نيك بوستروم عرّاب إيلون ماسك في السعي نحو الخلود

الذكاء الاصطناعي خطر وجودي

Dave Murray
Dave Murray

نيك بوستروم عرّاب إيلون ماسك في السعي نحو الخلود

في عام 2005 أسس نيك بوستروم، الفيلسوفوالأكاديمي بجامعة أوكسفورد، "معهد مستقبل الإنسانية"، وكان عمره حينذاك 32 عاما. هو سويدي الأصل، وأصبح في السنوات الأخيرة مناصرا لتيار ما بعد الإنسانية، وانضم إلى حركة فكرية، شبه طوباوية، من أشهر داعميها إيلون ماسك صاحب منصة X ، تويتر سابقا، وشركة "تسلا". تتنبأ الحركة الفكرية بتغييرات جذرية، اجتماعية وسياسية واقتصادية، في ضوء تطور الذكاء الاصطناعي المستقبلي.

يخاف نيك بوستروم من عدوى الجراثيم. معظم الصحافيين الذين أجروا مقابلات معه، يقولون إنه يتجنب المصافحة، وذلك حتى قبل جائحة كوفيد19. وبدلا من وجبات الطعام، يتناول بوستروم مشروبا أخضر من الخضروات والفواكه والبروتينات، يتباهي بضربه في خلاّط بقوة ثلاثة جياد. بوستروم غريب الأطوار، يشبه دكتور سترينجلوف في فيلم ستانلي كيوبريك، أو يشبه عالِم الدماغ البشري، ومبتكر الألغاز، إدوارد نيغما في فيلم "باتمان". نيك بوستروم هو فيلسوف نهاية النوع الإنساني، وواضع استراتيجيات نجاة وهلاك على قدم المساواة.

يبدأ كتاب بوستروم "الذكاء الفائق: المسارات والأخطار والاستراتيجيات" (2014)، بحكاية مبتورة، عن عصافير تبني عشها، وتتطلع لوضع مصيرها في يد بومة قوية تحميها، وتعتني بصغارها، إلا أن عصفورا أعور اقترح معرفة أولا كيف تُروَّض بومة وتُستأنس. العصافير لم تستمع لرأي العصفور الأعور، بحجة أن الترويض والاستئناس، أمر معقد، لماذا لا نحصل أولا على البومة، ثم تأتي التفاصيل الدقيقة؟ وانطلقت العصافير بحماسة بحثا عن الطائر المخيف. بسبب عمله لساعات متأخرة في الليل، يصف نيك بوستروم نفسه أنه بومة برأس دوّارة.

 يرى بوستروم أن الذكاء الاصطناعي يشكّل خطرا وجوديا يتجاوز خطورة السلاح النووي

يرى بوستروم أن الذكاء الاصطناعي يشكّل خطرا وجوديا يتجاوز خطورة السلاح النووي، وإذا طُوّر، فسيحدث ما يسمى بـ"الانفجار الفائق"، حيث يقوم الذكاء الاصطناعي بالكشف السافر عن هويته، ومصالحه الخاصة التي تبتعد عن مصالح النوع البشري، بل وتتعارض معها. يتحدث بوستروم في هذا السياق عن أنواع عدة من الإرادة، الأولى بينها هي إرادة اصطناعية، فائقة الذكاء، أقوى من مثيلتها عند البشر، ويمكنها القيام بمهام فكرية معقدة. لا يتطرق بوستروم الى الإرادة التي حجز لها شوبنهاور ونيتشه، بكتابيهما "العالَم إرادة وتمثُّل"، و"إرادة القوة"، مقعدين أماميين مرموقين في قاعة الفلسفة، ربما بسبب أن التطرق الى الإرادة بمعناها الفلسفي، مهمة فكرية شاقة، ومن الأفضل تأجيلها حتى يكتسب الذكاء الاصطناعي المزيد من الخلايا العصبية.  

courtesy of Nick Bostrom
نيك بوستروم

الإرادة الثانية، هي إرادة ذرائعية، براغماتية، تحقق أهدافا آنية محددة، والثالثة إرادة معرفية تسعى إلى اكتساب الفهم، أمّا الرابعة والأخيرة، فهي إرادة معيارية، هدفها كل ما هو صحيح من الناحية الأخلاقية. يرى بوستروم أن الإرادة المرغوب في تحقيقها من قِبَل الذكاء الاصطناعي، هي الإرادة المعيارية التي تنسجم مع القيم الإنسانية، لكن في الحال تظهر معضلة جديدة، وهي غياب الإجماع حول ما هو السلوك الأخلاقي المعياري المناسب للبشر، وإذا تحقق هذا الإجماع بصعوبة عبر استقراء السلوك البشري المثالي وغربلته، وتكرار التصحيحات، ثم حقن البرنامج كاملا في خلايا العقل الفائق، مَنْ يضمن بعد نضج خلاياه العصبية الاصطناعية، عدم تحريفه للبرنامج؟  

يعترف بوستروم بأنه لا توجد استراتيجيات سهلة أو مضمونة، لتحقيق إرادة معيارية للذكاء الاصطناعي، تخدم القيم والأخلاق البشرية، لكنه يؤكد ضرورة استمرار الحوار والبحث بين الخبراء، وأصحاب المصلحة، لتعظيم فوائد الذكاء الاصطناعي.  

يناقش أيضا بوستروم الجهات الفاعلة الرئيسة، ومنها الحكومات التي قد تكون لها مصلحة قوية في تطوير الذكاء الفائق للأغراض العسكرية والاقتصادية. ويشير إلى أن الحكومات أميل إلى اتباع استراتيجيا "الإقلاع السريع"، في خضم سعيها إلى تطوير الذكاء الفائق ونشره في سباق محموم مع دول أخرى. أمّا الجهات الفاعلة الأخرى مثل القطاع الخاص، فربما تكون أميل إلى استراتيجيا "الإقلاع البطيء"، القائمة على تطوير الذكاء الاصطناعي الفائق ونشره تدريجيا، وبطريقة أقل خطورة.  

بوستروم وماسك والخلود

لعلّ بوستروم هنا يجامل القطاع الخاص الذي حباه بـ"إقلاع بطيء"، متمهل، إنساني، في ما يتعلق بتطوير الذكاء الفائق. المجاملة تبدو منطقية، فإيلون ماسك من المتحمسين لكتاب بوستروم، وهي الحماسة نفسها التي أنجز بها ماسك زراعة أول شريحة سيليكون في الدماغ البشري ويعمل على تطويرها. وقد تبرع ماسك بعد قراءة كتاب بوستروم بمليون جنيه إسترليني لـ"معهد مستقبل الإنسانية". كما تدعو شركة "غوغل" العملاقة بوستروم بين الحين والآخر لإلقاء محاضرات في مقرها. هكذا أصبح كتاب "الذكاء الفائق: المسارات والأخطار والاستراتيجيات" من المقرّرات شبه الإلزامية على كل مَنْ يتقدم للعمل في شركات الذكاء الاصطناعي.  

GettyImages
إيلون ماسك

تغلب على إسلوب بوستروم، اللغة الأكاديمية، التعليمية، وطرح الكثير من الاحتمالات، والنقاط الأساسية، والنقاط الفرعية، والتحليلات الجافة، والإرشادات المدرسية. فهو أقرب إلى محاسب مالي، تكنوقراطي، بيروقراطي، مستشار لمدير تنفيذي، لكنه ليس فيلسوفا بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. فالفلاسفة يتحاور بعضهم مع بعض، ليس بدافع الحب، بل بدافع الانتماء إلى الفلسفة، هيغل قرأ كانط، وماركس قرأ هيغل، ونيتشه قرأ شوبنهاور، ودريدا قرأ هايدغر. هناك فلاسفة فقط داخل حقل الفلسفة.  

وصل تفاؤل نيك بوستروم في السنوات الأخيرة إلى تخوم روايات وأفلام الخيال العلمي، فهو يفكّر، أو يحلم، بأن الحياة قادرة على عكس قانون "الإنتروبيا" في الزمان والمكان، ولأن "الإنتروبيا" متربطة بسهم الزمن المتقدم إلى الأمام، ولا يمكن رجوع سهم الزمن الى الخلف، كما لا يمكن أيضا رجوع "الإنتروبيا" الى الخلف، فالماضي دائما أقل "إنتروبيا" من المستقبل، وارتفاع "الإنتروبيا" في المستقبل، هو ارتفاع حتمي للفوضى.  

يعتبر بوستروم نفسه عدو "الإنتروبيا"، لأنه عدو الزمن، فهو يأمل أن يتمكن الذكاء الاصطناعي، أو أن تتمكن تكنولوجيا النانو، من القضاء على شيخوخة الخلايا البشرية، أو على الأقل الاستغناء عن الجسم البشري بالكامل، وتحميل العقول على كومبيوتر واحد عملاق، لتحقيق خلود رياضي نقي بعيد عن ضعف الجسم البشري وفساده. العالِم إدوارد نيغما في فيلم "باتمان" (جيم كاري، الجزء الثالث 1995) فعل أمرا شبيها حين امتص عقول مدينة غوثام، وحمّلها في رأسه.  

يعترف بوستروم بأنه لا توجد استراتيجيات سهلة أو مضمونة، لتحقيق إرادة معيارية للذكاء الاصطناعي، تخدم القيم والأخلاق البشرية

حنين بوستروم الى الخلود لا ينتهي. ففي 2008 كتب مقالة يحذّر فيها من أن الموت ليس واحدا بل مجموعة من القَتَلَة، ثم يخاطب القارئ بفعل الأمر، وبنفاد صبر: "استهدف أسباب الوفاة المبكرة، العدوى، والعنف، وسوء التغذية، والأزمات القلبية، والسرطان. أطلق رصاص مسدسك على الشيخوخة. عليك استخدام العمليات البيوكيميائية في جسدك حتى تتمكن من التغلب على المرض والشيخوخة، وبمرور الوقت ستكتشف طريقا لنقل عقلك إلى وسائط أكثر استدامة".

Alamy
كيانو ريفز ولورنس فيشبورن في مشهد من فيلم "The Matrix"

عندما أخبرنا مورفيوس، البطل الثاني في فيلم "ذي ماتريكس" (1999)، أن واقعنا زائف، مجرد محاكاة، قام الفيلسوف بوستروم، بعد عرض الفيلم بسنتين 2001، بكتابة ورقة بحثية بعنوان "حجة المحاكاة"، افترض فيها ثلاثة سيناريوهات مستقبلية: السيناريو الأول، أن البشرية ستنقرض قبل إنشاء تكنولوجيا قوية بما فيه الكفاية لمحاكاة الواقع. السيناريو الثاني، أن البشرية سترى تلك التكنولوجيا، لكنها ستقرر، لسبب ما، عدم إجراء أي عمليات محاكاة. أما في السيناريو الثالث، فستجري البشرية عمليات محاكاة عدة لتاريخها السابق، وفي هذا السيناريو ستكون هناك عوالم محاكاة لا تُحصى، ويبقى واقع واحد لا يخضع للمحاكاة، لذلك ربما على الأرجح أننا نعيش الآن في عالَم محاكاة.  

الخيال العلمي

يدّعي بوستروم كثيرا أنه يكره قصص الخيال العلمي وأفلامه، لهذا بدأ بالتحقيق شبه البوليسي، بأثر رجعي، لسبر عمق نظرته العلمية. ففي 2019 على موقع Vultureالشهير، سأل الصحافي بريان فيلدمان، بنبرة اتهام، نيك بوستروم: عندما كتبت ورقتك البحثية، "حجة المحاكاة"، هل شاهدت قبلها فيلم ذي ماتريكس؟"، أجاب بوستروم بعجرفة بأنه لا يعتقد ذلك، ودافع عن نفسه سريعا بموضوع أطروحته للدكتوراه، السابقة على الفيلم، وبأنه كان مهموما منذ زمن، بالتقدم التكنولوجي، والذكاء الاصطناعي المستقبلي، ثم أغرق الصحافي في كلمات وأمثلة عن الحوسبة وتكنولوجيا النانو. 

ما زال وعي الذكاء الاصطناعي في مجال الإحساس والشعور لا يتجاوز وعي طفل عمره سبع سنوات

بعد سؤالين أو ثلاثة عاد بريان فيلدمان الى سؤال بوستروم، هل شاهدت فيلم "ذي ماتريكس"؟ ربما فكّر بوستروم أن إعادة السؤال في المرة الثانية، هي نصف اتهام، فأجاب: نعم شاهدت الفيلم منذ فترة. وأشاد بملابس الفيلم السوداء والعناصر الأسلوبية للصورة. وكان حريصا على ألا يقترب من فكرة الفيلم.  

GettyImages
لورانس فيشبورن يلعب دور البطولة في فيلم "The Matrix" عام 1999

بعد تسع سنوات من صدور كتابه، "الذكاء الفائق: المسارات والأخطار والاستراتيجيات"، تحدث بوستروم في مقابلة مع "نيويورك تايمز" 2023، عن روبوتات الدردشة المدعومة بذكاء اصطناعي، قائلا إنها بدأت بالفعل رحلتها نحو الوعي، ونحو القدرة على تجربة المشاعر والأحاسيس. يقول: "إذا أظهر الذكاء الاصطناعي خطايا الشعور، فمن المعقول أن يتمتع بدرجة ما من المكانة الأخلاقية". وكأنّه يقفز إلى توقعات نجاح كبيرة، بينما لا يزال وعي الذكاء الاصطناعي في مجال الإحساس والشعور لا يتجاوز وعي طفل عمره سبع سنوات. وهو ما يؤكده بليك ليموين مهندس برمجيات "غوغل" السابق، بقوله: "أشعر عندما أتحدث مع روبوت دردشة، أنني أتحدث مع طفل صادف أنه يجيد الفيزياء".

font change

مقالات ذات صلة