ينتمي برلين إلى مجموعة من لاجئي الحرب الباردة، الليبيراليين المناهضين لأشكال السلطة الشمولية التي تؤدّي إلى انتهاكات استبدادية، وكقاعدة عامة، فضّل برلين التفكير في المجتمع الغربي باعتباره ثمرة لمشاريع فردية، لكنه كان يصر في الوقت ذاته، على أنه يجب علينا الذهاب إلى أبعد من الفردية، أي أن الحرية الفردية ليست المحطة الأخيرة، وأن النظرية السياسية الليبرالية عليها أن تعترف بحاجة البشر إلى الارتباط والأخوة والتضامن المجتمعي. لا يمكن فهم نقد برلين للفردية دون إرجاعه الى حياة برلين الشخصية، وارتباطه الشديد بالقومية اليهودية.
افتتن برلين بأفكار الفيلسوف الألماني يوهان غوتفريد هيردر (1803- 1744) عن "الأمة"، لوصف مجتمع معين بأكمله، لغته وثقافته وعاداته. صُنّفتْ أفكار هيردر بالرجعية والشعبوية. لم يستطع برلين إخفاء إعجابه بجواهر هيردر الشبيهة بجواهر سبينوزا الدينية: جوهر الأمة، جوهر اللغة، جوهر اليهودية. أشفق فيلسوف المجتمع المفتوح، كارل بوبر، على أشعيا برلين، وهو زميله في جامعة أكسفورد، من الذهاب في طريق الأصولية المظلم. فإذا كان أشعيا برلين كما يُروّج له في الغرب، عميد الليبرالية في فترة الحرب الباردة، فكيف تتم المصالحة والتوفيق بين ليبراليته القائمة على الحرية السلبية للأفراد، وبين مطالبته بالهويات ودفاعه عن قومية الانتماء؟
مفارقة
تنشأ المفارقة التي لم يحسب برلين لها حسابا، في أن إسرائيل تحت هوس الجوهر والنقاء والانتماء، تؤول أكثر فأكثر، إلى جزيرة منعزلة، لكنها ترفض أنبل صفات روبنسون كروزو، وهي معرفة الحاضر والمستقبل واكتشافهما. وقد بلغت العلاقة بين مفهوم برلين عن الحرية، ومفهومه عن القومية اليهودية، ذروتها في ما يمكن تسميته بـ"صهيونية الشتات"، وهي تُطلق على الأوروبيين اليهود، الرفيعي التعليم، الأغنياء، سواء أكانوا مثقفين، أم رجال أعمال، أم سياسيين، الذين يتهربون من الإقامة الدائمة في إسرائيل، لكنهم بحسّ الانتماء، يروّجون لها، ويدافعون عنها بما يتمتعون به من نفوذ ومكانة.
على سبيل المثل، أثناء عمل أشعيا برلين في السفارة البريطانية بواشنطن في 1943، زمن الحرب، ساهم في منع نشر إعلان بريطاني أميركي مشترك، عن مستقبل فلسطين، خوفا من أن يضر الإعلان بالمصالح الصهيونية. يتخبط برلين بين القومية والحاجة إلى الانتماء في محاضرة ألقاها عام 1975 بعنوان "إنجاز الصهيونية"، وهو يقول فيها "غالبا ما تعني القومية حالة مرضية تصيب الوعي الوطني الذي يصبح فجأة عدوانيا تجاه الآخرين، لكن في الحالة اليهودية، كل ما أعنيه هو إدراك المرء أنه يعيش في مجتمع يمتلك فيه روابط داخلية ليست أعلى ولا أدنى، لكنها ببساطة تختلف في بعض النواحي عن الروابط التي توحّد الأمم الأخرى".
يبدو أن برلين يؤمن بالفرق بين قوميتين الذي جاء به هانز كوهن في كتابه "عصر القومية"، وهي قومية عرقية شمولية في الشرق، وقومية ليبرالية مدنية في الغرب، لكنه يريد مع ذلك، إعفاء القومية اليهودية من عيوب القوميات الشرقية والغربية معا، فهي قومية تختلف عن قوميات الأمم الأخرى، بشيء يتعدّى السياسي والإنساني، شيء مميز لا يُردّ، يأتي من الإلهي مباشرة، اليهودية قومية مختارة دون القوميات جميعا. يصف برلين الوعي الوطني للقوميات الأخرى، بالوعي المرضي المحتقن. يمكن تفسير حاجة اليهودي إلى الانتماء، برغبته في زرع الهوية اليهودية داخل الإطار الليبرالي.
عرقيّ وطائفي
توليفة أشعيا برلين الغريبة، تعني أنه عرقي طائفي ملتزم، وليبرالي تعددي ملتزم، فهو سيسمح لروبنسون كروزو اليهودي، بإقامة مشروطة في جزيرة إسرائيل، والشرط هو معرفة اليهودي الكروزي بماضيه فقط، حتى يشعر بعاطفة الانتماء الجماعي، ويتشبّع بها، ثم يتطلع لاحقا، إذا أراد، بحرية تامة، وبذاكرة الماضي الثقيل، إلى الفردية بخفتها ومرحها، أي يتطلع إلى الحاضر والمستقبل.
من كلمات برلين في مقاله، "العبودية اليهودية وتحرر العبيد" عام 1951: "إن الصهيونية أورثت العالم نوعا جديدا من العمل الجماعي اليهودي الذي خدم في النهاية قضية ليبرالية أكبر". صهيونية ليبرالية؟ إذا استقام لنا، على سبيل المثل، القول بموناليزا ذات شاربين، وماركس بلا لحية، فليس هناك تناقض في تعاون الصهيونية مع الليبرالية. هل يبقى، بحسب الصهيونية، مَنْ هو خارج الجزيرة الإسرائيلية يهوديا؟ ارتبك برلين بين صهيونيته وليبراليته، وأجاب عن المعضلة، بأن لكل يهودي حرية الاختيار بين أن ينتمي إلى أمة يهودية، أو أن يندمج كفرد إنساني في أمم أخرى.
ارتبطتْ عائلة برلين في ريغا، لاتفيا، قبل الهجرة، بحركة "حباد" اليهودية الأرثوذكسية المتشددة، فنشأ برلين منذ نعومة أظفاره في جو ديني خانق، وثيق الصلة بجذور الأجداد، وحتى بعد تحرر برلين بسبب ثقافته من حَرْفية التدين وشكليته، بقي الالتزام العميق بكونه عضوا في عائلة كبرى، أو عشيرة، تختلف عن الآخر مهما بدا هذا الآخر منفتحا على تقبل العشيرة، وهذه هي حال أوروبا التي استقبلت المهاجرين اليهود. في زمن حرب غزة منتصف ديسمبر/كانون الأول 2023، انتشرتْ صور لجنود إسرائيليين في بلدة بيت حانون بغزة، يعلنون فيها تحويل مبنى إلى بيت لحركة "حباد"
