يوميات الجوع في غزة

أصبح العديد من الفلسطينيين في غزة مخيرين في كثير من الأحيان بين الموت جوعاً أو قتلاً

أ.ب
أ.ب
فلسطينيون يصطفون للحصول على وجبة طعام في رفح

يوميات الجوع في غزة

وقفت هالة زنداح (38 عاما) أمام بسطة خضراوات شرقي مدينة غزة، واستغربت توفر أنواع مختلفة من الخضراوات صالحة للأكل البشري، سألت عن الأسعار فوجدتها مرتفعة لكنها أقل من الأشهر السابقة بقليل، لكن كان الأهم بالنسبة لها شكل الخضراوات التي افتقدتها هي وأكثر من 400 ألف غزي آخرين ما زالوا يوجدون في مدينة غزة وشمال القطاع رغم دخول الحرب الإسرائيلية شهرها السابع بداية أبريل/نيسان الحالي.

تقول: "متنا من الجوع، لا خضار ولا طحين ولا أي نوع من البقوليات أو حتى المعلبات الغذائية كانت متوفرة إلا بكميات قليلة لا تكفي حاجتنا، ويا ريتها كانت صالحة للأكل، خضراوات أغلبها خرابات ما بقبل حيوان ياكل منها".

صحيح أن زنداح لم تستطع شراء الكميات التي تكفيها من الخضراوات بسبب ارتفاع الأسعار، لكنها استطاعت شراء خيارة وحبتين من البندورة وحبة واحدة من البصل ومثلها من الليمون "اليوم بدي أعمل صحن سلطة من شهور نفسي أعمله لاولادي".

في وقت سابق من الحرب، وبالتحديد منذ بداية العام الحالي 2024، أصدرت الكثير من المؤسسات الدولية تقاريرها، محذرة من مجاعة بدأت في شمال قطاع غزة بعد منع الجيش الإسرائيلي من دخول مختلف أنواع البضائع لا سيما الأبرز منها، ومنع دخول الطحين والخضراوات والفواكه والبقوليات وحتى شاحنات المساعدات التي أرسلتها الكثير من الدول العربية والغربية كمساعدات إغاثية لأكثر من مليوني غزي فرضت عليهم الحرب، وأكثر من نصفهم أجبرتهم إسرائيل على النزوح من منازلهم ومدنهم ومخيماتهم إلى منطقة جنوب غربي القطاع بمدينة رفح.

المجاعة مصطلح تقني، يشير إلى أن سكان منطقة ما يواجهون سوء التغذية على نطاق واسع

وقالت الأمم المتحدة في تقريرها الأخير، الصادر يوم 18 مارس،/آذار الماضي، والذي يركز على التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي، إن الحد الأقصى لانعدام الأمن الغذائي الحاد للمجاعة قد تم تجاوزه بشكل كبير، وإن سوء التغذية الحاد بين الأطفال دون سن الخامسة يتقدم بوتيرة قياسية نحو العتبة الثانية للمجاعة. وذكر أن معدلات الوفيات غير الناجمة عن إصابات الرضوح- وهي المؤشر النهائي للمجاعة- تتسارع.

والمجاعة مصطلح تقني، يشير إلى أن سكان منطقة ما يواجهون سوء التغذية على نطاق واسع، وسيؤدي إلى حدوث وفيات مرتبطة بالجوع، وذلك بحسب التعريف العالمي للأمم المتحدة. وهو ما ينطبق على سكان الجزء الشمالي لقطاع غزة، جراء انعدام الأمن الغذائي الذي قد يؤدي إلى المجاعة بحسب توقعات الأمم المتحدة خلال الوقت الراهن وقبل مايو/أيار القادم.

وتعاني زنداح وأطفالها الخمسة من سوء تغذية، حيث انخفض وزنها من 67 كيلوغراما قبل بداية الحرب الإسرائيلية في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلى 52 كيلوغراما في أبريل/نيسان الحالي بحسب ما قالت، بينما انخفضت أوزان جسد أطفالها، ما بين 9 إلى 13 كيلوغراما لكل واحد منهم خلال الفترة ذاتها، حيث تغيرت وتبدلت أشكالهم، وبدا واضحا على ملامح وجوههم النحولة وسوء التغذية، وتضيف: "بدل أن نأكل 3 وجبات في اليوم، يا دوب بنقدر أنا وأبوهم نوفر لهم وجبة واحدة وغير متكاملة التغذية، يعني ممكن الوجبة تكون عبارة عن صحن شوربة لكل واحد مع قطعة من الخبز، ويا ريته خبز مصنوع من الطحين كما اعتدنا".

أشار تقرير الأمم المتحدة إلى إمكانية وقف المجاعة إذا ما تم العمل على تسهيل وصول المنظمات الإغاثية

واضطرت الأم كما غيرها من العائلات الغزية الموجودة شمال القطاع، إلى طحن الشعير وعلف الحيوانات لصناعة بديل عن الخبز، وذلك بهدف سد الجوع وليس بهدف الاستمتاع بالطعام أو الحصول على جزء من التغذية الصحيحة التي يحتاجها الجسد البشري، فيما اضطر آخرون إلى أكل الصبار أيضا لسد جوعهم.

وفي تقرير الأمم المتحدة الخاص بسوء الأمن الغذائي شمالي القطاع، أشار التقرير إلى إمكانية وقف المجاعة إذا ما تم العمل على تسهيل وصول المنظمات الإغاثية، وتمكينها من توفير الغذاء والمياه والأدوية والخدمات الصحية وخدمات الصرف الصحي، على نطاق واسع، لجميع السكان المدنيين، وبحسب برنامج الأغذية العالمي، قال إنه يتطلب السماح بدخول 300 شاحنة يومياـ محملة بالاحتياجات الغذائية الأساسية لتلبية الحد الأدنى من حاجة السكان، فيما سمحت إسرائيل بدخول 9 قوافل فقط خلال الربع الأول من العام الحالي، كانت أكبرها قافلة مكونة من 18 شاحنة فقط، وكانت محملة بالطحين وبعض الطرود الغذائية والحصص الغذائية الجاهزة للأكل.

أ.ب
إسرائيليون يجلسون أمام بوابة في معبر جنوب إسرائيل، احتجاجا على دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة

وكانت إسرائيل قد فصلت قطاع غزة إلى نصفين خلال الشهر الأول للحرب، وأجبرت أكثر من نصف سكان الجزء الشمالي والبالغ تعدادهم مليونا و100 ألف غزي تقريبا على النزوح جنوبي القطاع، وعمل الجيش الإسرائيلي على منع عودة النازحين، كما منع عنهم دخول كافة أنواع المساعدات والبضائع الغذائية والطبية، وحرمتهم من الحصول على الخدمات الأساسية في الوقت الذي كان يعمل فيه الجيش الإسرائيلي على التوغل بريا والقصف من البر والبحر والجو لمختلف أحياء ومخيمات النصف الشمالي، ما أدى إلى دمار يفوق ما نسبته 90 في المئة في بعض المناطق، كما استهدف الأسواق والمحال التجارية والمخابز والمصانع ومخازن المواد الغذائية وحتى مقرات المؤسسات الدولية والإغاثية.

ما سبق ذكره، كان سببا رئيسا في تفاقم الأزمة والمجاعة الغزية وحتى الأزمة الصحية. رامي خَضورة (44 عاما)، من سكان شمال غزة، لم يتمكن من النزوح إلى جنوب القطاع بسبب مرض ابنه محمود (10 سنوات)، والذي يعاني من ضمور في الدماغ منذ ولادته، وجسده شبه مشلول، يقول: "ابني بحاجة لرعاية خاصة، صحية وطبية وغذائية، وللأسف لا تتوفر كل تلك الاحتياجات منذ بداية الحرب وبالتحديد منذ بداية العام الحالي بسبب منع دخول المواد الغذائية والطبية".

وأوضح أنه أجبر على المكوث شمالي غزة بمنزله رغم القصف والدمار الذي طال محيط منزله، إلا أنه لم يستطع التنقل بطفله، يقول: "في لحظة من اللحظات فكرت أتركه وأطلع بس هو ابني وقلبي ما طاوعني، خفت عليه وعلى نفسي وعلى زوجتي وأطفالي الثلاثة الآخرين، لكن هذا الوضع أجبرنا على الصمود".

سجلت وزارة الصحة في غزة يوم 13 أبريل/نيسان الحالي، وفاة 28 طفلا دون 12 عاما شمالي القطاع

كان خضورة في كل لحظة يتوقع فقدان ابنه، لكن ليس ذلك مصدر خوفه الوحيد. مع عدم قدرته على توفير الحد الأدنى من الطعام والشراب لأطفاله الآخرين، شعر بخطر محدق يدور حولهم كأسرة، يقول: "لا قادر أوفر أكل وشرب للأولاد، ولا قادر أوفر العلاجات الطبية والمكملات الغذائية لطفلي المريض، ولا قادر أحمله وأطلع به للجنوب، ولا قادر أحمل أولادي وأطلع بهم وأترك ابني المريض للموت".

وسجلت وزارة الصحة في قطاع غزة، بحسب تقريرها الصادر في 13 أبريل/نيسان الحالي، وفاة 28 طفلا شمالي قطاع غزة منذ فبراير/شباط الماضي وحتى صدور التقرير، نتيجة سوء التغذية، وقالت الصحة في تقريرها، إن جميع حالات الوفاة كانت دون سن الـ12 عاما.

يقول الأب: "في أيام أطفالي ناموا من عياطهم من الجوع، وفي أيام قدرت أوفر لهم بديل الخبز المصنوع من علف الحيوانات"، وفي بعض الأحيان اضطر إلى شراء بقايا الخضراوات التالفة رغم ارتفاع أسعارها والذي تعدى 30 دولارا للكيلوغرام الواحد، مثل البندورة والخيار.

رويترز
فتاة فلسطينية أثناء قياس قطر ذراعها بسبب سوء التغذية في خيمة طبية أقامتها منظمة ميد غلوبال بالتعاون مع اليونيسف في غزة

مع تزايد مراحل الخطر، والتحذيرات الدولية، أو ربما بعدما شعر الجيش بأنه حقق بعض الإنجازات في دماره الشامل الذي أحدثه شمالي القطاع خلال 7 أشهر من الحرب كان خلالها متوغلا في معظم مناطق الشمال بريا، بدأ عدد الشاحنات المسموح بدخولها يزداد خلال الشهر الحالي، حيث أصبح يدخل ما بين 10 إلى 15 شاحنة غالبية الأيام، كما سمح بعودة عمل بعض المخابز المدعومة من برنامج الغذاء العالمي لتوفير الخبز للغزيين، كما بدأت بعض الخضراوات تتوفر لكن الأسعار ما زالت مرتفعة بأضعاف عن سعرها الطبيعي ما قبل الحرب، والذي لم يكن يزيد عن دولار أو دولار ونصف للكيلوغرام الواحد.

font change

مقالات ذات صلة