"عطور الشرق" من باريس إلى الرياض

الفرنسيون يستكشفون أرض البخور والعنبر

Huda Lufti + The Third Line, Dubai
Huda Lufti + The Third Line, Dubai

"عطور الشرق" من باريس إلى الرياض

لن تشاهد في معرض "عطور الشرق" بباريس آلات صناعة العطور ومكوناته وصور تسويقه فحسب، وإنما أيضا ستشم هذه العطور عبر أدوات تحوي بعض رحيق الزهور والورود. لهذا وجدنا الكثير من الفرنسيين والأوروبيين يتحلقون حول هذه الآلات ليتشمموا سحر الشرق وليستذكروا أساطيره مع البخور والعود والمسك والعنبر والصندل.

روائح تستقبلك ما إن تبدأ جولتك في النظر والشم وكأنها تدعوك إلى لحظة نسيان، أو هدوء على الأقل، تبتعد خلالها من صخب الحروب ورائحة البارود القاتلة.

هنا ستسمع تعابير الاندهاش، وستمضي مع حكايات الشرق المعجونة بالعطور، من الجنوب العربي حيث بدأ البخور ينشر نفحاته إلى المغرب مرورا بعُمان ومصر القديمة، وستعرف أن العطور كانت تُصنع خصيصا للآلهة أو تقربا منها، ولهذا ستبدو لك التسابيح والصلوات تجليا لتلك الرائحة.

يستعيد المعرض المكونات الأولى للعطور حيث الأزهار والأعشاب والتوابل وتنوعها مع المواد الصمغية العطرية المكتشفة في أماكن كثيرة

هذا المعرض الذي يقام في "معهد العالم العربي" حتى مارس/آذار المقبل من المقرر، كما قال لنا المسؤول الإعلامي للمعهد شارل سابا، أن ينتقل إلى الرياض في الفترة من 6 مايو/أيار إلى 24 أغسطس/آب المقبل، حيث ستعرض هناك مكوناته التي تحوي كل ما يتعلق بصناعة العطور الشرقية من تكوين المواد الخام حتى التسويق.

مكونات أولى

يستعيد المعرض المكونات الأولى للعطور حيث الأزهار والأعشاب والتوابل وتنوعها مع المواد الصمغية العطرية المكتشفة في أماكن كثيرة "من أرياف البحر الأبيض المتوسط والشرق الأدنى، مرورا بالصحراء العربية ووصولا إلى حدود الغابات الآسيوية وجبال الهيمالايا".

بحسب دليل المعرص، فإن شبه الجزيرة العربية "أرض البخور والعنبر والمر" لعبت دورا رئيسا "في تحضير العطور. وعلى نطاق أوسع، قدم العالم العربي بأسره العديد من الزهور والتوابل التي أثرت هذه الوصفات" التي جُمعت في أسواق المنتجات العطرية وتركيبات العطارين.

يعتقد المسلمون أن الطيب من شجرة الجنة وأن آدم أخذ من أغصانها حين هبط إلى الأرض ولذلك يقال إنه هبط في الهند حيث موطن الطيب، وارتبط الطيب بالنساء فقيل هما أجمل ما في الدنيا. وعدّ فقهاء الإسلام شم الطيب من تقوية البدن.

Eman Ali_ musée de l’IMA

وجاء في كتاب "العِطر عند العرب" للباحث قيس كاظم الجنابي أن الطيب يعد "من مكملات التزين المهمة عند المرأة، لأنه من الأشياء ذات الرائحة الزكية التي تعبر عن حسن الذوق والشرف، وقلة الخشونة ورفعة الخلق وسموه، بما يسهم في كسب ثقة الآخرين وحفظ مودتهم، لذا كانت العرب تحرص على التقرب بها إلى الآلهة، فقد كانت الأصنام تلطخ بالخلوق وجدران المعابد، ولطالما تقدم العابدون إلى آلهتهم بمبخرة ليحرق البخور فيها. وكان للرجال طيبهم، وللنساء طيبهن، لذا وصفوا طيب الرجال بالذكارة، كالمسك والعنبر والعود، وهو جمع ذكر. وكانوا يكرهون المؤنث من الطيب ولا يرون بذكورتِه بأسا، وهو ما لا لون له ينفض كالعود والكافور والعنبر. والمؤنث طيب النساء كالخلوق والزعفران".

وقد ألف العرب قديما في العطور وعرفوا بصناعته وأصنافه ومصادره، ومما قالوه عن المسك الذي يعتبر أطيب الطيب عندهم إن أصله "من دابة ذات أربع أشبه شيء بالضبي الصغير، لها قرن واحد، وهو فضل دموي يجتمع من جسمها إلى سرتها، فتصاد تلك الظباء وتذبح وتؤخذ سررها بما عليها من الشعر"، وإن أصل رائحته من النباتات يوجد في كشمير والتيبت والصين وأفغانستان وله أنواع عديدة ودرجات مختلفة في قوة الرائحة.

أما العنبر فأصله "ينبع من صخور وعيون في الأرض، يجتمع في قرار البحر، فإذا تكاثف اجتذبه الدهانة فاقتطفته، وربما ابتلعته سمكة عظيمة يقال لها "أكيال"، فيشق جوفها ويستخرج منها ويسمى العنبر السمكي والعنبر المبلوع"، كما يقال إن اسم السمكة "البال" وهي الحوت، وإن أجوده لونا وصفاء وأغلى قيمة هو العنبر الشحري، "وهو ما يقذفه بحر الهند إلى ساحل الشحر في أرض اليمن"، حسب ما ينقل قيس كاظم من كتب التراث العربي.

أرض البخور

ومن أصناف العطور العود، وهو "شجر عظام بمواضع من أرض الهند، يكون من قلب الشجر، ولا تصير له رائحة إلا بعد أن يُعتق ويُنجر ويُقشر".

والصندل، أيضا، هو الآخر يؤتى به من الهند وله أنواع مختلفة ومصدره النبات. وهناك أصناف أخرى من العطور أو الطيب كالسنبل والقرنفل والقسط. إضافة إلى المستحضرات العطرية التي تنتج من خليط أو تركيب مجموعة من المصادر العطرية.

Aisha Alsowaidi Midkhans, Doha, courtesy of Alejandro Arango

وتصف النصوص الدينية القديمة جنوب جزيرة العرب بأرض البخور، وكانت جزيرة سقطرى لها "أهمية خاصة في عهد اليونان، لأنها تنتج محاصيل ذات قيمة كبيرة في أسواق العالم، مثل البخور والصمغ. وكذلك كان الزيت المصنوع من البخور يعد مادة مهمة". وكان للبخور مكانته في المعابد العراقية والمصرية القديمة بوصفه طريقة من طرائق استخدام العطور "عبارة عن طقوس دينية وممارسات يومية الغاية منها طرد الأرواح الشريرة للخلاص من شبح المجهول". وبحسب ما يورده الجنابي من معلومات فإن كهان المعابد كان أكثرهم من البيوتات الكبيرة وإن مدينة غزة ساهمت "في هذه التجارة بين العرب واليونان، حتى إن تجار اليمن من مملكة سبأ كانوا يتاجرون بأفخر أنواع الطيب مع فلسطين في القرن العاشر قبل الميلاد"، وهذا ما تفسره بعض النقوش اليمنية القديمة عن وجود علاقة بين اليمن وغزة، حيث كانت المدينة الفلسطينية تعتبر وسيطا لتصدير المنتجات وقتها عبر البحر. 

كان للبخور مكانته في المعابد العراقية والمصرية القديمة بوصفه طريقة من طرائق استخدام العطور

في المعرض أربع عينات من عطور عربية حديثة ابتكرها كريستوفر شيلدراك خصيصا للمعرض لتتقارب من طريقة تركيب العطور العربية. وقد سألنا أحد القائمين على محل في الشانزيليزيه، يبيع العطور العربية التقليدية مثل العود، عن سبب عدم بيع المحلات العربية لعينات من العطور والمعمولات والتراكيب العربية مثل البخور فقال إن ذلك يعود إلى عدم امتلاك الحقوق الاختراعية التي يُطالبون بها وتتضمن تكوينات هذه المواد العطرية، ويصبح من الصعب تقديمها لأن ليس هناك علامة تجارية معينة تمتلك هذه الحقوق وتصنعه عبر مواصفات مقبولة.

على مدى التاريخ اعتبرت شبه الجزيرة العربية أرض العطور، وهي المعروفة "بتساقطاتها المطرية النادرة، وشمسها الساطعة"، حسب دليل المعرض الذي أشار إلى نمو "نبات المر واللبان على السواحل الجنوبية لشبه الجزيرة وفي القرن الأفريقي، حيث الأراضي قاحلة وملائمة لنموه، تشتق هذه المواد الصمغية من إفرازات أشجار كوميغورا ميرا وبوسويليا ساكرا، تعود زراعتها إلى آلاف السنين"، وكان العنبر الرمادي "باعتباره خلاصة، لها رمزية في تاريخ العطور العربية، متوافرا على وجه الخصوص في السواحل اليمنية والعمانية".

وقد أتاح "إتقان العرب للتقطير منذ القرن التاسع، إنتاج مياه معطرة وزيوت أساسية، خاصة الورد، الذي حلّ محل المواد الطبيعية ومهد الطريق بذلك لتصنيع العطور".

Courtesy of Reem al Nasser and ATHR Gallery Jeddah

تعكس بعض المواد المعروضة استخدام الأنواع العطرية في كثير من المجالات كالتزين والصابون والمرهم وغيرها. وهناك منمنمات ولوحات وصور لأسواق تضيء هذا الشغف الشعبي بالروائح العطرة الذي أدى إلى تخصيص أسواق يمارس فيها العطارون مهنتهم المميزة في التاريخ العربي. وكان "يسهل الحصول على الزهور والنباتات العطرية، سواء تعلق الأمر بقطافها أو بتكلفتها، إذ تنمو على أطراف المدن، ولا تحتاج تطلّب الجانب الآخر من العالم للحصول عليها". ودخلت "في صناعة العطور ومستحضرات التجميل والوصفات العلاجية والطهي. حتى وإن حظيت بشعبية لدى النخب، فقد ظلت يسيرة التكلفة بالنسبة إلى الطبقات الشعبية".  وزرعت الزهور في الوديان المغربية وأصفهان ودمشق وجبال عمان "وظلت حاضرة في تفاصيل كثيرة تنتمي إلى الثقافة العربية، ويحمل النرجس والزعفران والياسمين رمزية أخرى مماثلة".

لا يغفل المعرض من خلال لوحات ومقاطع فيديو علاقة العِطر بالحب حيث الاهتمام بالجسد وتطييبه، ثم الإغواء بواسطة الشم واشعال الرغبة وتنشيطها فيكون مصاحبا للمحبين منذ أول لقاء حتى الوصول إلى حجرة النوم.

font change

مقالات ذات صلة