مآلات التوتر الفرنسي- الروسي على خلفية الحرب الأوكرانية

المزيد من انخراط "الناتو" في القتال ليس على جدول الأعمال حاليا

(أ. ف. ب)
(أ. ف. ب)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أثناء مؤتمرهما الصحافي في موسكو في السابع من فبراير 2022 قبل أيام من اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية

مآلات التوتر الفرنسي- الروسي على خلفية الحرب الأوكرانية

تفاقم في الأسابيع الأخيرة الجدل بشأن الاقتراح الذي طرحه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن احتمال إرسال قوات أوروبية وغربية إلى أوكرانيا والذي اكتسى أبعادا جديدة بعد العملية الإرهابية التي وقعت في موسكو. ورغم عدم تبني الاقتراح أوروبيا وأميركيا، فسرعان ما واجهت موسكو هذه الفرضية بالتحذير من حتمية المواجهة بين حلف شمال الأطلسي وروسيا.

وفيما يتعدى المبارزات اللفظية واستعراض العضلات ومجريات الحرب الأوكرانية مع بدايات سنتها الثالثة، يتضح أن المزيد من انخراط "الناتو" في القتال ليس على جدول الأعمال حاليا وأن مواقف ماكرون الأخيرة لن تترجم تصعيدا ميدانيا على المدى القصير، بل يرتبط الوضع بالكثير من العوامل بانتظار نتيجة الانتخابات الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني القادم، والتي ستكون تقريرية حول تغليب استمرار الحرب أو انطلاق ماراثون المفاوضات.

ومما لا شك فيه أن طلب سيد الإليزيه التوصل إلى هدنة في الحرب الأوكرانية خلال الألعاب الأولمبية في باريس الصيف المقبل، وطرح " القيصر الجديد" عن ضرورة "عدم تسبب فرنسا بتفاقم الصراع في أوكرانيا بل المساهمة في حل سلمي"، يشيان بأن إعادة التواصل الدبلوماسي ممكنة بين موسكو وباريس، وربما أن أقصى ما يطمح له ماكرون هو الوجود على طاولة المفاوضات ولعب دور أوروبي ريادي. ولهذا لا يمكن فصل مآلات التوتر الروسي- الفرنسي عن اختبار القوة الروسي- الغربي.

العلاقات الفرنسية- الروسية المتأرجحة والمضطربة

تغيرت أوضاع العالم وأوروبا بين حقبة الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك (1995-2007) وحقبة الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون التي بدأت عام 2017. وقد توالى أربعة رؤساء فرنسيين منذ تمركز الرئيس فلاديمير بوتين في الكرملين بداية الألفية الثالثة، لكن الصلات مع بوتين ليست صالحة وحدها من أجل مقاربة تطور صلات باريس وموسكو ما بعد الحرب العالمية الثانية، إذ إن البعد التاريخي يوجب التطرق للرئيسين جوزيف ستالين وشارل ديغول. حيث دافع الأول عن حفظ موقع فرنسا بين الكبار، بينما كان الثاني يؤمن بأوروبا "الممتدة من المحيط الأطلسي إلى جبال الأورال" وبأهمية العلاقة مع روسيا في عز الحرب الباردة.

وهذه العلاقة التي لم تهتز كثيرا قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، عادت لتتوثق في مرحلة جاك شيراك الذي كان يتحدث اللغة الروسية ودلل على ذلك الموقف المشترك الروسي- الألماني- الفرنسي ضد حرب العراق عام 2003، ومشاركة فلاديمير بوتين في مأتم الرئيس الفرنسي الأسبق وكان حينها الرئيس الأجنبي الوحيد.

مواقف ماكرون الأخيرة لن تترجم تصعيدا ميدانيا على المدى القصير، بل يرتبط الوضع بعدد من العوامل بانتظار نتيجة الانتخابات الأميركية القادمة

ورغم أن البدايات كانت معقدة بعض الشيء بين نيكولا ساركوزي وفلاديمير بوتين، فإن الصلات تعززت خاصة بعد لعب الرئيس الفرنسي دورا أساسيا في احتواء تداعيات النزاع الروسي مع جورجيا عام 2008. وخلال ولاية فرنسوا هولاند تدهورت العلاقات الثنائية بسبب ملفات خارجية أبرزها الملف السوري وضم شبه جزيرة القرم.
وبدت الانطلاقة قوية مع أول قمة بين ماكرون وبوتين في قصر فرساي (2017)، لكن العلاقات سرعان ما أصبحت محكومة بتوازن القوى والبرغماتية، ودخلت منعطفا جديدا بعد فشل وساطة ماكرون عشية الاجتياح الروسي لأوكرانيا.

اندفاعة بوتين وتحولات ماكرون 

بعد دخول الحرب الأوكرانية سنتها الثالثة وإعادة انتخاب فلاديمير بوتين رئيسا للاتحاد الروسي، حافظ "القيصر الجديد" على زخم اندفاعه منذ بدء العمليات العسكرية في 24 فبراير/شباط 2022. في المقابل، تحول  تموضع إيمانويل ماكرون خلال عامين من موقف وسيط  عند اندلاع النزاع إلى موقف متشدد في الآونة الأخيرة إلى درجة عدم استبعاد إرسال قوات غربية إلى الأراضي الأوكرانية. يمكن تفسير هذا التبدل نتيجة الوضع الميداني بعد فشل الهجوم الأوكراني المضاد في النصف الثاني من 2023. من ناحية التوقيت، جاءت  تصريحات ماكرون، أواخر فبراير الماضي، في غمرة مكاسب ميدانية للقوات الروسية في شرق أوكرانيا، فضلا عن تفاقم نقص الذخائر والأفراد على الجانب الأوكراني. 

(أ. ف. ب)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الروسي فلاديمير بوتين والمستشار الألماني ولاف شولتز

ويرجح أن عدة أحداث متزامنة حفزت ماكرون على تصعيد لهجته، وأبرزها: الوفاة المفاجئة للمعارض الروسي أليكسي نافالني في السجن، قبيل قمة ماكرون- زيلينسكي يوم 16 فبراير، والمخاوف من التهديد الروسي أوروبيا، والخشية من تراجع الالتزام الأميركي بدعم أوكرانيا. 
بالطبع، تتوجب إضافة العامل الداخلي الفرنسي والتوازنات الأوروبية من أجل فهم النقلة الماكرونية من التحذير من شرور الحرب إلى خوض حرب الكلمات. قبل ثلاثة أشهر من الانتخابات الأوروبية وتوقعات صعود اليمين المتطرف فيها، يسعى فريق الرئيس الفرنسي ليصبح الانقسام حول حرب أوكرانيا في قلب المعادلة الانتخابية عل ذلك يخفف من حصاد حزب "التجمع الوطني" (خليفة "الجبهة الوطنية" اليمينية المتطرفة) ويسمح ببعض التعويم لأنصار ماكرون. لكن اللعب على هذا الوتر لن يكون حكما لصالح ماكرون، إذ تشير الاستطلاعات إلى أن غالبية الفرنسيين ترفض حربا مع روسيا. 
كل هذه العوامل المؤثرة في تحول الرئيس الفرنسي من "حمامة سلام" في البدايات إلى "صقر"، لا تبدو كافية من دون الإحاطة بالطابع  الشخصي، إذ إن ماكرون يعتبر أن بوتين خدعه لأنه عندما ذهب إلى موسكو للقاء نظيره الروسي في شهر فبراير 2022، راهن على منع الحرب وإيجاد مخرج. لكن بعد أربعة أيام، بدأ بوتين "عمليته الخاصة" وذهبت الجهود الفرنسية سدى. 
وأوضح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في مقابلة حديثة له أن "بوتين أعطى كلمته لبعض القادة بأنه لن يكون هناك غزو واسع النطاق، قبل أيام قليلة" من اندلاع الحرب.

عوامل تحول الرئيس الفرنسي من "حمامة سلام" إلى "صقر" لا تبدو كافية دون الإحاطة بالطابع الشخصي، إذ يرى ماكرون أن بوتين خدعه

لكن هذه النكسة الدبلوماسية لم تمنع ماكرون من الحفاظ على خطاب متزن تجاه موسكو (على عكس جو بايدن وبوريس جونسون وغيرهما) ففي  التاسع من مايو/أيار 2022، قال في ستراسبورغ أمام البرلمان الأوروبي: "إننا لا ينبغي لنا أن نستسلم أبدا لإغراء الإذلال أو روح الانتقام" تجاه روسيا. وكرر في مقابلة مع الصحافة الإقليمية يوم 4 يونيو/حزيران: "يجب أن لا نهين روسيا حتى نتمكن في اليوم الذي يتوقف فيه القتال من بناء مخرج عبر القنوات الدبلوماسية".
ومع مرور الوقت واحتدام الحرب، جرى اتهام ماكرون بالسذاجة لأنه تأمل تغيير مسار بوتين. ويعتبر مصدر دبلوماسي فرنسي أن "تطرف بوتين هو الذي دفع إيمانويل ماكرون إلى أن يكون أكثر حزما". ولفهم تطور المواقف عندما قال إيمانويل ماكرون إنه لا ينبغي  إذلال روسيا، فقد كان يفكر على المدى الطويل. وفي ذلك الوقت، لم يكن من الواضح أن الحرب ستكون طويلة وصعبة إلى هذا الحد. ولا بد أنه فكر أيضا في معاهدة فرساي، الموقعة بين فرنسا وألمانيا عام 1919، والتي أثارت شعورا بالإهانة والإحباط في ألمانيا. لكن عندما استنتج ماكرون أن هذه الحرب مستمرة، وأن نظيره الروسي متشبث بالانتصار، أوقف اتصالاته الدورية معه.
وتبين على مدار الأشهر الماضية سقوط الخطوط الحمراء في أوكرانيا وإمكانية كسب روسيا النزاع، وهذه الخلاصة هي تماما على العكس من وجهة النظر الفرنسية القائلة إن "تحقيق انتصار ساحق لأحد الطرفين سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار"، أي إنه كان هناك تحبيذ لنصف انتصار يسمح بالتحرك إلى طاولة المفاوضات. لكن هذا الرهان كان صعب المنال إذ إن بوتين يصر على الذهاب بعيدا كي يطوع أوكرانيا، وكذلك يتمسك زيلينسكي المتمتع بدعم أميركي بموقفه حول استرجاع وحدة أراضي بلاده. وهذا مأزق في حلقة مفرغة وحرب استنزاف تدوران لصالح موسكو التي أخذت قواتها تقضم الأرض الأوكرانية باتجاه الغرب.

"الغموض الاستراتيجي" والخطاب الحربي 

إزاء المستجدات الأخيرة وصعود لهجة الخطاب الحربي الروسي خاصة لجهة التلويح باستخدام السلاح النووي، أخذ الخطاب الرسمي الفرنسي التصعيدي يترسخ تدريجيا. وجاءت نقطة التحول في السادس والعشرين من فبراير، في ختام مؤتمر بشأن أوكرانيا، ضم الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي السبع والعشرين في باريس، وعلى أثره صرح ماكرون: "في الديناميكيات، لا ينبغي استبعاد أي شيء. سنفعل كل ما هو ضروري لضمان عدم تمكن روسيا من الفوز في هذه الحرب"، مضيفا أنه "يفترض" وجود "غموض استراتيجي".

(أ. ف. ب)
عمال إنقاذ أوكرانيون في مكان سقوط صاروخ روسي في كييف في 25 مارس

وهذه العبارة عن غموض نوايا فرنسا والمعسكر الغربي لم تجد صداها المطلوب، لأن الإعلان عنها يحبطها ولا يفيد التلويح بها، خاصة مع التغريد المتفرد والعزلة الفرنسية  أوروبيا. وكان الأجدى إبراز وحدة الموقف الأوروبي في إطار ميزان القوى العالمي وهذا غير متيسر في ظل تبعية أوروبا للمظلة الاستراتيجية الأميركية وبناء قطب أوروبي جيوسياسي. 
والأدهى أن المستشار الألماني أولاف شولتز، والولايات المتحدة، وحلف شمال الأطلسي، نأوا بأنفسهم عن اقتراح ماكرون. ورغم تسجيل تصحيح أو تراجع  من جانب رئيس الوزراء الفرنسي ووزير القوات المسلحة، حافظ إيمانويل ماكرون على خطه وحذر من أنه "إذا فازت روسيا في هذه الحرب، ستنخفض مصداقية أوروبا إلى الصفر، وستتغير حياة الفرنسيين".
من جهته، هدد  الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالويل والثبور في حال إرسال قوات غربية إلى أوكرانيا، لكن ماكرون المرتدي فجأة لباس القائد الحربي رد التحدي بقوله: "روسيا ليست قوة كبرى بل قوة متوسطة بأسلحة نووية ويجب عدم الخوف من تهديدات روسيا". وفي الإطار نفسه يغمز بوتين من قناة ماكرون بجزمه أن "موقف فرنسا الجديد من الأزمة في أوكرانيا ينبع من الضغينة حيال النفوذ الروسي المتزايد في أفريقيا، لا سيما بسبب مجموعة فاغنر". ويندرج كل ذلك في سياق الاشتباك الدولي الذي يدور أيضا في القارة السمراء. 

في الديناميكيات، لا ينبغي استبعاد أي شيء. سنفعل كل ما هو ضروري لضمان عدم تمكن روسيا من الفوز في هذه الحرب

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

اعتبر كثير من المراقبين أن اقتراح ماكرون اتسم بالارتجال لأنه لم يتم تنسيقه مع حلفائه. والأرجح أنه أراد أن يبعث برسالة تصميم أوروبية إلى موسكو وتحذير مصحوب بالغموض، وأن يطمئن  كييف إزاء المنعطف الحرج خلال السنة الانتخابية الأميركية. 
لا تنكر أوساط دبلوماسية فرنسية معنية بالملف حصول "خطأ دبلوماسي" في طريقة إعلان الاقتراح وتوقيته. لكنها تنفي الارتجال لأن "خيار إرسال القوات كان مدروسا جيدا داخل هيئة الأركان العامة، حيث إن دور الجيش هو توقع كل الاحتمالات". وما يؤكد ذلك تلميح  إيمانويل ماكرون نفسه قبل خمسة أيام على إعلان اقتراحه عن "إمكان إرسال قوات فرنسية إلى أوديسا (ذات الموقع الاستراتيجي على البحر الأسود) إذا لزم الأمر". وما يقال علنا في باريس يحاول بعض الأوروبيين حجبه أو التمويه عليه وإنكار وجود خبراء أو مدربين غربيين في الميدان الأوكراني، ويدلل على ذلك تسريبات نسبت إلى ضباط ألمان وأدانتها روسيا. 
ختاما، سيبقى التوتر في نطاق المبارزة عن بُعد والتصعيد الكلامي. ولم تترك مبادرة ماكرون الصدى المطلوب. ومن سلبياتها زيادة الانقسام الفرنسي الداخلي حول حرب أوكرانيا وتبيان عزلة فرنسا أوروبيا وتراجع موقعها القيادي، ومنح ذريعة لروسيا من أجل المزيد من التشدد.

font change

مقالات ذات صلة