آرون بوشنيل ومناضلو الضمير

آرون بوشنيل ومناضلو الضمير

ما الذي يدفع شابا لإشعال النار في جسده من أجل قضية ليست قضيته؟

في رسالة الفيديو التي بثها الطيار الأميركي آرون بوشنيل عبر منصة "تويتش" قبل إقدامه على حرق نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن العاصمة، إضافة إلى الكلمات التي قالها قبيل وخلال العملية نفسها، نجد شيئا من الجواب: "كثر منا يسألون أنفسهم ماذا كنت لأفعل إن كنت أعيش خلال حقبة العبودية؟ أو فترة فرض قانون جيم كرو في الجنوب؟ أو الفصل العنصري؟ ماذا كنت لأفعل إن كان بلدي يرتكب الإبادة؟"، كما أرسل بوشنيل رسالة إلى وسائل الإعلام الأميركية يعلمها فيها بما يعتزم القيام به "اليوم أخطط لأقصى عمل احتجاجي ضدّ إبادة الشعب الفلسطيني"، وهي الكلمات التي كررها قبيل سكبه النفط ثم إشعاله النار بنفسه، لتكون كلماته الأخيرة: "الحرية لفلسطين".

سوف يقف كثر من الفلسطينيين بداية، ثم العرب، والإسرائيليين والأميركيين، وغيرهم مذهولين أمام هذه الدرجة من التضحية بالذات المصحوبة بأشدّ أنواع الألم، وقد يصف بعضهم الشاب بالجنون، وقد يصفه آخرون بالتهوّر، ولن تعدم بين العرب أنفسهم من يشجب تصرفه لأسباب دينية أو لمجرّد أنه تحدّى منطقة الراحة لديهم وفعل أضعافا مضاعفة مما هم مستعدون لفعله من أجل قضية لا ينون يتغنّون بها على مرّ الأيام والعقود.

قد يصف بعضهم الشاب بالجنون، وقد يصفه آخرون بالتهوّر، ولن تعدم بين العرب أنفسهم من يشجب تصرفه لأسباب دينية أو لمجرّد أنه تحدّى منطقة الراحة لديهم

وبصرف النظر عن خلفية الشاب، وما إذا كان يهوديا بالفعل كما يقول بعضهم، انطلاقا من اسمه، أم مسيحيا، أم لا دينيا، فإن الصدمة التي يفترض أن يحدثها آرون، أولا للمؤسسة السياسية والعسكرية الأميركية التي ينتمي إليها، وثانيا للإسرائيليين، وثالثا للعالم بأسره، ربما لن تحقّق الصدى الإعلامي المتوقع في الغرب، ولن تبرز وسائل الإعلام الكبرى الخبر، وقد تكتفي بالإشارة إلى الحادثة مع تجاهل رسالة بوشنيل ومغزاها مع استمرار حرب غزة للشهر الخامس، والمآسي الهائلة التي تتكشف عنها يوميا، وفي مقدمها تهمة الإبادة التي تواجه إسرائيل في أعلى سلطة قضائية في العالم، لكنّ ذلك كله لن يلغي أهمية ما فعله آرون، ليس انطلاقا من خلفية أيديولوجية أو سياسية أو دينية، بل بكل بساطة انطلاقا من خلفية إنسانية تطرح على كلّ فرد فينا السؤال المقلق: ماذا فعلت عندما كان هذا كله يحدث؟

في حقيقة الأمر، سؤال بوشنيل هذا لطالما طرحه الأوروبيون على أنفسهم في ما يتعلق بالهولوكوست، ولعلّ هذا السؤال هو مصدر عقدة الشعور بالذنب التي تسكن كثيرين منهم، وخصوصا الألمان، الذين إما وقفوا موقف المتفرج الصامت خوفا أو عجزا، وإما شاركوا فعليا في الإجراءات التي أدت إلى إبادة ملايين اليهود وقتذاك، وفي الحالين هناك شعور بالتواطؤ وصم كثرا من الأوروبيين منذ ذلك الحين، وما موقف بعضهم الأعمى اليوم في دعمه إسرائيل، إلا تعبيرا عن هذا الخجل التاريخي العميق.

بالتالي، ليس من دون دلالة أن يختار بوشنيل السفارة الإسرائيلية في واشنطن للقيام بهذا العمل الاحتجاجي، فهو بذلك يوجّه أصابع الاتهام مباشرة إلى الطرفين الشريكين في مأساة غزة الحالية، وكون الشاب ليس من أصول عربية، ولا هو مسلم، كان من شأنه أن يستفزّ الإسرائيليين أنفسهم، فرأينا حسابا رسميا للموساد ينشر صورة الشاب قبيل حرق نفسه، مع تعليق: أعداؤنا يقتلون أنفسهم. أي أن كلّ من يحتج، ولو بقتل نفسه، ومن يتهم إسرائيل (ومعها أميركا) بالإبادة، هو عدو، وهذا يجعل مئات الآلاف ممن يتظاهرون حول العالم، في بريطانيا وأميركا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وغيرها، جميع هؤلاء، يجب وفقا لهذه النظرة أن يقتلوا أنفسهم ما داموا لا يتبنون الرواية الإسرائيلية عن هذه الحرب.

سؤال بوشنيل هذا لطالما طرحه الأوروبيون على أنفسهم في ما يتعلق بالهولوكوست، ولعلّ هذا السؤال هو مصدر عقدة الشعور بالذنب التي تسكن كثيرين منهم

أعود إلى السؤال: لماذا يفعل أحدهم ذلك بنفسه؟ هل يستحق "الآخرون"، البعيدون، الغرباء، ولو كانوا مظلومين، مثل هذه التضحية القصوى؟ ألا يفترض أن يتولى الفلسطينيون شؤون أنفسهم، ويتحملوا بمفردهم هذه الكارثة التي حلت بهم، كما يرى بعض العرب؟ ولماذا أهتم بأمر يجري خارج حدود بلدي؟

الجواب أيضا نجده في فعل الاحتجاج. فمن يفعل مثل ذلك، وأشهرهم تاريخيا الراهب البوذي الذي أحرق نفسه في 1963 احتجاجا على سوء معاملة الحكومة المدعومة أميركيا للبوذيين، وآخرهم قبل بوشنيل امرأة أميركية أشعلت النار بنفسها في ديسمبر/ كانون الأول 2023 أمام القنصلية الإسرائيلية في أطلنتا أيضا للسبب نفسه، من يفعل ذلك إذن لا ينتظر شيئا من أحد، ولا يطالب أحدا بأن يحذو حذوه، بل لعله يشعر أنه يفعل ذلك نيابة عن مئات الآلاف من أمثاله من العاجزين عن تغيير مواقف حكوماتهم أو وقف المذبحة. لا يقول إنه فلسطيني، ولا عروبي، ولا إسلاموي، ولا شيء من هذا القبيل، بل فقط أقصى أفعال النبل والإيثار التي يمكن تخيّلها، حيث لا يضحي الفرد بنفسه فقط من أجل القضية التي يؤمن بها، بل أيضا من أجل أمثاله من المؤمنين بقضايا إنسانية ويختارون التضحية بأنفسهم، لا بسواهم، لإيصال صرختهم المدوية. قلما يجتمع اليأس والأمل، الغضب والرجاء، في لحظة واحدة مثلما في أفعال الاحتجاج هذه: اليأس والغضب من الواقع الراهن، والأمل والرجاء بأن هذه التضحية قد تسهم في تغيير الواقع، لأن أحدا لا يستطيع التشكيك بصدق أو نوايا من يقتل نفسه افتداء للآخرين.

هؤلاء مناضلو الضمير في عصرنا، الذين يملكون بوصلة واضحة تحدد لهم الظالم من المظلوم، والقاتل من الضحية، ولا ينشغلون بإلقاء اللائمة على الضحية

أما بالنسبة إلى الفلسطينيين، فإنهم مدينون اليوم لبوشنيل، مثلما هم مدينون لمواطنته راشيل كوري (1993) التي قضت في مواجهة بلدوزر إسرائيلي، والناشط البريطاني توم هورندال (2003) الذي قتل برصاصة إسرائيلية في الرأس في غزة، والمصور البريطاني جيمس ميلر الذي قتل في رفح في 2003، والبريطاني تريستان أندرسن الذي تسبب له طلق ناري إسرائيلي بضرر دماغي دائم عام 2009 خلال الاحتجاج على بناء جدار العزل الإسرائيلي. وغيرهم المئات بل الآلاف، ممن حالفهم الحظّ ولم يقتلوا أو يصابوا بالشلل، لكنهم وجدوا عشرات السبل، وضحى بعضهم بوقته وبمصدر رزقه أو أسباب راحته، دعما للحق الفلسطيني ووقوفا ضدّ الظلم الذي يشعرون بجزء من المسؤولية عنه لأنهم ينتمون إلى دول تدعم بلدانها دولة الأبارتيد في إسرائيل.

هؤلاء مناضلو الضمير في عصرنا، الذين يملكون بوصلة واضحة تحدد لهم الظالم من المظلوم، والقاتل من الضحية، ولا ينشغلون بإلقاء اللائمة على الضحية فقط لأنهم عاجزون أو خائفون أو غير راغبين في مواجهة الجلاد.

font change