إيران وإسرائيل ... معضلة الردع

لن تستفيد أميركا وبريطانيا من توسع الصراع

Reuters
Reuters
قائد الجيش الإيراني عبد الرحيم موسوي ووزير الدفاع يمران أمام مسيرات دخلت الخدمة العسكرية في 22 يناير

إيران وإسرائيل ... معضلة الردع

يبدو للوهلة الأولى أن إيران تسعى إلى المزيد من المغامرات خارج حدودها على الرغم من جهود الردع التي تبذلها كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. ورأينا في الأسابيع القليلة الماضية انخراط إيران والجماعات المسلحة الكثيرة التي تدعمها لتنفيذ هجمات في كل من العراق وسوريا والبحر الأحمر وباكستان، والتي قوبلت بأعمال عسكرية انتقامية، ولا سيما من قبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

استخدمت كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة مصطلح "الردع" لوصف هذه الردود العسكرية على الهجمات المرتبطة بإيران. يحمل هذا المصطلح معنى ضمنيا بأن العقاب الدقيق للمغامرة الإيرانية ينبغي أن يمنعها من توسيع نطاق وحجم عملها العسكري المباشر أو غير المباشر. لكن إيران ووكلاءها يواصلون شن الهجمات رغم الهدف المعلن للردع لكل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

بينما يشير هذا السلوك إلى أن إيران لا تعتبر الردع الأميركي والبريطاني ذا مصداقية كاملة، إلا أن تصرفات إيران ووكلائها تظهر في الوقت نفسه أنهم ليسوا أقوياء كما يزعمون؛ فعندما تكون دولة ما أو كيان ما في مكانة ضعيفة، قد تسلك سلوكا ذا تداعيات خطيرة لمحاولة الحفاظ على تلك المكانة.

تقول نظرية الردع في العلاقات الدولية إن الردع لا ينجح إلا إذا رأى الهدف أنه يحمل مصداقية ما. وعندما يتعلق الأمر بالمصالح الأميركية في الشرق الأوسط، تعلم إيران أن الأمن الإسرائيلي خط أحمر. ولهذا السبب لم تسع إلى تصعيد تدخلها في الحرب بين إسرائيل وغزة لتتحول إلى مواجهة مباشرة مع إسرائيل. إذا حدث هذا السيناريو، فلن يكون أمام الولايات المتحدة سوى خيار التدخل عسكريا لمساعدة إسرائيل، وهو بدوره يعني هجوما مباشرا على إيران نفسها. وضمن هذا الإطار، ردعت إيران نفسها تلقائيا عن تحويل الصراع بين إسرائيل و"حماس" إلى حرب إقليمية شاملة.

تدرك إيران جيدا أن رد الفعل المحدود من جانب الولايات المتحدة والمملكة المتحدة يرجع جزئيا إلى رغبتهما في تهدئة الصراع في الشرق الأوسط

ما تفعله إيران وأذرعها بدلا من ذلك هو شن هجمات محدودة في بلدان مختلفة. حيث يواصل "حزب الله" إطلاق الصواريخ على شمال إسرائيل، وترد إسرائيل بقصف جنوبي لبنان. كما تهاجم الميليشيات المدعومة من إيران في العراق وسوريا القواعد الأميركية في كلا البلدين، ما يدفع الولايات المتحدة إلى شن هجوم مضاد. 
ويستهدف الحوثيون في اليمن السفن في البحر الأحمر التي يزعمون أنها مرتبطة بإسرائيل، ما حمل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على شن ضربات انتقامية على الحوثيين. والجدير ذكره أن كلا البلدين أعطى الحوثيين تحذيرا مسبقا قبل تنفيذ هذه الضربات، ما يشير إلى اهتمامهما بتقليل نطاق تدخلهما.
لم تتوقف إيران ووكلاؤها عن هجماتهم المحدودة حتى بعد الرد الأميركي والبريطاني. ومع ذلك، تواصل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة استحضار فكرة الردع فيما يتعلق بردهما على تلك الهجمات، ما يخلق سلسلة من العمليات العسكرية المتبادلة. 
إن التزام الولايات المتحدة وبريطانيا بوصف ردودهما على أنها "رادعة" بينما تبدو إيران وكأنها تتجاهل تحذيراتهما، يضع مصداقية ذلك الردع على المحك. حيث يرتبط موقف إيران بإدراكها لأولويات وقيود الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في منطقة الشرق الأوسط.
تدرك إيران جيدا أن رد الفعل المحدود من جانب الولايات المتحدة والمملكة المتحدة يرجع جزئيا إلى رغبتهما في تهدئة الصراع في الشرق الأوسط؛ فلن تستفيد أي من الدولتين من توسع الصراع في المنطقة ومن الانجرار إلى حرب شاملة. إن مثل هذا السيناريو لن يخدم مصالحهما الجيوسياسية؛ كما لن يعزز نفوذهما في الشرق الأوسط. ومن جانب آخر يتوقع كلا البلدين إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في وقت لاحق من هذا العام، وهو ما يعني أيضا حاجتهما إلى مراعاة الأولويات المحلية. فلا يزال سكان الولايات المتحدة والمملكة المتحدة يشعرون بندوب غزو العراق عام 2003، ولا يرى أي منهما فائدة في تورط بلديهما في حروب مكلفة بالمنطقة.

هجوم إيران على أربيل، لم يكن مجرد وسيلة غير مباشرة لإعلام إسرائيل بأن الصواريخ الإيرانية يمكن أن تصل إليها، ولكنه كان أيضا مثالا على درجة الخوف التي تدفع إيران إلى رمي المزيد من أوراقها على الطاولة

وتعلم إيران أيضا أن استمرار الحرب في أوكرانيا هو سبب آخر وراء حاجة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى تحديد أولويات الأماكن التي تذهب إليها الموارد العسكرية. وتنص المراجعة المتكاملة للأمن القومي والاستراتيجية الدولية للمملكة المتحدة بوضوح على أن المنطقة ذات الأولوية القصوى بالنسبة للمملكة المتحدة في هذا الشأن هي المنطقة الأوروبية الأطلسية، وليست منطقة الشرق الأوسط. وينطبق إطار مماثل على الأمن القومي الأميركي وأولويات السياسة الخارجية. ورغم الحرب الدائرة بين إسرائيل و"حماس"، فإن الشرق الأوسط يظل هامشيا بالنسبة لواشنطن مقارنة بالأهمية الجيوسياسية والاقتصادية لأوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ.
لكن يوجد أبعاد أخرى تزيد تعقيد المشهد؛ إذ كلما أقدمت إيران وأذرعها على خوض المزيد من المغامرات العسكرية، زاد هامش المخاطرة التي يقومون بها. تعلم كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة علم اليقين أن الدول والكيانات التي تخوض مخاطر عالية عادة ما تكون مدفوعة بالخوف من خسارة وضعها الهش بالفعل؛ لذا، بدلا من تفسير استمرار الهجمات التي تشنها إيران والجهات التي تدعمها على أنها تعبير عن الحزم في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها، ترى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في الوقت نفسه أن هذا الاستمرار مؤشر على درجة من الضعف من جانب إيران. 

Reuters
عناصر من "حزب الله" يشاركون في جنازة القيادي في الحزب وسام الطويل في بلدة خربة سلم بجنوب لبنان في 9 يناير

يرجع هذا الضعف إلى عوامل ديناميكية محلية وخارجية. وبغض النظر عن مدى صعوبة قمع إيران لأصوات المعارضة في الداخل، فإن استمرار التعبير عن المعارضة ضد النظام الحاكم يشكل صداعا مستمرا لطهران، خاصة في الوقت الذي يجب فيه اتخاذ قرار حازم بشأن الخلافة بعد وفاة المرشد الأعلى الحالي الزعيم علي خامنئي والذي لم يُبت فيه بعد. وعلى الجبهة الخارجية، ترى إيران أن إمكانية اتخاذ خطوة دبلوماسية حاسمة نحو إحياء عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية بعد انتهاء الحرب المستمرة في غزة تشكل تهديدا لمصالحها التي تكمن في استمرار الصراع.
ومن هذا المنظور، فإن هجوم إيران على أربيل، الذي أظهر مدى صواريخها الباليستية، لم يكن مجرد وسيلة غير مباشرة لإعلام إسرائيل بأن الصواريخ الإيرانية يمكن أن تصل إليها، ولكنه كان أيضا مثالا على درجة الخوف التي تدفع إيران إلى رمي المزيد من أوراقها على الطاولة. وعلى المنوال نفسه، لا تحتاج الولايات المتحدة إلى التورط في سلوك محفوف بالمخاطر في الشرق الأوسط لأن وضعها هناك ثابت إلى حد ما، بغض النظر عن كيفية تأطير بعض الجهات الفاعلة في المنطقة لها، من خلال الدعوات لانسحاب القوات الأميركية من العراق وسوريا من قبل الجماعات التي تدعمها إيران على سبيل المثال.

تحاول أميركا وبريطانيا بث الطمأنينة في جماهيرهما والتأكيد على أنهما ليسا على طريق التورط في حرب شاملة

وبالتالي فإن السؤال هنا هو: إذا كانت الولايات المتحدة واثقة من وضعها في الشرق الأوسط، وإذا كانت فكرة الردع معقدة بسبب التحديات التي تواجه مصداقيتها وبسبب الوعي المسبق بنقاط الضعف في إيران، فلماذا تستمر كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في صياغة ردودهما العسكرية على إيران وأذرعها على شكل ضربات رادعة؟
إحدى الإجابات هي أنه مع اقتراب الانتخابات، لا يمكن لكلا البلدين السماح لإيران والقوات التي تدعمها بمواصلة تهديداتهم، حيث يحاول كلا البلدين بث الطمأنينة في جماهيرهما والتأكيد على أنهما ليسا على طريق التورط في حرب شاملة. الجواب الآخر أن الهدف غير المباشر لهذه الرسائل هو إسرائيل نفسها. إن التأكيد على المصلحة الأميركية والبريطانية في إبقاء المشاركة العسكرية محدودة يهدف إلى إخبار الحكومة الإسرائيلية بضرورة كبح جماح مغامراتها إذ لا توجد رغبة في أن تخضع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لرغبة إسرائيل في جرهما نحو التصعيد.
لكن المشكلة الرئيسة تبقى إيران. وعلى الرغم من استعراض عضلاتها، فإن إيران تشعر بالضعف؛ فتبجح إيران الواضح يظهر أنها موجهة بشكل أكبر نحو محاولة تجنب الخسارة بدلا من السعي لتحقيق المكاسب.

font change

مقالات ذات صلة