حرب غزة تُفسد على الفلسطينيين فرحتهم برمضان

اختفت معالم البهجة من وجوه الجميع

سالم الريس/المجلة
سالم الريس/المجلة
كانت أسواق غزة الشعبية تعج بروادها لشراء مستلزماتهم واحتياجاتهم في رمضان قبل الحرب

حرب غزة تُفسد على الفلسطينيين فرحتهم برمضان

في مثل هذه الأيام من كل عام، كانت أسواق غزة الشعبية تعج بروادها لشراء مستلزماتهم واحتياجاتهم، استعدادا لاستقبال شهر رمضان المبارك. كان البائعون يعرضون الفوانيس وحبال الزينة المضيئة والمُلونة. ويعرض آخرون التُمور وقمر الدين والمخللات والمكسرات والبهارات والخضراوات واللحوم والعصائر بكافة أنواعها.

وكانت الشوارع تُزين بالفوانيس من مختلف الأحجام والأشكال، والناس تزين منازلها من الداخل والخارج بالإضاءات المُلونة. إلا أن هذا العام مُختلف عن كل الأعوام السابقة، فلا تتوفر البضائع، والمنازل دُمرت، فيما تشرد أو قُتل من كان يزينها بسبب الحرب الإسرائيلية التي دخلت في شهرها السادس على التوالي قبل أيام.

وعلى بوابة معبر رفح، بمحاذاة الحدود الجنوبية الشرقية لمدينة رفح الفلسطينية مع مصر، يُقيم مئات النازحين والنازحات خيامهم منذ أشهر مضت، يراقبون شاحنات المساعدات الإغاثية الإنسانية من مواد غذائية وطبية، والتي تدخل القطاع منذ أشهر، ويأملون في الحصول على حفنة منها. اختفت معالم البهجة من وجوه الأطفال، فيما صبغت الشمس أشعتها على وجوه النساء اللواتي يقضين أوقاتهن في الأعمال اليومية من غسل الملابس وتحضير الخبز على الحطب أمام خيامهن.

تقول سمية السرساوي (44 عاما)، وهي أم لتسعة أطفال، ونازحة من شرق مدينة غزة إلى جنوب شرقي رفح، أنها بالكاد تستطيع توفير بعض المُعلبات من الأطعمة والطحين لتقوم بإطعام أطفالها وجبة واحدة يوميا. وتضيف: "اليوم كان غدانا ثلاث علب من التونة، لم نشبع، لكن وجبة اليوم انتهت، واقترحت على أطفالي أكل المزيد من الخبز فقط حتى الوصول إلى مرحلة الشبع".

تستهجن سيدة غزية السؤال عن التحضيرات لشهر رمضان: "عن أي تحضيرات وأي شهر رمضان بتحكي؟!"

تشكو السيدة من عدم توفر أي نقود لشراء الحد الأدنى من مستلزماتهم واحتياجاتهم، وتستهجن السؤال عن التحضيرات لشهر رمضان: "عن أي تحضيرات وأي شهر رمضان بتحكي؟!". تقاطعني هكذا قبل أن أوضح أو أضيف كلمة أخرى على سؤالي، فيما تقلبت ملامح وجهها بين الغضب والحسرة، وهو ما تكشف بالفعل في نبرة صوتها الهجومية بالتعبير: "احنا هنا لا حد حاسس فينا، ولا حد مهتم إذا عايشين أو مش عايشين، إذا ولادنا قادرين نطعميهم ولا بنيمهم جوعانين".

في السنوات الماضية، اعتاد زوج السرساوي- الذي لم يخرج من مدينة غزة، ولا تعلم زوجته عن حاله إذا كان حيا أم ميتا- على شراء فوانيس رمضان، وأسلاك الزينة المُضيئة، تقول إنه كان ينسجها على شبابيك المنزل ويضيئها ليلا ليتفاعل أطفاله فرحا وبهجة، إلا أنهم هذا العام يفتقدون وجوده ومنزلهم وحياتهم بأكملها: "أنا بس بتمنى نرجع لبيتنا، نعرف مصير زوجي ونرجع نلتم وبعدين بنفكر برمضان".

سالم الريس/المجلة
لا توجد نقود لدى غالبية النازحين لشراء الحد الأدنى من مستلزمات واحتياجات رمضان

لم تكن السرساوي الوحيدة التي عبرت عن حزنها وغضبها، بل اتفقت معها جاراتها في مخيم النزوح بغضبهم والتعبير عنه بسبب استمرار الحرب الإسرائيلية وعمليات القتل والدمار، التي طالت معظم مُدن ومخيمات وأحياء قطاع غزة خلال أكثر من 150 يوما من الحرب والاجتياح البري العسكري، والتي راح ضحيتها أكثر من 30 ألف فلسطيني غزي بحسب ما تُعلن وزارة الصحة بغزة، إلى جانب إعلانها عن أكثر من 10 آلاف مفقود آخرين وآلاف الجرحى والمصابين.

تجولت بين مخيمات النزوح التي تكسو غالبية مناطق مدينة رفح أقصى جنوبي قطاع غزة، باحثا عن أي معالم أو ملامح لشهر رمضان. صادفت خلال الطريق، وبالتحديد وسط مدينة رفح، بائعا يعرض بعض الفوانيس الصغيرة وبعض أسلاك الزينة الورقية الملونة، لكن أسعارها كانت باهظة ولا يقوى على شرائها رواد السوق من النازحين الفاقدين لأعمالهم ومصادر الدخل.

اقترح أحد الغزيين على صديقه شراء فانوس لحفيدته، فاستهجن طلبه وقال له: "يا زلمة امشِ، احنا لاقيين ناكل؟"

تابعت وجوه المارة ونظراتهم وأحيانا سؤالهم عن أسعار الفوانيس، أكثرهم كانوا ينظرون دون سؤال ويكملون طريقهم، وبعضهم يسأل عن الأسعار ولا يشتري، حتى سمعت حديثا بين رجلين، اقترح أحدهما على الآخر شراء فانوس لحفيدته، ليستهجن الآخر طلبه ويقول له: "يا زلمة امشِ، احنا لاقيين ناكل؟".

أوقفت الرجلين وتحدثت إليهما، ولم يبديا في البداية أي اهتمام بالحديث معي، حتى إنهما رفضا التعريف عن نفسيهما، واكتفى الجد فيما بعد بالتعريف عن نفسه بـ"أبو إبراهيم" وهو في الخمسينات من عمره، ونازح من جنوب مدينة غزة، إلى جنوب رفح، ليقول: "يا عمي احنا ناس على باب الله، كنا بنشتغل في دهان المنازل، والحمد لله اليوم لا في منازل ولا حد محتاج دهان، تشردنا ولا لاقين مصدر دخل نصرف منه على أسرنا ولا لاقين بيت يؤوينا، وما زالت الحرب بتلاحقنا".

كان الجد في سنوات سابقة، يتجول في الأسواق لشراء بعض المستلزمات والتحضيرات الرمضانية كما يقول، وكان يُصر على شراء الفوانيس لأحفاده الـ7 لإدخال البهجة على نفوسهم وعلى منزلهم: "يا عمي هدول أحباب الله، تعبت وشقيت بحياتي ربيت ولادي وبناتي، واليوم بكون أسعد إنسان لما بسعد أحفادي وبشوفهم حولي، لكن اليوم احنا بلا حول ولا قوة"، يتابع: "بتفكر ما نفسي أشتريلهم فوانيس! لكن من وين؟ احنا يادوب قادرين نوفر الأكل وأغلبه من المساعدات".

رمضان بلا مظاهر

انتقلت بالتجول بين خيام النازحين في غرب مدينة رفح، علني أجد أي ملامح لقدوم شهر رمضان واستعداد النازحين لاستقباله، حتى صادفت واحدة من الخيام تعلق بعضا من أسلاك الزينة الورقية الملونة. خيط قصير علقته العائلة النازحة من شرق مدينة خانيونس إلى غرب رفح على باب الخيمة، معلقة عليه أوراق ملونة، وفانوس صُنع من الورق يدويا، وخيط آخر مُعلق داخل الخيمة بذات المواصفات والشكل.

تقول دينا العمور (32 عاما)، أنها كانت في السابق تشتري الفوانيس وبأحجام مختلفة، تعلقها داخل المنزل وعلى بابه الخارجي لتسعد طفلها الوحيد، ولكونها تحب أجواء رمضان وطقوسه، من احتفالات وابتهاجات، وتحضير أشهى المأكولات واجتماع العائلة على سفرة رمضان وسهراتهم بعدها. وتضيف: "هذا العام مختلف، فقدنا الكثير من الأقارب والأصدقاء والجيران، وفقدنا منزلنا الذي دمرته الحرب، ونحن اليوم في خيمة وظروف مادية سيئة".

لم تكن تفكر أو تنوي تحضير شيء حتى سألها طفلها الصغير ابن التسعة أعوام: "ما بدنا نشتري فوانيس يا ماما"، تقول إنها شعرت بأن طفلها يستحق الفرح على الرغم من كل الظروف التي يمرون بها، ويستحق أن تصنع شيئا من أجله، فكرت ماذا تفعل، وكيف تسعده بإمكانيات بسيطة حتى توصلت إلى شراء أوراق ملونة وصناعة فوانيس ورقية وتزين الخيمة بها "حسيت بفرحة كبيرة عند ابني واحنا بنعمل الفوانيس وبنعلقها، كان الموضوع صعبا بالنسبة لي لكن أعادني لأيام طفولتي عندما كنا نفعل ذلك أنا وأشقائي وشقيقاتي".

غابت الأجواء الاحتفالية برمضان بسبب الحرب وتبعاتها

تستعيد العمور ذاكرتها عندما كانوا يصنعون من معلبات الصفيح فوانيس وبداخلها الشموع، وكيف يخرجون إلى الشارع للعب مع من هُم في جيلهم من أبناء الجيران، وكيف كانت طفولتهم بسيطة إلا أنها كانت أكثر سعادة بين العائلة، وكيف تحولت هذا العام طفولة الأطفال إلى فقد وقتل وتشرد، وكيف سرقت الحرب بهجتهم.

تجمع حولي عدد من الأطفال النازحين أثناء حديثي مع العمور، سألتهم عن شراء الفوانيس وأسلاك الزينة المُلونة، ولم يكن أحد منهم قد اشتراها أو استعد لها، واحدة من الأطفال في عمر العشرة أعوام قالت: "يا عمو أنا بدي أصوم، لكن ما اشتريت فانونس عشان فقدت إخوتي اتنين، كنت بالعب معهم بالفوانيس وكيف بدي أشتري فانوس وألعب فيه لحالي من غيرهم".

وفي الوقت الذي يُمنع فيه الأطفال وأُسرهم من الاحتفال بشهر رمضان، وقضاء طقوسهم التي اعتادوا عليها خلال السنوات الماضية، تستمر الحرب الإسرائيلية، بسرقة ابتسامتهم وأحلامهم وآمالهم، كما سرقت أقاربهم وأحبابهم، وتحرمهم من ممارسة طقوسهم لتفرض عليهم طقوسا من نوع آخر يملؤها القتل والتشرد والنزوح من مكان لآخر وفقا لتعليمات الجيش الإسرائيلي.

font change

مقالات ذات صلة