هل يزيد "هجوم التنف" احتمال الحرب بين إسرائيل و"حزب الله"؟

وتيرة المواجهات بين الجانبين ستكون متحركة أكثر

DPA
DPA
جنود مدفعية إسرائيليون يطلقون النار من مدفع "هاوتزر" متحرك قرب حدود لبنان في 22 يناير

هل يزيد "هجوم التنف" احتمال الحرب بين إسرائيل و"حزب الله"؟

بدا خلال الأسبوع الماضي أن الانتقال من المواجهات "المنضبطة" بين "حزب الله" وإسرائيل إلى حرب أوسع أصبح أكثر احتمالا. وذلك عائد إلى سببين، فمن ناحية خرجت أصوات داخل إسرائيل تقول بنبرة أعلى إن على تل أبيب تحقيق هدف استراتيجي ضدّ "حزب الله" في سياق المعركة الحالية، بحيث تُزيل الخطر الآتي من الشمال مرة واحدة وأخيرة. بمعنى أن إسرائيل التي وإن حققت أهدافا مهمة ضدّ "حماس" في قطاع غزة، فإنها لم تخرج حتى الآن بصورة نصر حاسمة وقوية، وهي لن تتمكن من إعادة بناء "مرتكزات الردع" بعد الضربة الموجعة التي تلقتها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، إن لم توجه في المقابل ضربة موجعة ومؤثرة إلى "حزب الله".

أما من ناحية "الحزب"، ومن ورائه إيران، فإنّ محدودية القوة التي ظهرا عليها خلال الأسابيع الماضية، لناحية قدرتهما ومعهما سائر الميليشيات الموالية لطهران في المنطقة على الرد بقوة وتناسب على الهجمات الإسرائيلية والأميركية ضدّهم وبالتحديد في سوريا ولبنان، تجعلهما أكثر استعدادا لتوسيع الحرب على الحدود اللبنانية الإسرائيلية.

تأثيرات "هجوم التنف"

لكن هذا كان قبل الهجوم على قاعدة التنف الأميركية على الحدود الأردنية السورية والذي أدى إلى مقتل ثلاثة جنود أميركيين وإصابة نحو 34 آخرين، وهو هجوم من شأنه أن ينقل المواجهة في المنطقة بين إيران والميليشيات الموالية لها من جهة وبين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة ثانية إلى مستوى آخر أكثر تصعيدا وخطورة من ذي قبل. وهو ما يطرح أسئلة إضافية بشأن الجبهة على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، لناحية ما إذا كان "حزب الله" سيكون أجرأ من ذي قبل في هجماته ضد إسرائيل وما إذا كانت واشنطن "ستسمح" لتل أبيب بتوجيه ضربات أقوى ضد "حزب الله" في سياق الرد على الهجوم على قاعدة التنف. وهذا ما يجعل احتمال الانتقال إلى حرب أوسع على الحدود بين إسرائيل ولبنان أعلى بحسب تطور وتيرة الهجمات المتبادلة بين الجانبين والتي قد يكون ضبطها في المرحلة المقبلة أكثر صعوبة.

لكنّ تقدم احتمال توسع الحرب بين إسرائيل و"حزب الله" لا يعني أنّ هذا التوسع حتمي. ذلك أن المعادلة التي تم التداول بها في إسرائيل الأسبوع الماضي ومفادها أنه يجب قياس الثمن مقابل الإنجازات، والتكلفة مقابل الفائدة (في أي خطوة تتخذها تل أبيب) تنطبق أيضا وبقوة على إيران و"حزب الله" اللذين يدرسان خياراتهما بحذر شديد وعلى سلم زمني بعيد المدى بحيث لا تكون لأي خطوة يقومان بها أضرار كبرى على استراتيجيتهما التوسعية في المنطقة. وليس قليل الدلالة في هذا السياق عودة مصطلح "الصبر الاستراتيجي" إلى البروز في أدبيات "محور المقاومة"، لكن هجوم التنف دلّ إلى أن إيران مستعدة أكثر لمغادرة هذه المعادلة.

كل الكلام من قبل "محور المقاومة" عن "جبهات المساندة" هو للاستهلاك الإعلامي وحسب

والواقع أن الحرب في قطاع غزة، وكلما طال أمدها، تتحول أكثر فأكثر إلى نزال استراتيجي بين إسرائيل وإيران، باعتبار أن الطرفين يحاولان تحقيق إنجازات ومكاسب في هذه الحرب يكون لها تأثير حاسم على موازين القوى في المنطقة في المرحلة المقبلة. وهذا ما يجعل  من الحرب في غزة محطة مفصلية ليس في القطاع الفلسطيني المحاصر وحسب بل على مستوى المنطقة ككل، باعتبار أن نتائجها سترسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة مستقبلا.
من هنا، فإن كل الكلام من قبل "محور المقاومة" عن "جبهات المساندة" هو للاستهلاك الإعلامي وحسب، لأن السلوك الإيراني الحالي في عموم المنطقة ليس مرتبطا بمجريات المعركة في غزة وكأن القصد منه هو مجرد التخفيف عن حركة "حماس"، بل إن ما تقوم به إيران وميليشياتها هو محاولة دفاعية- هجومية إن لم يكن لتعديل موازين القوى في المنطقة لصالحها أكثر فللحفاظ على ما كانت قد حققته قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

AFP
تصاعد الدخان من قرية زبقين جنوب لبنان إثر غارة إسرائيلية في 28 يناير

أي إن إيران تحاول الدفاع عن مكتسباتها في المنطقة من خلال المشاغبات وعروض القوة التي تقوم بها أذرعها الإقليمية ضد إسرائيل والولايات المتحدة، وكذلك من خلال الهجمات الصاروخية التي نفذها الحرس الثوري الإيراني على أهداف في أربيل وباكستان، والتي وإن أظهرت قدرة طهران على الوصول بصواريخها إلى إسرائيل فإنها أبانت أيضا حدود المناورة الإيرانية. أي إن مجموع الخطوات التي قامت بها إيران على نحو مباشر أو عبر ميليشياتها منذ بدء الحرب لم يكن حاسما في المعركة الدائرة لرسم موازين القوى في المنطقة، لكن الهجوم على قاعدة التنف يوم الأحد قلب جزئيا هذه المعادلة بانتظار الرد الأميركي الذي سيظهر من حيث حجمه مدى استعداد واشنطن لكبح طهران ومدى استعداد الأخيرة لمواصلة تحدي الوجود الأميركي في المنطقة، وهذا ينسحب على الجبهة بين "حزب الله" وإسرائيل تبعا لإمكان تحولها إلى ساحة رئيسة للمواجهة بين الطرفين، إيران عبر "حزب الله" وأميركا عبر إسرائيل.

تل أبيب تحاول أن لا تظهر وكأنها تخضع لابتزاز "حزب الله" في قضية عودة مستوطني الشمال

بالانتقال إلى النطاق المباشر للمواجهات بين إسرائيل و"حزب الله" واحتمالات تحولها إلى حرب أوسع، فإن هذه الجبهة تخضع لحسابات خاصة لكلا طرفيها. فحكومة بنيامين نتنياهو التي تَحوّل ملف نازحي المستوطنات الشمالية إلى عامل ضغط داخلي عليها، إلى جانب ملف الأسرى لدى "حماس"، تسعى إلى تأمين عودة "آمنة" لهؤلاء النازحين الذين يربطون عودتهم بتحقيق الأمن على الحدود مع لبنان، وهو ما لم يتحقق حتى الآن في ظل استمرار القصف المتبادل بين الجيش الإسرائيلي و"حزب الله". 
لكن تل أبيب تحاول أن لا تظهر وكأنها تخضع لابتزاز "الحزب" في هذا الملف الذي يحاول الأخير الاستثمار فيه من خلال اعتبار أن إبعاد هؤلاء المستوطنين عن الحدود نصر استراتيجي له. أي إن الحكومة الإسرائيلية تفضل أن يرجع هؤلاء بحكم أمر واقع عسكري تفرضه هي، وليس بحكم "سماح حزب الله" لهم بالرجوع. ولكن هذا أيضا دونه تعقيدات كثيرة لعل أهمها أن إسرائيل تخشى من أن يؤدي تنفيذها هجوما واسعا ضد "حزب الله" إلى استهداف الأخير للعمق الإسرائيلي، وفق المعادلة التي وضعها حسن نصرالله أخيرا ومفادها أن على تل أبيب أن تختار بين أمن الشمال وأمن تل أبيب!

AFP
جنود إسرائيليون يقومون بدورية في "كيبوتز كفار بلوم" قرب حدود لبنان في 25 يناير

وهذا لا يعني أن موازين القوى العسكرية في أي حرب محتملة بين "الحزب" وإسرائيل ترجح لمصلحة الأول، إذ إن مجريات المواجهات الحالية بين الجانبين، بما في ذلك عمليات الاغتيال التي نفذتها تل أبيب ضد كوادر "الحزب"، و"محور المقاومة"، أظهرت تفوقا تكنولوجيا نوعيا لإسرائيل، كذلك فإن ردود "الحزب" عليها حتى الآن أظهرت أنه يتحرك ضمن "هامش ضيق"، ولكن في الوقت نفسه فإن "حزب الله" أدخل أخيرا أسلحة جديدة إلى ميدان المعركة في محاولة للقول إن ترسانته متنوعة وإنه يخبئ "مفاجآت" لإسرائيل، وهذا يدخل بالطبع في حسابات تل أبيب بالنسبة إلى أي حرب مقبلة مع "حزب الله"، بغض النظر عن مدى تفوقها العسكري والتكنولوجي عليه. فهي تقيم حسابا لمدى قدرة "الحزب" على إيذائها، خصوصا في ظل عدم وجود غطاء أميركي لحرب ضد لبنان وتصاعد وتيرة التناقضات الداخلية في إسرائيل وكذلك التناقضات بين حكومة نتنياهو وواشنطن، لكن هذه معادلة أصبحت متحركة الآن بعد الهجوم على قاعدة التنف.
ولا ريب أن إيران و"حزب الله" يراهنان على هذه التناقضات ونتائجها في محاولة لاستغلال نقاط الضعف الإسرائيلية في سياق الحرب. وللمفارقة فإن أحد أعضاء المجلس المركزي في "حزب الله" قال في تصريح، يوم السبت 27 يناير/كانون الثاني، إن "العدو لن يجني من استمرار الحرب إلا المزيد من الخسائر"، وهو ما يجب أن يعني أن "محور المقاومة" يتمنى استمرار الحرب إذا كان يريد فعلا هزيمة إسرائيل، بينما هو يدعو إلى وقف إطلاق النار!

الهجوم على قاعدة التنف وضع المنطقة أمام واقع جديد عنوانه الاستعداد الإيراني لتبني دينامية هجومية أقوى

لكن بغض النظر عن هذه اللعبة الخطابية الساذجة، فإن كلا من إسرائيل وإيران لا يريدان للحرب أن تنتهي دون صورة نصر كبرى، وإذا كان هذا الأمر ينطبق على إسرائيل بالدرجة الأولى فهو ينطبق أيضا على إيران، أقله من ناحية أن طهران تحاول أن لا تحصل تل أبيب على صورة نصر. لكن في العمق فإن إيران أيضا لا تستطيع حتى الآن القول إنها خرجت من الحرب بصورة نصر. ولذلك فإنه يجب الأخذ في الحسبان أن إطالة الحرب خاضعة أيضا لمصالح إيران بمثل ما هي رهن بمصالح إسرائيل، لأن الطرفين يريدان الخروج بمكاسب واضحة منها.

الاختلاف عن حرب 2006

ومن جهته يخشى "حزب الله" أيضا الحرب ويقيم لها حسابا، رغم كل تهديداته ووعيده لإسرائيل. فظروف كل من لبنان و"حزب الله" الآن لا تشبه أبدا ظروفهما عام 2006 عندما بادر الأخير بافتعال حرب مع إسرائيل في سياق لبناني وإقليمي محدد كان عنوانه الأبرز محاولة التضييق الدولي والعربي على كل من النظام السوري و"حزب الله" إثر اغتيال رفيق الحريري. 
بهذا المعنى كانت الحرب مع إسرائيل وسيلة بالنسبة لإيران و"الحزب"، لمحاولة قلب مسار التطورات في بيروت وامتدادا منها إلى سائر المنطقة في خضم التحولات الكبرى التي فرضها الغزو الأميركي للعراق والذي أطلق جماح إيران في الإقليم. ولذلك أهدى نصرالله "النصر الإلهي" في 2006 إلى بشار الأسد الذي كانت قواته قد خرجت للتو من لبنان تحت ضغط الشارع والتشدد الدولي تجاهه. ثم قال نصرالله في "خطاب النصر" إن حزبه أسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الأميركي، في دلالة إلى حجم الحرب وتداعياتها الإقليمية، وهو أمر يتكرر الآن مع حرب غزة بعد نحو 18 عاما.

REUTERS
عناصر من "حزب الله" خلال تشييع القيادي في الحزب وسام الطويل الذي اغتالته إسرائيل، في 9 يناير

كذلك فإن حرب 2006 كانت جزءا من مسار لبناني داخلي، لأنها كانت في وجه من وجوهها "امتدادا" للاشتباك السياسي الذي كان قائما حينها بين فريقي 8 و14 آذار، وما كادت تنتهي حتى بدأ "حزب الله" بترجمة "انتصاره" على الحدود في بيروت وصولا إلى اجتياحها يوم 7 مايو/أيار 2008 وفرض رئيس للجمهورية وحكومة بالقوة، بما يشبه الانقلاب العسكري. 
هذا واقع لا ينطبق على التطورات الحالية، فهناك إجماع لبناني على رفض مبادرة "حزب الله" بالحرب مع إسرائيل، حتى إن هناك تذمرا لبنانيا متصاعدا من المواجهات "المنضبطة" على الحدود الجنوبية، فكيف إذا تحولت هذه المواجهات إلى حرب شاملة لأسبوع أو اثنين أو حتى لشهر كامل أو شهرين؟ وذلك عائد أساسا إلى الوضع اللبناني المهترئ عموما، لكنه عائد أيضا إلى أن هذه الحرب في حال وقعت ستكون حربا "خارجية" لا سياق لبنانيا داخليا لها على عكس حرب عام 2006، وهذه كلها عوامل ضغط على "حزب الله" لأنها تطال بيئته نفسها التي ظهرت مؤشرات عديدة على عدم تأييدها للحرب، وهو ما ينسحب حكما على قياس حجم تأييد "الحزب" داخلها.
هذا فضلا عن أن إيران تريد الاحتفاظ بقدرات "حزب الله" وعدم التفريط بها في مواجهة "جانبية" مع إسرائيل لا تمس النظام الإيراني جديا، إلا بمقدار تأثيرها على نفوذ طهران في المنطقة، وهو أمر لا يبدو أنه يستأهل مثل هذه الحرب حتى الآن.

بالتالي، ولكل هذه الأسباب، فإن ازدياد احتمال توسع الحرب بين إسرائيل و"حزب الله" لا يعني أن هذه الحرب واقعة حتما. لكن ذلك لا يعني أن وتيرة المواجهات الحالية بين الجانبين ستظل مضبوطة ضمن سقوف محددة، خصوصا أن الهجوم على قاعدة التنف وضع المنطقة أمام واقع جديد عنوانه الاستعداد الإيراني لتبني دينامية هجومية أقوى، الأمر الذي سيستدعي بالتأكيد ردا أميركا وإسرائيليا، وهذا كله قد يلقى ترجماته على الحدود اللبنانية الإسرائيلية.
هذا فضلا عن أن إطالة أمد الحرب، واستئنافت إسرائيل عمليات اغتيال كوادر "الحزب"، و"محور المقاومة"،  سيحوّلان أكثر فأكثر تلك الحدود ساحة رئيسة للمواجهة بين طهران وتل أبيب لرسم خريطة النفوذ المستقبلية في المنطقة. وفي مطلق الأحوال فإنه لا مناص لبنانيا من الاستعداد لوقوع الحرب تماما كما تستعد قوات "اليونيفيل" لهذا الاحتمال، لكن أين الدولة اللبنانية من كل ذلك ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي يكاد يُشرك "تيار العزم" في المواجهات على الحدود؟!

font change

مقالات ذات صلة