صالحة عبيد: الكتابة وأجناسها فعل قائم على المخيلة واللغة والمجاز

صدرت لها أخيرا رواية "دائرة التوابل"

Courtesy International Prize For Arabic Fiction
Courtesy International Prize For Arabic Fiction
صالحة عبيد

صالحة عبيد: الكتابة وأجناسها فعل قائم على المخيلة واللغة والمجاز

دبي: نشرت القاصة والروائية صالحة عبيد، المولودة في الشارقة 1988، الحاصلة على جائزة العويس للإبداع القصصي 2016 وجائزة الإمارات للشباب في مجال الثقافة والكتابة الأدبية عام 2017، أول إصداراتها عام 2010 بمجموعتها القصصية، "زهايمر"، وبعد أكثر من إصدار في القصة اتجهت الى الرواية لتكون "دائرة التوابل" الصادرة عن "منشورات المتوسط" آخر أعمالها. هنا حوار معها.

  • حدثينا عن بداياتك، تصورك عن المجتمع الأدبي قبل أن تدخليه وبعدما خضت فيه وأمسيت جزءا منه؟

في الحقيقة لا أعلم إن كنتُ قد ترسخت منذ أول إصدار كاسم أدبي، خصوصا أني عندما أنظر إلى المجموعة الأولى، وإن كنت أنظر إليها بعطف خاص الآن، أراها محاولات أولى لفهم فكرة الكتابة وتشكيلها بالنسبة إلى فتاة في بداية العشرينات من عمرها، ومن منطلق ذلك الوقت لم تكن لديَّ تصورات واضحة بطبيعة الحال عن فكرة الوسط الأدبي وما هو وكيفية التعامل معه، كنت أفكر بكون تلك الأفكار الصغيرة قد أضحت الآن موجودة ومشاعة للعلن في كتاب، مع الوقت وإصدارا بعد آخر ترى نفسك جزءا من مجتمع مصغر داخل مجتمع أكبر وأعني بذلك المجتمع الأدبي الإماراتي داخل المجتمع الإماراتي نفسه، وأشعر في كثير من الأحيان أنهما يسيران في خطين متوازيين، لا يتقاطعان إلا نادرا. لعل أدب ما بعد الطفرة الاقتصادية وبدايات تشكل الاتحاد انشغل في رصد التغيرات الجوهرية المادية مع إسقاطات طفيفة على المكون الإنساني، انعكست في تصور حميمي وحنين إلى فترة الغوص والصحراء، فوجدتُني أشعر بنفسي جزءا منه بشكل ما، أتحرك في عالمَين، عالمي اليومي وما يحدث فيه دون تفسيرات أدبية واضحة، وعالم آخر له أسئلته المختلفة التي تظهر أحيانا متأخرة عن المرحلة التي يطرحها المجتمع اليومي. هذا لا يلغي وجود بعض التجارب اللافتة، لكنها لم تكن بالكثافة الكافية لخلق تقاطع واضح بين المجتمعين.

 المراوحة في استجلاب حميمي لزمن غاب، دون رصد للوضع الراهن، هي جزء من الفجوة بين الأجيال

  • تناولت في روايتك، "لعلها مزحة"، الحوار ما بين الأجيال، هل ترين أن التفاعل بين الأجيال الأدبية في الإمارات سلس وبناء، وهل فكرة الأجيال الأدبية فكرة حقيقية نستطيع تلمسها وتحديد ملامحها؟

لعلي سأكمل في إجابتي عن هذا السؤال ما بدأته في الإجابة الأولى بالحديث عن فكرة التوازي. أعتقد أن المراوحة في استجلاب حميمي لزمن غاب، دون رصد للوضع الراهن، أي غياب هذا الأدب التوثيقي للمجتمع الإنساني، هو جزء من الفجوة بين الأجيال على الرغم من أننا عندما نتحدث عن الأجيال في الإمارات نتحدث في نطاق ضيق زمنيا، من المفترض ألا يسمح بتشكل هذه الفجوة بعد، لكنني أفهم أن التسارع الحضري مقابل الفعل التراكمي البطيء والطبيعي نسبيا للثقافة قد ساهما في جعل هذه الفجوة واضحة أكثر، لا أعلم إن كان الأدب اليوم قادرا على تجسير تلك الفجوة لكنها تبقى محاولات طرح الأسئلة والفهم، أما في ما يتعلق بالفجوة بين الأجيال الأدبية فأظنها انعكاسا للفجوة العالمية، يظن الجيل الأكبر أنه يعرف أكثر ويظن الأصغر أنه يفهم أكثر دون حوار طويل حول المنتج، ودون أن نستجمع أسئلتنا المشتركة القائمة اليوم.  

  • بدأت قاصة بإصدار ثلاث مجموعات قصصية ثم انتقلت إلى الرواية، ما أبرز ملامح هذا الانتقال بين القصة والرواية، وهناك ميل لدى النقاد لتشبيه القصة القصيرة بالشعر من حيث التكثيف؟

 ما زلت أرى نفسي كاتبة قصة أولا، وكلما ومضت ببالي فكرة أراني أفكر فيها كقصة وأحاول تفريغها بهذا الشكل، القصة تشكل بالنسبة إليّ التقصّي اليومي، ومحاولات تدارك الحياة المنفلتة بتفاصيلها الطافحة، لكنني أحيانا، وهنا تأتي النقلة والاختلاف، تأتيني الفكرة والشخوص بما هو أكبر من المشهد القصصي القصير، حيث تحمل الشخوص أماكنها المتسعة وتاريخ تلك الأماكن وتحولاتها الاجتماعية والسياسية إلى جانب اللعبة السردية التي قد تمتد إلى ما هو أبعد من التكثيف القصير، هي جميعها عناصر جعلتني، وفق فهمي للرواية، أنقل الفكرة من قصة إلى رواية. 

أما فيما يتعلق بالتقاطع بين القصة والشعر فأظن أن كل ما نكتبه يحتمل أن يتقاطع بالشعر كما هو العكس. الكتابة وأجناسها فعل قائم على المخيلة واللغة والمجاز واللعب بين كل ذلك، وهذا ما تحتمله عناصر كل تلك الأجناس الأدبية وأجناس أخرى بالمناسبة قد لا تكون قابلة للتصنيف اليوم... هذا بالطبع مع إدراك القواعد الأولى التي انطلق منها كل جنس.

Courtesy International Prize For Arabic Fiction

  • "خصلة بيضاء بشكل ضمني" حازت جائزة العويس للإبداع القصصي 2016، ثم نلت جائزة الإمارات للشباب عن فئة الكتابة الإبداعية 2017، كيف تعاملت مع فكرة الجائزة خاصة جائزة العويس وهي ليست شبابية الطابع؟

أظن أن الجوائز تجعل المرء يتعامل مع فكرة الكتابة باعتبارها فعلا مرئيا على نحو ما. حين حصلت على جائزة العويس لم أفكر بكون الجائزة شبابية من عدمها بقدر ما أربكني ذلك بداية، إذ أن الكتابة صارت موضع ملاحظة بشكل أكبر وهو ما يستلزم في مرحلة مقبلة إجادة أكبر وبحثا عن مساحات جديدة. لعل الجوائز في هذا السياق هي بمثابة نقاط وصل بين مراحل الكاتب وعتبات مشروعه الكتابي الذي يتكون جزءا بعد آخر. 

حواس

  • في رواية "دائرة التوابل" نغوص في أهمية الحواس تحديدا حاسة الشم، هل تستشعرين العالم من خلال الحواس، وهل هناك حاسة بعينها تخلف ثقلا عليك؟

أشعر بأنني أستشعر العالم من خلال حدسي، وهو الذي يصيب أحيانا ويخفق في أحيان أخرى، وبالطبع لو تأملنا ذلك ضمنا، فإن ما يشعل الحدس في داخلنا هو الحواس، والجانب الما ورائي لها، ما تحمله الرائحة من دلالات أبعد من الوصف المجرد أو النظرة من إحالات أو الصوت من ذاكرة وغيرها. فبعض الإشارات أعمق من غيرها، فيزيد من وقع الحواس ويكون بعضها مربكا ومضللا فنخفق في فهمه مما يورثنا الثقل.

  • أيضا في "دائرة التوابل" تطرحين سؤال الموت، هل هو واحد من بين أسئلة كثيرة تشغلك أم أنَه سؤال ذو خصوصية لديك؟

نعم هو جزء من أسئلة تشغلني كما تشغلنا جميعا عن الما بعد ومحاولاتنا المستمرة لتفكيك فكرة العدم، يختار كل منا أن يكون لها شكل ما، أغنية، قصيدة، قصة، رواية، لوحة أو رقصة وإلى آخر أشكال التعبير الممكنة. هذا السؤال العام بقدر عموميته فإنه متى ما انتقل إلى سياق التجربة الفردية أصبح شديد الخصوصية والحميمية، من هنا نخوض جميعا تجربة الموت المحيط، وهذا ما حصل معي من خلال تجربة شخصية مع مرض والدتي، ومن هنا جاءت محاولات كثيرة للتعامل مع هذا الطارئ المربك. كتبت بشكل مجرد حول الأمر وجربت أشياء كثيرة أخرى من أشكال التعبير حتى جاءت "دائرة التوابل"، لكن الدائرة لا تطرح فقط قضية الموت والعدم وهو ما لا أريد للمتلقي أن يقصر نظرته فيه، فهذا تأويل واحد ضمن تأويلات أخرى قد يتعاطى معها المتلقي متنقلا بين الشخوص، وهو مرتبط أيضا بمراحل كتابتي للعمل.

 في دبي أيضا سؤال يومي عن الهوية: من أنت في وسط هذه الجموع

  • تقولين في تصريحات سابقة إن "قيود الكاتبة الإماراتية ذاتية وليست اجتماعية"، هل فعلا تخلى المجتمع عن جميع أقفاله وفتح أبوابه لأنواع القضايا كافة على جميع مستويات النقاش؟

 ما عنيته من ذلك مختلف نسبيا عن الطريقة التي يبدو بها. هناك قيود اجتماعية لا تزال قائمة، وتتفاوت نسبتها بين مكان وآخر، لكن المفارقة تتعلق بالكاتبة الإماراتية خاصة، وقد لا أستثني نفسي أحيانا كي لا أقع في فخ التنظير، ففي سنوات الاتحاد الأولى كانت نصوص المرأة، على الرغم من أن المجتمع كان أقل انفتاحا، أجرأ في طرح أسئلة المرأة الملحة، وهذا ما تناولته تفصيليا في ورقة ناقشتها مسبقا بعنوان "بين غرفة فيرجينا وبرقع سلمى"، وتوقفت عند مفارقة تراجع تلك الجرأة مع انفتاح المجتمع أكثر. هناك حقوق حصلت عليها المرأة بالطبع لم تكن قائمة ربما في ثمانينات أو بداية تسعينات القرن الماضي، لكن هل هذا يعني أن أسئلة المرأة المبدعة قد انتهت؟ وهل القيود الذاتية هي السبب وما تشكل في لا وعي كل كاتبة منا تعيش في مجتمعات عربية اليوم؟ 

  • ولدت ودرست في الشارقة وحاليا تقيمين في دبي، هناك كُثر يعتقدون أن السمة العامة لمدن الإمارات تجارية استهلاكية، هل هناك جوانب غير مرئية في المسألة؟

 الطابع التجاري والاستهلاكي هو طابع جميع المدن الكبرى حول العالم، وهو أمر يدركه من يتنقل كثيرا بين تلك المدن بعين فاحصة مجردة من الأحكام المسبقة وما مر عليه نظريا في الكتب، ومسألة ذوبان الهويات العالمية أمر يرصده ويحاول تفكيكه كثر من علماء الاجتماع اليوم. الأمر يتفاوت فقط بين مكان وآخر لكنه الدرب نفسه. الإمارات بمدنها الكبرى كدبي مثلا، ليست استثناء من ذلك، أما عن الخصوصية، فإن الشارقة تبقى دائما مرتبطة بتشكل جزء من وعيي الأول، إلى جانب القاهرة، كونهما تقاطعتا في طفولتي، وهاتان المدينتان تكادان تقفان على طرفي نقيض في كل شيء، والأمر الذي جعلني أقدر أكثر في طفولتي الإيقاع الهادئ المتأمل للحياة، وهذا ما جعل شخصيتي هادئة غير ميالة للصراخ على مستوى الوعي والتعبير.

دبي على المستوى الآخر، مدينة الاحتمالات، بمعناها الواسع، وبحدتها وصخبها وقوتها والنقيض أيضا، حيث لا يمكنك التنبوء. هي تدريب يومي ومتواصل على فكرة أنه من السذاجة أن تظن أن هناك شيئا يبقى على حاله. في دبي أيضا سؤال يومي عن الهوية: من أنت في وسط هذه الجموع وهل الهوية هي الراسخ أم المتحول الذي يستجمع ويتجدد فلا يموت؟

font change

مقالات ذات صلة