"الحريديم"... الرقم الصعب في إسرائيل

يهدد حاخامات بالتحريض على الهجرة الجماعية إذا فُرضت الخدمة العسكرية على اليهود المتشددين

أ.ف.ب
أ.ف.ب
مشيعون من اليهود الأرثوذكس المتشددين يتجمعون لحضور جنازة الحاخام "الحريدي" حاييم كانيفسكي بالقرب من تل أبيب

"الحريديم"... الرقم الصعب في إسرائيل

تظهر معطيات الجيش الإسرائيلي حاجة واضحة إلى المزيد من الجنود في أعقاب تطورات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تقدر بنحو سبعة آلاف جندي في مختلف الألوية والمواقع العسكرية. ويعد هذا المعطى ناقوس خطر في نظر شرائح واسعة من المجتمع الإسرائيلي بعد عقود من اعتبار "جيش الشعب" أقدس المؤسسات الإسرائيلية وأكثرها جمعا لمختلف أطياف الإسرائيليين.

وقد أعادت الحرب المستمرة إلى الواجهة مفهوم الخدمة العسكرية الإلزامية والتساوي في تقاسم الأعباء القومية، علما أنه لم يغب أبدا عن النقاشات العامة بين العلمانيين الذين يؤدون الخدمة العسكرية والمتدينين المتزمتين المعروفين بـ"الحريديم" الذين تكرس الأغلبية الساحقة من أبنائهم أوقاتهم لدراسة تعاليم التوراة بعيدا عن الجيش، خلال العقود الأخيرة. ولعل ما يزيد حدة هذا النقاش هو تزامن هذه الحرب التي كبدت إسرائيل خسائر كبيرة بين جنودها مع مداولات الائتلاف الحكومي في قانون التجنيد الذي يصطلح العلمانيون على تسميته "قانون إعفاء الشبان المتدينين" (الحريديم) من الخدمة العسكرية.

"الحريديم" يؤمنون بأن دراسة تعاليم الدين والتوراة هي مهنة تساوي أداء الخدمة العسكرية أو العمل ويجب التفرغ لها، بينما يسعى العلمانيون إلى فرض خدمة العلم على غالبية الإسرائيليين باستثناء طلاب المعاهد الدينية الذين يصلون إلى عمر الخدمة العسكرية وهم ما زالوا في تلك المعاهد.

يقول وزراء إسرائيليون إنهم ضاقوا ذرعا بما يصفونه باستغلال "الحريديم" لمؤسسات الدولة ومقدراتها

يهدد النقاش الدائر في حكومة بنيامين نتنياهو بشأن قانون تجنيد "الحريديم" أو قانون إعفائهم منه، استقرار الائتلاف الحكومي الذي بناه نتنياهو أواخر 2022 بالشراكة مع الأحزاب الدينية المتزمتة (الحريديت) وأحزاب الصهيونية الدينية المتطرفة. وأضاف إليه حزب بيني غانتس خلال الحرب ضمن مجلس إدارة الحرب. فبينما يحاول نتنياهو إيجاد صيغة ترضي حزبي "شاس"، و"يهدوت هتوراه" (ممثلي الحريديم) في رد الحكومة على الأمر الاحترازي الذي أصدرته المحكمة العليا الإسرائيلية أواخر فبراير/شباط الماضي بطلب إيضاح أسباب استمرار الحكومة بإعفاء طلبة المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية وتمويل تلك المعاهد على الرغم من انتهاء صلاحية القانون (يوليو/تموز 2023) الذي أجاز إعفاء شرائح واسعة منهم، يواجه معارضة وتحفظات كبيرة من جانب بيني غانتس رئيس هيئة الأركان الأسبق الذي يرى أن كل الصياغات التي يقترحها نتنياهو لا تخدم مبدأ تقاسم الأعباء الذي يدعو إليه إلى جانب أطياف المعارضة الإسرائيلية.

غير أن غانتس في تصريحاته مؤخرا أوحى أن بإمكانه البقاء في ائتلاف نتنياهو إلى حين استنفاد كل محاولات تشريع قانون تجنيد جديد ينصف أطياف المجتمع الإسرائيلي حتى نهاية الدورة الصيفية الحالية للكنيست في يونيو/حزيران المقبل.

لكن تصريحات غانتس هذه قد لا تعد ضمانا أساسيا لبقائه في الائتلاف، لأن ذلك سيكون منوطا أيضا باستمرار الحرب على غزة والمسارات التي يختارها نتنياهو لهذه الحرب وكل ما يتعلق بمفاوضات الهدنة وإعادة المحتجزين الإسرائيليين إلى جانب العلاقات المتأزمة بين نتنياهو والرئيس الأميركي جو بايدن والتي يرى فيها بعض الإسرائيليين ومن بينهم غانتس نفسه تهديدا للعلاقات الاستراتيجية بين واشنطن وتل أبيب.

ولا يعد غانتس العقبة الوحيدة التي يواجهها استقرار حكومة نتنياهو، إذ إن وزير الأمن الإسرائيلي عضو "حزب الليكود" الحاكم، يوآف غالانت، يعارض أي مسار أو مقترح قانوني جديد لا تتوافق عليه كل أطياف الحكومة بما فيها غانتس، فضلا عن أن وزراء آخرين ونوابا من "الليكود" يرفعون راية المساواة في الحقوق والواجبات ويقولون إنهم ضاقوا ذرعا بما يصفونه باستغلال "الحريديم" لمؤسسات الدولة ومقدراتها من دون الالتحاق بالخدمة العسكرية والمشاركة في "التضحيات".

تعد قضية تقاسم الأعباء في المجتمع الإسرائيلي من بين أكثر القضايا التي تثير التصدع والانقسام منذ إقامة إسرائيل

كما أن المستشارة القضائية للحكومة الإسرائيلية عبرت عن رفضها الدفاع أمام المحكمة العليا عن أي مقترح حكومي لفرض خدمة عسكرية على المتدينين من دون إيضاح طبيعة العقوبات التي ستفرض على المتخلفين عنها وتحديد أعداد الشبان "الحريديم" الذين تنوي السلطات تجنيدهم سنويا، وهو الأمر الذي تعارضه الأحزاب المتدينة.

نقاش شعبي وقضائي

تعد قضية تقاسم الأعباء في المجتمع الإسرائيلي من بين أكثر القضايا التي تثير التصدع والانقسام منذ إقامة إسرائيل، خاصة أن مسألة إعفاء طلاب المعاهد الدينية بدأت عام 1948 في الأشهر الأولى بعد النكبة بقرار من رئيس الحكومة وقائد الأركان آنذاك.

لكن الأرقام كانت مختلفة وشملت بضع مئات من الطلاب الذين وجدوا فعليا في المعاهد الدينية فيما اتجه سائر الشبان "الحريديم" لأداء الخدمة، واستمر هذا الوضع إلى أن تعاظمت قوة الأحزاب الممثلة لـ"الحريديم" لتضغط باتجاه قوانين زادت أعداد الذين لا تفرض عليهم الخدمة العسكرية وحولتهم إلى الأغلبية على الرغم من مواصلة النقاش الشعبي والقضائي في المسألة، وصولا إلى المرحلة الحالية التي يحتمل فيها تدخل المحكمة العليا لإلزام الحكومة بقانون واضح يحدد النسبة السنوية المتوقعة لـ"الحريديم" في الخدمة العسكرية.

أ.ف.ب
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتحدث مع عضو الكنيست آرييه درعي من "حزب شاس" الديني "الحريدي"

وليس بعيدا عن النقاش العام في القضية، تشهد أروقة اليهود المتزمتين نقاشا في مسألة التجنيد، حيث ترصد بدايات لتحول لدى المتدينين من أصول شرقية لضرورة أداء الخدمة العسكرية فيما على الأرض لا يزال الجيش الإسرائيلي يطمح لتجنيد خمسة آلاف من الشبان المتدينين في صفوفه سنويا لسد النقص القائم وتحقيق شكل من أشكال المساواة والتوازن الاجتماعي بينما أظهرت المعطيات أن 20 في المئة من هذا الرقم هو ما يجند فعليا.

أما القيادات الدينية والسياسية لـ"الحريديم" فهي أيضا تصدر مواقف متباينة، لكن معظمها يتجه نحو ضمان الإبقاء على الأموال الحكومية الممنوحة للمعاهد الدينية المختلفة وعدم فرض عقوبات عليها، إذ تبلغ تلك الأموال ثلث الموازنة العامة في بعض المعاهد، إلى جانب رفض تحديد أعداد الشبان المطلوبين للخدمة سنويا وهو الأمر الذي عبّر عنه عدد من الحاخامات المركزيين لدى المتزمين بالتلويح بالهجرة من إسرائيل إن فرضت الخدمة على "الحريديم".

يتوزع "الحريديم" في العالم على عدد من الدول وتشكل نسبتهم في إسرائيل نحو 14 في المئة من مجمل السكان

وأمام خليط المواقف هذا يحاول بنيامين نتنياهو إيجاد صيغ مقبولة على من يصفهم دائما بشركائه الطبيعيين في المعسكر الوطني (أحزاب اليمين و"الحريديم") من جانب، والمحكمة العليا التي تطالب بمسار واضح للتعامل مع المتدينين غير المجندين من جهة ثانية، فيما يبدو أن تحقيق التوازن أمام حزب غانتس لا يدرج أولوية أولى لدى نتنياهو في هذه المرحلة، خاصة أن الشراكة مع حزب غانتس مؤقتة لأهداف الحرب وقد لا تخدم نتنياهو لوقت طويل مع تصاعد شعبية غانتس في الشارع الإسرائيلي.

من هم "الحريديم"؟

يطلق مصطلح "الحريديم" على شرائح المجتمع اليهودي الأرثوذكسي الذي يتمسك بتعاليم التوراة نهجا لمختلف مناحي الحياة وينأى بنفسه عن سائر شرائح المجتمع الإسرائيلي من ناحية مواقع السكن والتعليم وأسلوب الحياة المتزمت البعيد عن تطورات العصر.

يتوزع "الحريديم" في العالم على عدد من الدول وتشكل نسبتهم في إسرائيل نحو 14 في المئة من مجمل السكان كما تتوقع الإحصاءات أن تتضاعف هذه النسبة مع حلول عام 2040 وذلك بسبب الزيادة الطبيعية العالية لهذه الفئة. كما يعيشون في أحياء خاصة بهم في مدينة القدس إلى جانب بعض المدن الكبرى. وتعيش مجموعات منهم في الولايات المتحدة (نيويورك ونيوجيرسي) وفي بلجيكا وبريطانيا فضلا عن دول أخرى بأعداد أقل.

ينفصل التعليم الحريدي عن منظومة التعليم الرسمية في إسرائيل ويدرس معظم أبناء المجتمع الحريدي في ما يعرف بالمعاهد الدينية "يشيفوت" التابعة للمذاهب الحريدية المختلفة والتي تفصل بين تعليم البنين والبنات.

أ.ف.ب
مشيعون يهود متشددون بالقرب من تل أبيب خلال جنازة الحاخام "الحريدي" حاييم كانيفسكي

ويقتصر التعليم في تلك المعاهد خاصة المعدة للبنين على تعاليم التوراة وبعض المواد الخاصة باللغة العبرية وأساس الجغرافيا وتاريخ إسرائيل، بينما لا تدرس اللغات أو الرياضيات وهو ما يعيق اندماج طلاب المعاهد في الجامعات والكليات وكذلك في سوق العمل. فيما تتسع رقعة المواد التعليمية في المعاهد المخصصة للبنات وهو ما يفسر بعض الإحصاءات التي تظهر اندماج السيدات في سوق العمل بنسبة أوسع من الرجال المتفرغين لدراسة التوراة.

يطغى على المفهوم العام لـ"الحريديم" أنهم معارضون للصهيونية

ينقسم المتدينون "الحريديم" في إسرائيل إلى عدد من الروافد أو المذاهب، لكن أبرزها وأكثرها تأثيرا في الساحة الإسرائيلية اثنان هما:

التيار الحريدي الأشكنازي أو ما يعرف بـ"الليطائي"، ويمثل اليهود المتدينين القادمين من دول أوروبية وينتمي سياسيا لحزب "يهدوت هتوراه" (أغودات يسرائيل وديغل هتوراه) الشريك في الائتلاف الحكومي.

التيار الحريدي السفرادي الذي يمثل اليهود المتدينين أبناء الشرائح الشرقية، وقد نما بشكل واضح بعد إنشاء إسرائيل وبات تيارا مركزيا يمثله سياسيا حزب "شاس" الذي يشارك أيضا في الائتلاف الحكومي الحالي في إسرائيل.

وإلى جانب هذين التيارين تبرز مجموعات "الحريديم الحسيديم" التي تنتشر في دول مختلفة إلى جانب "الطائفة الحريدية" المعارضة لإسرائيل والصهيونية وبين أبرز أطيافها حركة "ناطوري كارتا" المؤيدة للفلسطينيين.

يطغى على المفهوم العام لـ"الحريديم" أنهم معارضون للصهيونية. غير أن تلك المعارضة لها أوجه كثيرة وخاضعة لاختلافات التيارات المتدينة، وتعود إلى إنشاء الحركة الصهيونية أواخر القرن التاسع عشر كحركة علمانية أدت إلى انشقاق بين أطياف المجتمع اليهودي المحافظ في أوروبا انتهى بنشوء الصهيونية الدينية (متدينين قوميين) و"الحريديم" المتحفظين على فكرة الصهيونية أو المعارضين لها.

أما سياسيا فقد شاركت أحزاب المتزمتين في عدد كبير من الحكومات خلال العقود الأخيرة واعتبرت استثناءها من حكومة نتنياهو الثالثة عام 2013 والتي أسسها مع حزب يائير لابيد العلماني بمثابة كارثة ألمت بالمجتمع المتزمت. وتوجه جمهور تلك الأحزاب خاصة "شاس" الذي يمثل المتدينين من أصول شرقية وعربية نحو اليمين السياسي فيما لا تزال تلك الفئات متمسكة بالمعتقدات الدينية الأساسية والموانع خلافا للصهيونية الدينية، إذ يحرم حاخامات "الحريديم" وأتباعهم اقتحام الحرم القدسي الشريف لعدم وضوح حدود الهيكل.

font change

مقالات ذات صلة