلى الفلسفة الشرقية والشِّعر الشرقي من صوفيّة وحلوليّة و"زِن" إنّه مزيج من كلّ ذلك، مزيج ممتع أهمّ ما فيه أنه يفصل هذه العناصر المزيجة ويستفردها ويستفرسها ويستوعبها فتصير من ممتلكاته الحميمة والشاسعة. إنّه اختزال زمن شعري كامل.

font change

مقالات ذات صلة