صراع سرديات؟

صراع سرديات؟

المثقفون الفلسطينيون، ومثلهم كثر من المثقفين العرب، مربكون. كلمة "إرباك" تعبير مخفّف عما يعتمل في داخل أروقة السياسة والثقافة والإعلام العربية، منذ اندلاع "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. بعضهم يسعى جاهدا ليوازن بين موقفه الرافض لـ "حماس" وأيديولوجيتها وخلفيتها وداعميها، وبين موقفه المناصر "بالفطرة" للقضية الفلسطينية، والذي رأى منذ البداية تجليات حرب إبادة في الردّ الإسرائيلي، ثم رأى حرب الإبادة هذه تتحول واقعا، دون أن يتمكن من فعل شيء لوقفها. الكلمات لها ميزان دقيق في هذا الصراع. ميزان تأسّس عبر سنوات طويلة من الصراع مع إسرائيل، وفي قلبه صراع السرديات، وأيضا عبر سنوات من الفشل الفلسطيني والإسرائيلي والعربي والدولي في الوصول إلى حلّ "عادل وشامل" للقضية الفلسطينية، كما للكثير من القضايا العربية (سوريا، اليمن، ليبيا)، وهو الفشل الذي يتحمّل جزءا كبيرا من ولادة تنظيمات مسلحة تدين بالولاء إلى إيران ونموها.

وعلى الرغم من صدمة الفلسطينيين والعرب، من الانحياز الغربي (الأميركي والأوروبي) الفاضح لإسرائيل، بمن في ذلك مثقفون وفنانون ومؤسسات إعلامية كبرى، فإن ردّة الفعل المصدومة هذه، مثيرة للاستغراب. هل هذا الانحياز كان مفاجئا حقا؟ لقد تعلمنا من جولات الصراع السابقة أن هناك ديناميكية شبه ثابتة ترافق الحدث (الحرب، الحملات العسكرية)، تبدأ بإدانة الطرف العربي، أيا يكن، وتنتقل، تحت وطأة المذابح وانسداد أفق الحرب نفسها وعجز إسرائيل عن الحسم، إلى الدعوات إلى تجنب إراقة دماء المدنيين، ثم تنتهي بتسوية وخطوط حمراء جديدة ترسم فوق الركام وفوق أجساد من سقطوا. هذه المرة نحن أمام جبل من تلك الأجساد، والجبل ما زال يرتفع في كل دقيقة وكل ساعة.

المختلف في الحرب الأخيرة، هو ولادة سردية تبدو جديدة، تنظر إلى إسرائيل بوصفها ضحية لحفنة من القتلة والإرهابيين، هم الفلسطينيون بكلّ أطيافهم


لا جديد في السردية الإسرائيلية، ولا جديد في السردية الفلسطينية، ولن يتبدّل أيّ من السرديتين في المدى المنظور. غير أن المختلف في الحرب الأخيرة، هو ولادة أو بالأحرى تبلور سردية تبدو جديدة، تنظر إلى إسرائيل بوصفها ضحية لحفنة من القتلة والإرهابيين، هم الفلسطينيون بكلّ أطيافهم، الذين تنبغي إبادتهم عن بكرة أبيهم. لكننا ننسى في خضم صدمتنا هذه، أن هذه السردية لطالما كانت المهيمنة على مواقف الولايات المتحدة الأميركية والغرب. ألم تكن إسرائيل منذ البداية "واحة الديمقراطية" في منطقة محاطة بالأنظمة الشمولية؟ ألم تكن محاصرة دوما بشعوب تريد رميها في البحر؟ أوليست إسرائيل وليدة عصر التنوير الغربي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية، مثال طائر الفينيق الذي نهض من رماد الهولوكوست؟ أحد أعضاء الكونغرس لم يملك قبل أيام، ردا على اتهام إسرائيل بالإبادة، سوى القول "يحق لإسرائيل أن تفعل ما تشاء"، وهو كلام كرره كثر غيره، ولا يعكس في جوهره انحيازا سياسيا فحسب، بل شعورا غامرا بأن إسرائيل دائما على حق، أو ينبغي أن تكون دائما على حق.

كلّ ما يتعلق بالسردية الإسرائيلية مغر وجذاب للغرب، بما في ذلك لكثير من مثقفيه. صحيح أن حجم المأساة، والمدى الغير مسبوق للقتل والتنكيل الإسرائيليين بحق الفلسطينيين، أثارا بعض التحفظ الأميركي والأوروبي، ودفعا إلى "مناشدات" متكررة للقاتل بأن يمارس قدرا أقل من القتل، وللمحاصِر بأن يحاصر بطريقة أقل وحشية، فإن مثل هذه المواقف لم يصل إلى حدّه العقلاني ولا إلى خلاصاته المنطقية، ولو على مستوى الخطاب فحسب.

الاحتلال لم يكن يوما احتلالا واضحا وصريحا في هذه السردية، على الرغم من القرارات الدولية، والخطابات والمواقف الرسمية من حين لآخر. جوهر المسألة يبقى أن هناك "صراعا عربيا إسرائيليا"، تطوّر بمرور الزمن إلى "صراع فلسطيني إسرائيلي"، أما واقعة الاحتلال وحقيقته، فهما ليسا استهلالا حقيقيا لأيّ نقاش أو موقف، وإن ورد ذكر الاحتلال عرضا في التفاصيل. وعلى الرغم من مرور أكثر من عشرين عاما على "المبادرة العربية" التي تحصر المسألة كلها بالاحتلال، وتعرض سلاما عربيا شاملا مع إسرائيل مقابل إنهاء الاحتلال، فقد أثبتت الأحداث أن هذه المبادرة ولدت ميتة، لأن ليس ثمة في إسرائيل ولا بين رعاتها الكثر من هو مستعدّ لمناقشة العرض نقاشا جديا، ما دام في الأصل يعيد المسألة إلى أصلها، أي الاحتلال.

هذه السردية لطالما كانت مهملة، إذ لطالما سعينا، في ما يخصّ الموقف من إسرائيل واحتلالها، إلى إقامة تمايز وهمي بين الموقف الأوروبي وحتى الروسي وذلك الأميركي. لا حاجة إلى الخوض في التحولات التي شهدتها وتشهدها أوروبا، بما في ذلك صعود اليمين المتطرّف في أكثر من دولة أوروبية، وانهيار نظريات "التعددية الثقافية" و"الاندماج"، التي لطالما نادت بها تلك الدول، للتذكير بأن دولا أوروبية وازنة مثل فرنسا وألمانيا لطالما كانت داعمة على أرض الواقع لإسرائيل، وإن كانت تبدي من حين لآخر توقا إلى الإسرائيلي الأكثر ديمقراطية من الطبقة السياسية التي باتت اليوم تحكم قبضتها على حكومة الاحتلال. إلا أن المبدأ الأساسي يبقى ذاته. إسرائيل بالنسبة إلى أميركا والغرب ليست دولة احتلال. إسرائيل دولة احتلال بالقوة أو بالإكراه، فهي دولة في حالة حرب دائمة، بدأت مع محيطها العربي، وباتت اليوم محصورة – بحسب هذه النظرة – بالفلسطيني، بل أكثر من ذلك محصورة بالتنظيمات الإسلامية مثل "حماس" و"الجهاد الإسلامي" و"حزب الله" و"أنصار الله".

هذه الوقائع كلها لا وزن لها ولا قيمة، ما دام من ينظر إلى المسألة لا يرى احتلالا وأرضا محتلة وشعبا يريد حرية ودولة وحياة كريمة

العربي الجيد بالنسبة إلى هذه السردية، هو ذلك الذي ينادي دوما بالسلام، مهما بدا بعيدا ومستحيلا وغير واقعي، ومهما كذّب الواقع إمكانية تحقيقه ومهما أعلن الإسرائيلي رفضه له ولما يفرضه من "تنازلات". فالخطاب هو المهم، والأهم أن يظلّ هذا الخطاب متماهيا مع السردية الأميركية الغربية التي ترى أن السلام يصبح ممكنا فقط حين تشعر إسرائيل أن الظروف باتت ناضجة ومؤاتية لتحقيقه، وعليه فلنمنح إسرائيل تلك الطمأنينة عبر اتفاقات سلام جانبية مع كل دول المنطقة ما عدا مع عدوها الوحيد والأقرب. عدا ذلك، ليس مهمّا حجم التوسع الاستيطاني، ولا مهمّا عدد المعتقلين الإداريين (على فرضية أن المحكومين من الفلسطينيين خضعوا بالفعل لمحاكمات عادلة)، ولا مهمة جدران العزل، ولا الحواجز ونقاط التفتيش، ولا القتل اليومي بمجرد الاشتباه أو دون اشتباه حتى. هذه الوقائع كلها لا وزن لها ولا قيمة، ما دام من ينظر إلى المسألة لا يرى احتلالا وأرضا محتلة وشعبا يريد حرية ودولة وحياة كريمة، بل ينظر إلى المسألة بوصفها "صراعا" بين طرفين، بل إنه يتبنى في العمق ثنائية "ثقافة الحياة" و"ثقافة الموت".

الصراع الحقيقي اليوم هو حول هذه السردية التي أثبتت عقمها. ليس هناك في حقيقة الأمر سرديتين، فلسطينية وأخرى إسرائيلية، متساويتين في حججهما ومسوغاتهما، ولا يفترض أن يبقى الأمر كذلك بعد المذبحة التي ارتكبت ولا تزال في غزة. ذلك أن وقف هذا التيار الإسرائيلي اليميني الجامح، الذي يزداد  تعنتا وتصلبا في مواقفه، يتطلب من العالم بأسره تغليب الحقيقة والقانون الدولي والإنساني والمنطق العقلاني، على السرديات و"السياقات" والدعاية السياسية والحروب النفسية، تلك الحقيقة التي تقول إن هناك احتلالا إسرائيليا، وما دام العالم ينكر هذه الحقيقة، ولا يفعل شيئا فعليا حيالها، ولا يعترف فعليا بوجود الشعب الفلسطيني، فسنظلّ ندور في الحلقة المفرغة نفسها، وفي دوامة عنف ستظل تتسع وتمتد من رقعة إلى رقعة، ومن جيل إلى آخر.

font change