الدولة في خدمة الناشطين للقضاء عليها... نموذج حصري لإسرائيل

يتم التطرق إلى حركات إسلامية وعربية دون مجموعات المستوطنين المتشددين

Eiko Ojala/Majalla
Eiko Ojala/Majalla

الدولة في خدمة الناشطين للقضاء عليها... نموذج حصري لإسرائيل

للوهلة الأولى يبدو من البديهي الإشارة إلى مجموعات المستوطنين المتشددين التي تمارس اعتداءات ضد الفلسطينيين أو تقوم بعمليات "تدفيع الثمن" أو تواجه ضباط جيش الاحتلال في الضفة الغربية كمجموعات مستقلة تعمل على قلب الحكم والسيطرة عليه أو ما يعرف بـ"اللاعبين خارج إطار الدولة"، فحقيقة الأمر أن فكرة الصهيونية الدينية، التي تنتمي إليها تلك المجموعات خلافا للتيار "الحريدي"، قائمة على المشاركة في "الخلاص" باتجاه إقامة دولة يهودية تخص اليهود دون غيرهم وعلى كامل الأراضي بما فيها الضفة وقطاع غزة. لكن المسألة تبقى معقدة أكثر بعد أن يتضح أن تلك المجموعات مرتبطة بالمنظومة العامة بكل أشكالها.

يقول دكتور عيران صدقياهو الباحث المختص في القومية الدينية في "منتدى التفكير الإقليمي"، مستهلا حديثه لـ"المجلة" بأنه نظم دورة تعليمية في الآونة الأخيرة عن مجموعات "اللاعبين خارج إطار الدولة"، تطرق فيها إلى جماعات وحركات إسلامية وعربية فاعلة في المنطقة مثل "حماس"، و"حزب الله" من دون التطرق إلى مجموعات المستوطنين المتشددين، مشيرا إلى أن تلك المجموعات وإن كانت تواجه الدولة ومؤسساتها وتحرض ضدها، لكنها جزء منها في نهاية المطاف.

نشاط المجموعات اليهودية السرية خلال ثمانينات القرن الماضي كانت جزءا من حالة الصدام مع الدولة خشية تقديم تنازلات للفلسطينيين بعد معاهدة السلام مع مصر

يعيد صدقياهو تشخيصه لحالة المجموعات الاستيطانية المتشددة بأن تيار الصهيونية الدينية الذي تنتمي إليه تلك المجموعات هو جزء من الحركة الصهيونية عامة، كما شكلت الأحزاب السياسية التي تمثله طيفا أساسيا في حكومات إسرائيلية عديدة، لكنه كان يتراجع عن تأييد الحكومة دائما وتدخل مجموعات فيه في صدام مع المؤسسة في الحالات التي تقرر فيها الانسحاب أو "التنازل" عن مساحات من "أرض إسرائيل"، وكلما تعمقت الحكومات في التخلي عن مساحات من الأراضي، ازداد الشرخ مع تيار الصهيونية الدينية التي تفرز مجموعات متشددة تنشط لمواجهة الدولة كما يقول صدقياهو.

ضمن الأمثلة التي يطرحها صدقياهو لتعزيز رؤيته يقول إن نشاط ما عرف بالمجموعات اليهودية السرية خلال ثمانينات القرن الماضي والتي بلغت حد محاولة اغتيال رؤساء بلديات في الضفة الغربية عبر عبوات ناسفة، كانت جزءا من حالة الصدام مع الدولة خشية تقديم تنازلات للفلسطينيين بعد إبرام معاهدة السلام مع مصر. وفي الإطار نفسه، يعد اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين من جانب مواطن إسرائيلي يمثل عمليا التيار الرافض للتنازل عن جزء من "أرض إسرائيل الكاملة"، وفي هذه الحالة رفض "اتفاق أوسلو".

في الجانب المتشدد من الحركات الصهيونية الدينية في إسرائيل يقول صدقياهو إن مجموعة "فتية التلال" الموجودة في عمق مستوطنات الضفة الغربية وسجلت آلاف الاعتداءات على الفلسطينيين تعزز نشاطها بعد الانسحاب الإسرائيلي من مستوطنات قطاع غزة، إلى جانب المستوطنين في ما يعرف بالبؤر العشوائية التي تكثف انتشارها بعد "اتفاق أوسلو"، وأولئك الذين أقاموا مستوطنات زراعية صغيرة في الضفة الغربية تخوض مواجهات كثيرة مع الدولة وتؤسس لأفعال مستقلة وخارجة عن القانون لكنه يلخص أن الوضع معقد طالما أن تلك المجموعات محمية من الجيش الإسرائيلي وممولة من جهات سياسية كبعض الأحزاب والحركات التي تمول أساسا من الدولة.

اندلاع الحرب على غزة أوضح العلاقة بين المجموعات الاستيطانية ومؤسسات الدولة

وفي حديث لـ"المجلة"، يقول يعقوب بيري الرئيس الأسبق لجهاز الأمن العام (الشاباك) في إسرائيل إن الجهات التي تحاول الخروج عن القانون وتسعى للمواجهة الواضحة مع المنظومة الرسمية في صفوف المستوطنين هي دائما تحت مراقبة الأجهزة الأمنية والقسم اليهودي في جهاز الأمن العام الذي يتابع أي تحركات تهدف لزعزعة النظام وتشكل خطرا عليه، مشيرا إلى أن تشريع قانون مكافحة الإرهاب عام 2016 ساهم في تحويل أفراد من تلك المجموعات إلى الحبس الإداري أو توجيه تهم إليهم بالقيام بعمل إرهابي.

يذكر بيري أن بين الأحداث التي نظمتها مجموعات استيطانية متشددة خلال خدمته في جهاز الأمن العام نشاط "الحركة اليهودية السرية" في ثمانينات القرن الماضي والذي شمل قتل فلسطينيين في الخليل ومحاولات اغتيال رؤساء بلديات فلسطينيين والتخطيط لتفجير قبة الصخرة... قبل إلقاء القبض على أفراد المجموعة خلال محاولتهم تفجير حافلات تقل فلسطينيين في القدس. ويقول إن أفراد تلك الحركات ينتمون للتيار اليميني الذي يؤمن بمبدأ "أرض إسرائيل الكاملة" وبضرورة الاستيطان في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي أيامنا، يقول بيري إن منتمين لـ"فتية التلال" وشرائح في حزب "الصهيونية الدينية" الذي يقوده وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وحزب "عوتسما يهوديت" الذي يقوده إيتمار بن غفير، مشمولون ضمن المجموعات المسلحة التي تنشط بمبادرة مستقلة عن نشاط الجيش.

ويرى بيري عموما أن نشاط المجموعات المتشددة لا يمول مباشرة من الدولة لكن أفرادها يحصلون على التمويل الخاص الذي يتلقاه كل مستوطن وهو ما يجعل المساحة بين اعتبارها ضمن "اللاعبين خارج إطار الدولة" والمواطنين العاديين ضئيلة، إلى جانب أن بعضها يتلقى دعما وتبرعات من منظمات يهودية خارج إسرائيل تؤمن بالحق في "أرض إسرائيل الكاملة".

خيط رفيع يفصل بين اعتبار المجموعات المتشددة من المستوطنين الذين يعتدون على المزارعين الفلسطينيين ويرحلونهم من أراضيهم ويقتلعون محاصيلهم، "لاعبين خارج إطار الدولة" ومواطنين خارجين عن القانون بعلم الدولة وتمويلها. هكذا تقول حغيت عفران الناشطة في حركة "السلام الآن" الإسرائيلية التي ترصد تحركات المستوطنين في الضفة الغربية، حيث تشير إلى أن القضية معقدة للغاية فهذه المجموعات من ناحية معينة تعد مستقلة وخارجة عن إطار الدولة الرسمية تحدد وقائع جديدة على الأرض وتنشط ضد الفلسطينيين وتعتدي عليهم، ومن ناحية أخرى مرتبطة بالدولة التي توفر لها الحماية والدعم.

Eiko Ojala/Majalla

تقول عفران: "لسنا على علم بوجود رسمي لمجموعة أو كيان يسعى لإسقاط النظام في إسرائيل أو استبداله، لكن المجموعات الموجودة مثل "فتية التلال" في مستوطنات الضفة الغربية ومستوطني المزارع الذين استولوا على مساحات من الأراضي في الضفة الغربية وأقاموا بيوتا ومزارع لهم على حساب تحرك الفلسطينيين، ولوحظ ازدياد نشاطهم بعد عام 2018، هذه المجموعات محسوبة على الفئات المتشددة بين المستوطنين الذين يخرجون في مواجهة واضحة وحادة أحيانا مع الدولة. لم نتمكن حتى اللحظة من إثبات أن المزارع الاستيطانية ونشطاءها يتلقون أموالا حكومية، لكنهم يتمتعون بدعم من جهات في الدولة ومنظمات تتلقى التمويل في نهاية المطاف من الوزارات والمكاتب الرسمية كحركة "أمنا" المسؤولة عن الاستيطان في منظمة "غوش إمونيم" والوزير سموتريتش الذي يسعى إلى تسوية الوضع القانوني للمزارع الاستيطانية.

وعن الخيط الرفيع الذي بدأت به عفران حديثها تقول إن "اندلاع الحرب على غزة أوضح العلاقة بين المجموعات الاستيطانية ومؤسسات الدولة، خاصة بعد أن وزعت الدولة مزيدا من الأسلحة على المستوطنين وجنّد الجيش مستوطنين لحراسة المستوطنات بدلا من القوات التي نقلها للمشاركة في الحرب، فبات اعتداء المستوطنين على الفلسطينيين يجري بزي الجيش الرسمي"، كما تقول.

ما زاد الطين بلة بعد اندلاع الحرب وأحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول هو تجنيد المستوطنين لحماية المستوطنات

وعلى مدار سنوات طويلة عمل الناشط يهودا شاؤول مديرا عاما لمنظمة "شوفريم شتيكا" التي ترادفها باللغة العربية "كاسرو الصمت" وهي منظمة أسسها جنود وضباط سابقون في الجيش الإسرائيلي وتعمل على تعزيز الوعي بممارسات الجيش والمستوطنين في الضفة الغربية. وخلال سنوات متراكمة من العمل كان مطلعا على نشاط المجموعات الاستيطانية المتشددة. ويقول في حديث لـ"المجلة": "إن مسألة نشاط المستوطنين المتشددين واعتداءاتهم على الفلسطينيين أو أحيانا على مواقع داخل الخط الأخضر معقدة. وعلى المستوى البنيوي هناك حالات يصعب فيها الفصل والتمييز بين المستوطن المواطن الإسرائيلي والمستوطن الجندي، إلى جانب أن علاقة المستوطنين أنفسهم بالجيش من ناحية الحياة اليومية تجعل من الصعوبة بمكان فرض سيطرة الجيش وسيادته عليهم. ففي أحيان كثيرة تنشأ علاقات صداقة بين الجنود في منطقة معينة والمستوطنين في المنطقة نفسها، ما يؤدي إلى عدم تطبيق القانون حيال المستوطنين في حال خالفوه، إلى جانب أن الجنود الذين يكلفهم الجيش بحراسة المستوطنات يتلقون أوامر وتعليمات في هذه الحالة من المستوطن المعين المسؤول مركزيا عن أمن المستوطنة".

وما زاد الطين بلة بعد اندلاع الحرب وأحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول هو تجنيد المستوطنين لحماية المستوطنات ضمن وحدات الحماية الموسعة التي تشمل أيضا مجموعات مسلحة، فبات المستوطن مسلحا من قبل الجيش، لذا يصعب القول إن المستوطنين المتشددين والمعتدين على الفلسطينيين أو الذين يخالفون سياسة الدولة العامة هم "لاعبون خارج إطار الدولة".

يحاول يهودا شاؤول التمييز بين المجموعات الصهيونية المتدينة التي تميل إلى التشدد من خلال الفكر والأيديولوجيا، فيقسمها إلى ثلاثة أقسام قد تكون "فتية التلال" جزءا منها:

مجموعات تتجاوز فكرة "أرض إسرائيل الكاملة" وتؤمن بإنشاء "مملكة يهودا" (دولة يهودية تعتمد على أحكام التوراة) وتسعى لخلق شرخ بين اليهودية والديمقراطية قد يسرع التحول إلى "مملكة يهودا"، وضمن ذلك التوجه يقول شاؤول جاءت المجموعة التي قتلت عائلة الدوابشة في قرية دوما بالضفة الغربية عام 2015 (خلال المحاكمة اعتبرت مجموعة داخل "فتية التلال" تنظيما إرهابيا)، وكذلك مجموعات نفذت عمليات ما يعرف بـ"تدفيع الثمن" التي تشمل خط شعارات عنصرية وإعطاب مركبات أو إحراق ممتلكات داخل الخط الأخضر بما في ذلك إحراق كنيسة في منطقة الطابغة بالقرب من طبريا.

مجموعات من المستوطنين الذين تسربوا من الأطر الرسمية والمعاهد الدينية ويثيرون الشغب وبشكل عام يحسبون على المتدينين.

مستوطنون كلاسيكيون يسعون للاستيطان والاستيلاء على الأراضي في كل المناطق لكنهم لا يميلون إلى المواجهة مع الدولة أو إسقاطها مثل أصحاب المزارع الاستيطانية.

ويوضح شاؤول أن أحد الأسباب التي تقف وراء انتشار التيارات العنيفة من المستوطنين خلال الأعوام الأخيرة بالضفة الغربية هو المسألة الجغرافية، فقد قررت تلك المجموعات أن الصراع سيكون على كل المساحة الجغرافية فنشأ جيل جديد من المتشددين الذين شرعوا في توسيع مساحة الاستيطان بطرق شتى في عمق الأراضي الفلسطينية.

يقارن محللون إسرائيليون بين فكر الحاخام غينزبورغ وأتباعه بـ"داعش"، و"القاعدة"، اللذين يسعيان للسيطرة على الحكم

قليلة هي الأبحاث والمعطيات الموثقة عن الحركات الاستيطانية المتشددة والفاعلة في إطار نزع الشرعية عن الحكومة الإسرائيلية ومؤسسات الدولة، وتغيب الجهات التي تعد تلك الحركات ضمن "اللاعبين خارج إطار الدولة"، لكن أحد الباحثين الذين يتعمقون في دراسة علم الأديان، وهو البروفيسور موتي عنباري، الباحث في إحدى الجامعات الأميركية، يقول في عدد من المقالات والمقابلات التي شارك فيها إن ثمة تيارات في المجموعات المنتمية للصهيونية الدينية بين المستوطنين تميل إلى الراديكالية من خلال السعي لـ"الخلاص الفعلي". ويربط تلك التيارات بالحاخام إسحق غينزبورغ الذي يعد مرجعا لفئات في "فتية التلال" ومجموعات متشددة أخرى بين المستوطنين؛ فخلافا لتيارات الصهيونية الدينية الممثلة في مؤسسات الدولة كالكنيست والحكومة وتسعى للتغيير والوصول لـ"دولة التوراة" من خلال المشاركة في التغيير من الداخل وتتصالح في بعض الأحيان مع قرارات المؤسسة التي تخالف عقيدتها (مثل الانسحاب من مناطق في الضفة أو غزة)، يعلن غينزبورغ وموالون له أن "الولاء لأرض إسرائيل وليس لدولة إسرائيل في حال وقعت المواجهة بين المبدأين". وعلى هذا الأساس يسعى لإضعاف مؤسسات الدولة أو يطمح لذلك على الأقل، لكنه من وجهة نظر عنباري يرى في مؤسسة الجيش ضرورة لـ"دولة التوراة" فيسعى لإحداث تغيير على مستوى الفكر الذي يحمله ذلك الجيش.

ويقارن عنباري فكر غينزبورغ وأتباعه بـ"داعش"، و"القاعدة"، اللذين يسعيان للسيطرة على الحكم. كما يقول إن أحد مصادر قوة الحاخام يكمن في تعزيزه فكرة الانتقام التي تتجسد من خلال أعمال "تدفيع الثمن" والاعتداءات المتواصلة. لكنه (عنباري) يعود ويذكر أن المجموعات المنتمية لأفكار غينزبورغ قائمة بسبب دولة إسرائيل ومؤسساتها التي تمول المعاهد الدينية التابعة له.

font change

مقالات ذات صلة