رمضان في سوريا... أزمة اقتصادية تحوّل الناس صيدا سهلا لـ"الكاميرات الخيرية"

غياب المظاهر الاحتفالية في الشوارع والبيوت

Getty Images
Getty Images
عائلة سورية تكسر صيامها في منزلها المدمر في إدلب، سوريا، رمضان  2022

رمضان في سوريا... أزمة اقتصادية تحوّل الناس صيدا سهلا لـ"الكاميرات الخيرية"

وصل شهر رمضان إلى سوريا هذا العام كئيبا، فلم تتبقّ من الشهر الفضيل سوى ذاكرة الأجيال الماضية عنه، بعدما فقدت أدنى المعايير الاجتماعية والثقافية جراء سنوات الحرب والفقر الذي ترزح تحته الأُسر السورية. وإذ يعيش السوري على أمل خلاص البلاد من ظروفها الصعبة، فإن ما يتبقى له في شهر رمضان ذاكرة اجتماعية وثقافية لا يعرف إن كانت ستعود يوما.

قبل الحرب الدامية، كان لشهر رمضان في سوريا بعد جمالي خاص، يتحول الديني والروحي خلاله إلى مظهر جمالي. فسوريا إحدى أكثر الدول التي يحولها شهر رمضان إلى شكل ومظهر مختلفين، حيث تستحوذ الطقوس والشعائر الممتزجة بممارسات اجتماعية وفنية، على الفضاءين الخاص والعام. فتملأ أشكال الزينة المختلفة الشوارع، وتتردد أصوات صلاة التراويح وتلاوة القرآن الكريم لتنشر لحنا جديدا عبر الشوارع.

أما "السُكب" المتنقلة بين البيوت، فكانت تشكل بعدا اجتماعيا يجري خلاله تبادل الطعام بوصفه تبادلا لسحر خاص، ولقيمة الخير والبركة، فكل وجبة طعام هي زيارة عائلية لمائدة الآخرين. كانت ثقافة المائدة ترسم لغة رمضانية خاصة، وشكلا للتضامن يمارسه السوري كتعبير قيمي ورمزي وعائلي، وامتداد عاطفي حميمي. يتمتع السوري بمطبخ بالغ الثراء يجعل العائلات توزع أياما على أكثر من ستين صنفا، فثقافة المائدة تنمو خلال هذا الشهر بإبداع ملحوظ، وخيرات منطقة بلاد الشام والمتوسط تجعل للشهر الكريم تاريخا معادا، فنا واستذاقة وإبداعا وحميمية، وتحقق تبادلية أشبه برابط قرابة جديد بين الصائمين وغير الصائمين.

  كانت ثقافة المائدة ترسم لغة رمضانية خاصة، وشكلا للتضامن يمارسه السوري كتعبير قيمي ورمزي وعائلي

ينحسر الجمال في رمضان السوري الحالي، فالواقع الاقتصادي السيئ يقلص القدرة الجمالية التي كان يصنعها السوريون ويحتفون من خلالها، فتقتصر الصور واللافتات والزينة على بعض الأحياء، أما انقطاع الكهرباء لأكثر من عشرين ساعة في اليوم، فيمنع ثقافة البهجة الجمالية في الشوارع والأمكنة، فتختفي الرمزية الرمضانية الاجتماعية وتخفت طقوس الفرح المحببة لدى السوريين بتحويل الشهر الى لوحة من الصور والزينة ومظاهر الفرح في الفضاء العمومي. القلق والعوز يحولان الشهر الفضيل من حالة احتفالية إلى حالة من القلق، تحجب الوجه الاحتفالي في الشهر الكريم، وتمنع الكثير من العائلات من التعبير الخاص أو العام عن الاحتفال في الشهر، فما تُكلفه الزينة يتم توفيره لتأمين أدنى متطلبات العيش. 

 AFP
شاب يبيع المرطبات للإفطار في اليوم الأول من شهر رمضان، في مدينة الباب شمال سوريا في 11 مارس 2024

 تظهر أمام أعين السوريين دراسات اقتصادية مخيفة، أكثر من تسعين في المئة منهم يرزحون تحت خط الفقر وفق آخر تقرير للجنة الدولية للصليب الأحمر في تقريرها الرسمي الصادر نهاية عام 2023. تليه تصريحات حكومية أو من خبراء اقتصاديين، تُقدر تكلفة وجبة الإفطار لعائلة من ثلاثة أشخاص بنحو 15 دولارا، على الرغم من أن الراتب الشهري للموظف السوري لا يتجاوز العشرين دولارا.  بالتالي، فإن تأمين مائدة كل يوم بات هما ثقيلا على الأُسر السورية، ويصبح هذا الهم أكثر إيلاما في شهر رمضان، فيفقد الشهر الكريم أكثر الثقافات العائلية التي ترافقه، أي العناية بالطعام وتبادله، أما مشاركة الطعام مع العائلة والأصدقاء والجيران، فقد انحسرت اليوم، وبات كثير من الأهالي يغلقون أبوابهم بخجل ويكتفون بالوجبات المدروسة والقليلة، بعدما عاشوا أعواما طويلة وهم يطرقون أبواب بعضهم بعضا لتبادل الوجبات. مبدأ السكبة وتبادلها بين البيوت كان يمتد نحو المسيحيين أيضا، الذين كانوا يعدلون مواقيت تناولهم الطعام وفقا لانتظار السكبة من عند الجيران، أو الإفطار مع جيرانهم. في الأصل يعاني السوريون من أزمة اقتصادية كبرى، وأزمة غذائية، ودون شهر رمضان بالكاد تستطيع العائلة تأمين صنع وجبة طعام واحدة خلال اليوم.

ولا تتردّد قنوات الإعلام الرسمي السوري في عرض مقابلات مع مواطنين يشتكون صعوبة إعداد وجبات الفطور. في ظل الفقر الهائل للسوريين يبدو شهر رمضان ثقيلا، صيحات الجوع التي تتعالى في شهر رمضان تغير طبيعة الشهر وسماته المعتادة، كظاهرة ثقافية لتوكيد هوية الجماعة وثقافتها في صنع الجمال والتفاعل، فتحول الشهر إلى خوف داخلي، وانكفاء فردي واجتماعي عام عن أي ظاهرة احتفالية كانت ترافق الشهر الفضيل. حتى الموائد الجماعية للفقراء التي كانت تمتد بقرب الجوامع قد اختفت. بات الفعل الاجتماعي العام مستحيلا، وبعد ساعة الإفطار تخلو الشوارع، وتتوقف الحركة تماما، الوضع الاقتصادي الخانق يحسر أي حركة في الشوارع.

إعلام قهري

منذ تسعينات القرن الماضي تحول شهر رمضان إلى شهر درامي بشكل أكثر وضوحا، فطبيعته الاحتفائية انتقلت الى التلفزيون، مع طفرة الإنتاج الدرامي خلال الشهر الكريم، حتى أصبح شهر عروض المسلسلات وزبدة الأعمال الدرامية السورية والعربية. قد يكون هذا طابعا مميزا للشهر الفضيل في انسكاب معناه الروحي على الفني والإبداعي، إلا أن إعلاما قهريا جديدا يشارك فيه التلفزيون وأيضا صُناع المحتوى داخل سوريا يُظهر السوريين بأشنع صورة، عبر تصوير مشاهد ومقابلات عشوائية مع فقراء سوريين، عبر تصيدهم في الشوارع، وإعطائهم مبالغ مالية أو سلات غذائية بعد سلسلة من الأسئلة المهينة عن أوضاعهم وصعوبة حياتهم اليومية، أو أسئلة ساذجة تنتهي بإعطاء الناس بعض المال. وهو ما يتم تسويقه عبر وسائل التواصل لتحصيل مشاهدات وإبراز أهمية الأعمال الخيرية وتضخيم الشخصية الإعلامية أو من يقوم خلفها.

GettyImages
دمشق سوريا، رمضان 2022

 دراما التعاطف "الخيري" تشكل مشهدية جديدة لإهانة السوريين في قلب شوارعهم وأحيائهم، فاستهداف الناس عبر المقابلات، وإعطاؤهم مبالغ مالية أو سلات غذائية، هي الإهانة التي يتحول فيها السوري الذي لا يتمتع بأي ظهور في الفضاء العمومي، من مواطن إلى ضحية، يجري التعامل معها بحل جزئي، وحل استعراضي، وهو في الأصل محروم من التعبير عن حقوقه السياسية أو الاقتصادية، فيتم صيده وإنتاج حوار تعاطفي معه لجلب المشاهدات، وعرض انهياره وفقره وعوزه أمام الملايين. ولا يخلو الحوار من بكاء، ولقطات بطيئة لكتلة المشاعر التي تنفرط عند السوريين، ولا يُستثنى ظهور أناس من ذوي الاحتياجات الخاصة، او أطفال يعملون في الشارع، فيقوم المذيع أو المذيعة بإعطائهم مالا، في حين تركز الكاميرا على تفاصيل ثيابهم أو ارتجافهم من البرد أثناء العمل. 

  مشاركة الطعام مع العائلة والأصدقاء والجيران، انحسرت اليوم، وبات كثير من الأهالي يغلقون أبوابهم بخجل ويكتفون بالوجبات المدروسة

وكأن السوريين وفق هذه المعادلة باتوا وجبات لمشاهد تلفزيونية، أو شوارعهم مسرحا لصيد أفقر الناس وأكثرهم تعبا وألما. القنوات الرسمية السورية وصناع محتوى على التواصل الاجتماعي، يقدمون السوريين بأكثر الصور سوءا، بوصفهم محتاجين وجائعين، هذا فضلا عن الأطفال الذين يمنع القانون رسميا دخولهم سوق العمل، فيتم تصوير أطفال لا يحصلون على أدنى حماية أو حقوق وهم يأخذون مالا وطعاما ويتم استيلاد شعور بالتعاطف معهم بطريقة مهينة، خاصة أن بعض الأطفال يعملون بجمع القمامة، أو بيع المشروبات على قارعة الطريق خلال الشهر الكريم. درجات التعاطف المطلوبة، ودرجات العمل الخيري ليست إهانة للذين يظهرون عبر الشاشة، بل للحالة الاجتماعية والسياسية السورية قاطبة، فتظهر السوريين مهانين دون أدنى حقوق أو قدرات على التخلص من آثار فقرهم وعوزهم، وينهار الخطاب الرسمي الذي يتغنّى بالحفاظ على الكرامة وأدنى متطلبات الحياة لدى السوريين. يُعرض السوري كسلعة للتعاطف وإنتاج المشاهد الدرامية المهينة. ويضاف إلى هذا، الصور التي تنشرها الجمعيات الخيرية على صفحاتها الخاصة، بتوزيعها الوجبات والمواد الغذائية كرمى للشهر الفضيل. فيخرج السوري في رمضان من دائرة الفعل وإنتاج المعنى والتقارب والفنون، إلى كونه شخصا مسكينا يحتاج التعاطف، يستجلب بؤسه المشاهدات العالية، او يُستعرض من خلال جوعه خيرٌ مغشوش وسامّ وغير قانوني أو أخلاقي.

GettyImages
بيع الخبز الرمضاني التقليدي في اليوم الثالث من رمضان في أريحا، إدلب، سوريا، 13 مارس 2024

عبر وسائل التواصل والتلفزيون لا تعود الدراما مقتصرة على شركات الإنتاج وأبطال المسلسلات، بل تغدو دراما قهرية تحول السوري إلى مسكين وضعيف ومتهالك وطالب للمساعدة، فيختفي الاحتفال والاحتفاء، ويُعكس أحد أدنى معايير العمل والإيثار الروحي والديني، عبر استغلال الناس لإظهارهم في أبشع الصور. فتصبح سوريا عبر الصورة في الأعمال الدرامية مختلفة عن سوريا التي يمكن رصدها في الشارع وفي سلوك المعنيين فيها بدءا من الحكومة وصولا الى الجمعيات الخيرية وأصحاب المنصات الإعلامية.

font change

مقالات ذات صلة