أميركا تدمر النظام الدولي... وليس غزة وحدها

حان الوقت للتصرف أو إعادة تقييم المؤسسات- والحكومات- التي تجعل القوانين الإنسانية الدولية عديمة الجدوى

لينا غاردات/المجلة
لينا غاردات/المجلة

أميركا تدمر النظام الدولي... وليس غزة وحدها

يشهد العالم كارثة إنسانية مدمرة تجتاح قطاع غزة، حيث انتشرت مقاطع فيديو مروعة تظهر آباء يحفرون بأيديهم العارية بحثا عن أطفالهم المدفونين تحت الأنقاض، وأطفالا يصرخون من شدة الألم وهم يخضعون لعمليات بتر مؤلمة دون تخدير، وشبانا بأجساد هزيلة من شدة الجوع، إضافة للكثير من الصور المؤلمة الأخرى... وكلها مشاهد لن تمحى من ذاكرتنا سريعا.

وفي حين أن بعض المعلقين- وخاصة في الولايات المتحدة وإسرائيل- سيدافعون عن هذه المذبحة باعتبارها رد فعل مبررا، وإن كان مؤسفا، على الهجمات التي نفذتها "حماس" في 7 أكتوبر/تشرين الأول والتي أسفرت عن مقتل 1200 إسرائيلي واحتجاز 250 رهينة، فإن القانون الدولي ينص على اعتبار العقوبات الجماعية جرائم حرب. وإذا كان النظام الدولي، الذي تدعي الولايات المتحدة أنها تؤيده وتدافع عنه، يهدف إلى تنظيم سلوك الدول من أجل حماية حقوق الإنسان الأساسية ومنع الحروب، فإن من الضروري أن تخضع جميع الدول للمساءلة عن أفعالها وأن تخضع للمعايير نفسها بموجب القانون.

في الواقع، تقع على عاتق الولايات المتحدة مسؤولية كبيرة في استخدام النظام الدولي ونفوذها للضغط على إسرائيل بهدف حملها على الاستجابة للمطالبات العالمية لإنهاء الحرب في غزة وحل الصراع الفلسطيني الأكبر.

ستحمل قضايا وحدة الأراضي أهمية قصوى في أي مناقشات حول الدولة الفلسطينية المستقبلية

وفي الوقت نفسه، لا يمكن فهم الأزمة الحالية دون النظر إلى السياق التاريخي، بما في ذلك احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية على مدى عقود من الزمن، وسيطرتها على حياة الفلسطينيين، والقمع الممنهج الذي عانى منه الشعب الفلسطيني لفترة طويلة. لا تميل السرديات الغربية السائدة إلى تجاهل هذا التاريخ فحسب، بل تتسم أيضا بعادة تقسيم قضية التحرير الفلسطيني إلى نزاعات منفصلة.

ومن خلال التعامل مع الحرب المتكررة على غزة بشكل منفصل عن المخاوف في الضفة الغربية والقدس الشرقية أو حتى اللاجئين الفلسطينيين خارج المناطق الذين حرموا من حقهم في العودة، فإن الروايات الغربية تقدم عمدا صورة مضللة للنزاع.

ليس ثمة شك حول حجم الدمار الذي أحدثته إسرائيل في غزة منذ أكتوبر 2023. غزة كما يقول خبراء الأمم المتحدة أصبحت غير صالحة للسكن، وهم يقدرون أن تعافي المنطقة سيكلف عشرات المليارات من الدولارات وسيستغرق أكثر من عقد من الزمن. ويبلغ عدد القتلى الحالي في غزة أكثر من 32 ألف فلسطيني، إضافة إلى آلاف المفقودين الذين ما زالوا مدفونين تحت الأنقاض، وأكثر من 74 ألف جريح، بما في ذلك عدد غير مسبوق من الأطفال ممن بترت أطرافهم. وبالإضافة إلى الوتيرة غير العادية للموت والدمار، تعرض الفلسطينيون في غزة أيضا لـ"أسرع تسارع لأزمة جوع على الإطلاق".

رويترز
بايدن ونتنياهو خلال لقائهما في تل أبيب في 18 أكتوبر

لا غرابة في أن تحظى الأزمة الإنسانية في غزة بهذا القدر الكبير من الاهتمام العالمي، نظرا لضخامة الفظائع المرتكبة فيها، ولكن، بينما يواجه الفلسطينيون في غزة هذه الكارثة، يستمر تعرض الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية للعنف والفصل العنصري والإذلال والقمع اليومي من دون أن يحصلوا على تغطية إعلامية كافية. ومع ذلك، لا يمكن الفصل بين هذين الأمرين، بل يتيعن ربطهما وفهمهما معا من أجل فهم المدى الكامل لمعاناة الفلسطينيين والقضية المركزية المتمثلة في إخضاعهم الممنهج من قبل إسرائيل.

وعندما تشير وسائل الإعلام الغربية الرئيسة إلى الفلسطينيين في غزة على أنهم "غزيون" بدلا من "فلسطينيين"، فإن هذا يعد محوا متعمدا لهويتهم الوطنية التي ترتبط ارتباطا وثيقا بكفاحهم من أجل تقرير المصير والحرية والمساواة. فالفصل بين الخلافات الفلسطينية في السرديات الغربية يساعد في خدمة الاستراتيجية الإسرائيلية لتقسيم الأرض والشعب الفلسطيني لتوسيع سيطرتها على هؤلاء الأشخاص والأراضي.

ستحمل قضايا وحدة الأراضيراضيأ أهمية قصوى في أي مناقشات حول الدولة الفلسطينية المستقبلية. ولكن، وتحت ستار الحرب على غزة، زادت إسرائيل من تعدياتها على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، مما يقلل من فرص إقامة دولة فلسطينية صالحة. ففي هذا الشهر فقط، أعلنت إسرائيل عن خطط لبناء 3500 وحدة سكنية غير قانونية أخرى في الضفة الغربية، إضافة لأكبر عملية مصادرة للأراضي منذ أكثر من ثلاثة عقود. كل هذا يجري بالرغم من المعارضة– اللفظية– من إدارة بايدن والتصريحات الواضحة من الأمم المتحدة التي تقول إن توسيع المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية يرقى إلى مستوى جريمة حرب.

بطبيعة الحال، ترزح الضفة الغربية تحت وطأة الاحتلال العسكري الإسرائيلي منذ عام 1967، وعلى مر العقود الطويلة، استمر الاحتلال في توسيع مستوطناته، الأمر الذي يعكس تاريخ الاحتلال الإسرائيلي الطويل والمتجذر، والذي لا علاقة له بهجمات "حماس" في السابع من أكتوبر. ففي واقع الأمر، سبق الاحتلال العسكري الإسرائيلي وجود "حماس" بعقدين من الزمن، وهذا هو السياق التاريخي الذي غالبا ما يغيب عن الروايات والتغطية الإعلامية الغربية.

وكانت مجموعة فلسطينية لحقوق الإنسان وصفت عام 2023، قبل وقوع أحداث 7 أكتوبر، بأنه "العام الأكثر دموية بالنسبة للأطفال الفلسطينيين". ومنذ 7 أكتوبر، ازداد الوضع في الضفة الغربية سوءا، حيث نفذت القوات الإسرائيلية "موجة وحشية من العنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، ونفذت عمليات قتل غير مشروعة، بما في ذلك استخدام القوة المميتة دون ضرورة أو بشكل مفرط أثناء الاحتجاجات، إضافة إلى مداهمات واعتقالات، وحرمان المصابين من الحصول على المساعدة الطبية"، بحسب منظمة العفو الدولية.

العفو الدولية: هناك بالفعل "أدلة دامغة على ارتكاب إسرائيل جرائم حرب"

لقد تصاعدت حدة عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية إلى مستويات خطيرة للغاية، مما دفع إدارة بايدن– التي حافظت على دعمها القوي لإسرائيل رغم حربها الوحشية على غزة، والاتهامات بالإبادة الجماعية والإدانة الدولية– إلى اتخاذ بعض الإجراءات القانونية، بما في ذلك فرض عقوبات على أربعة أفراد. في الواقع، فشلت الولايات المتحدة في معالجة جذور هذا العنف، التي تنشأ من الظروف التي خلقتها دولة إسرائيل والتي لا تزال تسمح بها.

كما فشلت إدارة بايدن في معالجة جرائم الفصل العنصري التي ترتكبها إسرائيل. وبدلا من تحميل إسرائيل المسؤولية، رفضت إدارة بايدن النتائج التي توصلت إليها "هيومان رايتس ووتش،" و"منظمة العفو الدولية"، و"بتسيلم،" وخبراء الأمم المتحدة، وحتى المسؤولون الإسرائيليون السابقون، والتي تقول إن تصرفات إسرائيل تشكل فصلا عنصريا في الضفة الغربية.

رويترز
وقفة احتجاجية أمام مقر رئاسة الوزراء البريطانية في لندن للمطالبة بوقف إطلاق النار في غزة

إن قائمة جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين- بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر، جرائم الحرب- طويلة جدا. ولمعالجة القضية الفلسطينية بشكل فعال، من الضروري اعتبار هذا العدد الهائل من القضايا جزءا من نظام القمع الممنهج المفروض عمدا على الفلسطينيين كجانب من جوانب سياسة الدولة الإسرائيلية.

لا تتعلق قضايا العدالة الفلسطينية بغزة، أو الحرب الحالية، أو عنف المستوطنين، أو الفصل العنصري، أو الاستيلاء على الأراضي، أو هدم المنازل، أو الحصار، أو احتجاز الأطفال أو أي اهتمام فردي آخر، بل تتعلق بمجمل هذه القضايا التي يجسدها الاحتلال نفسه.

ومع ذلك، فإن الحرب الحالية على غزة، والتي وصلت فيها تصرفات إسرائيل إلى أقصى درجات التطرف مع ارتكاب إبادة جماعية، يمكن أن توفر فرصة مهمة لحشد استجابة دولية جادة لممارسة الضغط على إسرائيل لحملها على تغيير سلوكها. ومع ذلك، يتطلب الأمر الحصول على دعم أميركي من أجل نجاح هذه الجهود.

هناك حاجة إلى ممارسة ضغط حقيقي

هناك الكثير من الأدلة تضاف إلى تقارير المؤسسات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان والخبراء وعمال الإغاثة التي تظهر بوضوح أن تصرفات إسرائيل في غزة هي أعمال إجرامية. وتُحاكَم إسرائيل حاليا بتهمة الإبادة الجماعية- وهي أفظع جريمة ضد الإنسانية- أمام أعلى محكمة في العالم، بعد أن رفضت محكمة العدل الدولية طلب إسرائيل بردّ القضية المرفوعة ضدها والتي رفعتها جنوب أفريقيا في يناير/كانون الثاني الماضي.

ووفقا لمنظمة العفو الدولية، توجد هناك بالفعل "أدلة دامغة على ارتكاب إسرائيل جرائم حرب" في أكتوبر. وأثار العدد الهائل من القتلى المدنيين والقيود الإسرائيلية المفروضة على الغذاء والمساعدات المسموح بدخولها إلى غزة تساؤلات متزايدة حول سلوك إسرائيل في هذه الحرب. إضافة إلى ذلك، نشر الجنود الإسرائيليون مقاطع فيديو على الإنترنت تظهر معتقلين فلسطينيين وهم يتعرضون للإذلال بعد تجريدهم من ملابسهم وعصب أعينهم. كما نُشرت مقاطع فيديو تظهر جنودا إسرائيليين وهم يدمرون الممتلكات ويهتفون ويسخرون من الفلسطينيين، إضافة لمقاطع فيديو أخرى تظهر تصرفات مثل أخذ الملابس الداخلية للنساء وحرق الطعام، بشكل متكرر على الإنترنت.

إذا كان النظام الدولي غير قادر على منع الإبادة الجماعية، فإن النظام الدولي ذاته فاشل

ويعتبر الفيديو المزعج الأخير الذي يعرض لقطات لطائرة إسرائيلية مسيرة تستهدف على ما يبدو أربعة مدنيين غير مسلحين، بالإضافة إلى أدلة أخرى مثل شريط فيديو نشر في شهر يناير/كانون الثاني يظهر هدما مخططا لجامعة في غزة، تعتبر أمثلة على جرائم الحرب المحتملة التي شاهدها الناس بسبب هذه المقاطع المنتشرة بكثرة. علاوة على ذلك، تشير الأدلة المتزايدة على أن إسرائيل تتعمد تجويع غزة والتسبب في مجاعة من صنع الإنسان.

وعلى الرغم من سيل الإدانات والتصريحات من المجتمع الدولي، وكذلك الأدلة من أرض الواقع، فقد رفضت إدارة بايدن اتخاذ أي إجراءات لوقف إسرائيل. بل على العكس من ذلك، استمرت الإدارة في تسليح إسرائيل وتمويلها وحمايتها دبلوماسيا. لكن الوحشية المطلقة والقائمة الطويلة من جرائم إسرائيل دفعت الولايات المتحدة والمجتمع الدولي إلى نقطة انعطاف.

تمتلك إدارة بايدن كثيرا من الأدوات تحت تصرفها للضغط على إسرائيل، ولكن يجب عليها أولا أن تعترف بأخطاء إسرائيل. ويمكن للولايات المتحدة ممارسة الضغط على إسرائيل من خلال السماح للأمم المتحدة بتنفيذ وظيفتها ودعم قرار وقف إطلاق النار الأخير، بالإضافة لوقف عمليات نقل الأسلحة والمساعدات العسكرية لإسرائيل التي تنتهك القوانين الأميركية. ولا تشمل هذه الخطوات الإجراءات العقابية التي يمكن للولايات المتحدة فرضها مثل العقوبات المستهدفة على إسرائيل. فكما فرضت الولايات المتحدة عقوبات دولية على دول تنتهك القانون الدولي، مثل روسيا، يمكن لها أن تأخذ زمام المبادرة وتفرض هذه العقوبات– الأكثر فعالية من العقوبات الأحادية– على إسرائيل لتوقف قتلها العشوائي للمدنيين وتسمح بدخول المساعدات اللازمة لإطعام سكان غزة الذين يعانون من الجوع.

تدعي إسرائيل أنها لا تشعر بأنها ملزمة بالقانون الدولي، ولهذا فإن على عاتق المجتمع الدولي أن يتخذ إجراءات ملموسة بدل الاكتفاء بالكلمات. وإذا رفضت الولايات المتحدة القيام بذلك، فيتعين على الهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة أن توجه اللوم إلى الولايات المتحدة أيضا.

وإذا كان النظام الدولي الحالي غير قادر على الاستجابة للمطالبات بمنع الإبادة الجماعية، والتي تدعمها واحدة من أعظم المدافعين عنه، فيتعين علينا أن نتقبل حقيقة مفادها أن النظام الدولي ذاته فاشل. ومهما حدث، فنحن في لحظة فاصلة. حان الوقت للتصرف أو إعادة تقييم المؤسسات– والحكومات– التي تجعل تصرفاتنا عديمة الجدوى.

font change

مقالات ذات صلة