فلسطين في مفكّرة ساراماغو

فلسطين في مفكّرة ساراماغو

لازمت فلسطين كقضية إنسانية اهتمام الكثير من الكتّاب العالميّين الذين لم يفوّتوا الانحياز الكامل إلى عدالة الحق الفلسطيني وحقيقة الأرض المسلوبة، بإدانة إسرائيل المحتلة وجرائمها المتسلسلة في أكثر من مناسبة، عكس كتّاب آخرين كان موقفهم مواربا ومتخاذلا لصالح إسرائيل ومنهم جان بول سارتر ورفيقته سيمون دو بوفوار على سبيل المثل.

من ألمع الذين ناصروا القضية الفلسطينية بجسارة ووضوح خالصين، الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز والروائي الإسباني خوان غويتيسولو والروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو.

هذا النوبليّ الأخير لم يكتف بالتعاطف والمجاهرة بفلسطينية الأرض المحتلة مشهرا أصبع الاتهام بشجاعة في وجه إسرائيل كمرتكبة لأبشع الجرائم ضد الإنسانية في فلسطين، بل زار ميدانيّا رام الله وغزّة ضمن المبادرة الشهيرة من وفد البرلمان الدولي للكتاب، سنة 2002، ومنذ ذلك الحين أثارالجدال في رسائله وحواراته المنافحة عن الشعب الفلسطيني، ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.

تحضر فلسطين بقوّة في مقالاته المكثّفة، وفي آرائه الجريئة، وبعض يوميّاته في المفكّرة التي تؤرّخ لتدويناته من سبتمبر/أيلول 2008 إلى أغسطس/آب 2009، قبل وفاته عام 2010.

يذكّر ساراماغو أوباما بأنه إن كان يود أن يخلّص بلده من عار العنصرية، فيجب أن يفعل الشيء نفسه في إسرائيل

أوّل المواقف الجسورة في المفكرة نصادفها في تدوينة نوفمبر/تشرين الثاني 2008 تحت عنوان "إغراق"، وفيها يخبرنا عن مشاركته في فعل تضامني مع الشعب الفلسطيني من أجل استعادة سيادته الكاملة على أرضه، مقترحا إغراق البيت الأبيض بالرسائل لتذكير أوباما بأنه إن كان يود أن يخلّص بلده من عار العنصرية، فيجب أن يفعل الشيء نفسه في إسرائيل.

ثانية التدوينات حول فلسطين ستكون مخصصة لغزة في ديسمبر/كانون الأول 2008، وفيها يوجه انتقادا لاذعا للأمم المتحدة مقابل التجويع الوحشي الذي تتعرض له غزة تحت طائل حصار مشين يمنع دخول شاحنات الغذاء والأدوية، فينعت الأمم المتحدة بالجبن الأممي واصفا إسرائيل بالضالعة في الوحشية والكراهية.

في ثالثة التدوينات من الشهر ذاته، يقترح على باراك أوباما الذي يزعم بأنه أب مثالي، أن يحكي لطفلته قبل النوم قصة سفينة دمرتها اسرائيل، كانت تنقل الأدوية لتخفيف الوضع الصحي المزري لشعب غزة، في الوقت الذي كان أوباما نفسه يشرب الشاي مع بعض قادتها وكلّ ذلك يعني الشراكة في الجريمة.

رابعة التدوينات مؤرخة في يناير/كانون الثاني 2009، يوجه فيها انتقادا صريحا لرئيس فرنسا نيكولا ساركوزي، ناعتا إياه بالمنافق السياسي، ففي الوقت الذي يشجب "حماس"، عليه أن يشجب جرائم الجيش الإسرائيلي وتقتيلها الرهيب للمدنيين.

في خامسة التدوينات من الشهر ذاته، يعيد نشر مقالة شهيرة بعنوان "من حجارة داوود إلى دبابات غوليات" سبق أن كتبها عام 2000 على خلفية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والسبب لإدراجها في المفكرة مرة ثانية هو التضامن مع أهل غزة.

سادسة التدوينات من الشهر نفسه، يرسل فيها تحية الى المتظاهرين في مدريد تضامنا مع سكان غزة خاصة، وشعب فلسطين عامة من أجل إيقاف الحرب، والتذكير بأن فلسطين محتلّة منذ ستين سنة.

في سابعة التدوينات من الشهر نفسه، يواصل ساراماغو بنبرة حادّة الوقوف في صف حقوق الشعب الفلسطيني وأولها أرضه المغتصبة. أما في التدوينة الثامنة المؤرخة في فبراير/شباط، فيدعو فيها ساراماغو الى التظاهر في كل مدن العالم، ضد الإبادة الجماعية التي تتعرض لها غزة، مذكّرا بما قاله يشعياهو ليبوفيتش في عام 1982 بأن الجيش الإسرائيلي نفسه يحمل عقلية يهودية-نازية متتبعا عقلية الإبادة التي تعرض لها أسلافه في ألمانيا.

في تاسعة التدوينات في فبراير/شباط، يستأنف ساراماغو حديثه عن المحرقة من خلال كتاب "ستة ملايين ميت" كان قد حرّره عندما كان يعمل في دار نشر بلشبونة، ويحكي عن قصة أدولف آيخمان المنفذ الأساسي لخطة إبادة اليهود، ومع ذلك ما تفعله إسرائيل في غزة لا يختلف عن تلك الإبادة، ولذا يحتاج الإسرائيليون إلى ثورة أخلاقية.

عاشرة التدوينات في أبريل/نيسان، يلتفت فيها إلى الشاعر محمود درويش، واصفا إياه بالشاعر العظيم، مسجّلا انطباعات جمالية وإنسانية لافتة حول فرادة تجربته الشعرية. وأمّا مناسبة قراءته لقصائد الشاعر محمود درويش، في ذلك اليوم بالذات، فمن أجل فيلم وثائقي سيعرض في رام الله في الذكرى السنوية الأولى لرحيله.

يعلن ساراماغو أنه لن يصمت أكثر ممّا فعل، في صدد شعار إعلان الدولة الفلسطينية، مشككا في النيات الإسرائيلية التي لا تؤمن بالسلام

التدوينة ما قبل الأخيرة، في شهر مايو/أيار، يفردها للصحافي اليساري خافيير أورتيز الذي تتوطد علاقته معه في مقابلة حول كتاب حرره أورتيز تحت عنوان "فلسطين موجودة" وفيه حوارات مع كلّ من نعوم تشومسكي وإدوارد سعيد وألبرتو بيرس وأنطوني سيغورا.

ثمّ آخر التدوينات في المفكرة، مؤرخة في يونيو/حزيران، يعلن فيها أنه لن يصمت أكثر ممّا فعل، في صدد شعار إعلان الدولة الفلسطينية، مشككا في النيات الإسرائيلية التي لا تؤمن بعقيدة السلام في كل الأحوال.

بهذه الصورة اللافتة والجَسورة شغلت فلسطين اهتمام الروائي جوزيه سارماغو حتى آخر سنتين من عمره، وكما لم يصمت في مناسبات سابقة عرفناها في أوجها حينما زار رام الله وغزة، لم يصمت أيضا في تدويناته الأخيرة تلك، فأولاها المُمْعن من أفكاره الشجاعة، وآرائه اللامهادنة، واقتراحاته الرصينة، ضمن انشغالات المفكرة الأخرى المتعدّدة، المتأرجحة بين القضايا السياسية والأدبية، وقبلها عن حياته في لشبونة، وعن صداقاته المتفرّدة.

font change