أُمَمِية غرافيتي غزة: صرخة في وجه الحرب

تضمّ فنانين فلسطينيين وعربا وعالميين

غرافيتي خالد حوراني بالاستناد إلى صورة للمصور الصحفي مجدي فتحي، 1 يناير 2024

أُمَمِية غرافيتي غزة: صرخة في وجه الحرب

انطلقتْ حركة أو حملة "أطلقوا صوت غزة Unmute Ga" في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وكان المبتدأ شرارة في متحف غوغنهايم بمدينة نيويورك، حينما رفع نشطاء ضد الحرب على غزة، لافتتين موشومتين بلوحتين من صنف الغرافيتي لفنان الشارع الإسباني Escif، تستلهمان صورتين فوتوغرافيتين للفنانين الغزاويين بلال خالد ومحمود قاسم، فكان رد فعل المتحف اغلاق مدخله لفترة.

إثر ذلك، نشأت الفكرة البديعة في التحريض على استنساخ الصور التي يلتقطها فوتوغرافيون فلسطينيون من ذوي الصدقية المهنية في غزة، في أتون الحرب التي تُشَن عليها بوحشية؛ صور فوتوغرافية لصحافيين وفنانين تؤرخ للمأساة اليومية في القطاع، ومضاعفاتها الساحقة للعمران والإنسان والحيوان. ثم اعتماد هذه الصور الفوتوغرافية في أعمال فنية غرافيتية، ينجزها أشهر فناني الشوارع عالميا، أولا في مدنهم في مختلف أصقاع العالم، على أن تنشرها بعدئذ حركة Unmute Gaza خاصة، أو المناهضون للحرب الإسرائيلية البربرية على غزة عامة، على نطاق واسع في مجمل حواضر المعمورة، لتتحول إلى حملة فنية أممية، تستهدف رفع خيمة الصمت التي تطبق على غزة المحروقة، المنكوبة، المُبادة عن بكرة أبيها، بأمل إيقاف الجرائم الدموية والمحارق المستعرة التي ترتكبها إسرائيل، ساعة تلو أخرى على نحو جماعي، بمباركة وتواطؤ فادحين من معظم المجتمع الدولي.

ضدّ المحرقة

على هذا النحو الجَسور، أعربت الحركة في شُعلة بيانها: "نحن، مثل الكثير من الناس في جميع أنحاء العالم، مصدومون من الوضع في فلسطين، منذ سنوات عديدة. فلسطين تحت النار. إذ يموت آلاف المدنيين في غزة. فيما حكومات دولنا الغربية في أوروبا متواطئة في هذه الإبادة الجماعية وصمتها مؤلم جدا. علاوة على ذلك، فإن الجدار الذي يحاصر غزة أصبح اليوم أكبر بكثير من مجرد جدار خرساني. لقد منعت إسرائيل الصحافيين من دخول غزة، وقطعت أيضا الكهرباء والإنترنت، مما أدّى إلى إنشاء جدار إعلامي لا يسمح بالتوازن... ولحسن الحظ، لا يزال هناك عدد قليل من المصورين الصحافيين داخل غزة يخاطرون بحياتهم لتوثيق ما يحدث هناك. لقد أطلقنا حركة إبداعية حيث ندعو الفنانين لإنشاء أعمال فنية من الصور التي التقطها هؤلاء الصحافيون الرائعون، مع إضافة رمز MUTE، وبذا نشجع الجمهور على لصقها في مدنهم، مجرد التفاتة صغيرة لنقول إننا لا نوافق، ولسنا متواطئين".

تستهدف الحملة رفع خيمة الصمت التي تطبق على غزة بأمل إيقاف الجرائم الدموية والمحارق المستعرة

هكذا استندت الحركة إلى صور فوتوغرافية من قلب المحرقة الغزاوية، للمصورين الصحافيين والفنانين الفلسطينيين: بلال خالد، محمود بسام، مجدي فتحي، ساهر الغرة، سامح نضال رحمي، بشار طالب، دعاء الباز، دعاء روقة، حمدان دحدوح، لؤي أيوب، مريم أبو دقة، محمود حمص، محمد المصري، سمر أبو العوف،  سهيل نصار، وسام نصار...

رسم غرافيتي بالاستناد إلى صورة للمصور الصحفي ساهر الغرة، 8 ديسمبر 2023

هذه الالتفاتة التاريخية من فناني الغرافيتي، جدّدت علاقة المهتمين والمعجبين على حد سواء بفلسفة هذا الفن المتمرّد، بالعودة إلى ينابيعه البكر. إن كان لفن الغرافيتي أصول تاريخية قبل ستينات القرن الماضي، يمكن تتبعها حفريا على نحو معرفي وجمالي، حدّ العود الجذري إلى ما خطه رجل الكهف على جدران المغارات والصخور، ثم انزياحا إلى نماذج استيهامية في حضارات كبرى كالسومرية والبابلية والفرعونية والكنعانية والفينيقية واليونانية، وصولا إلى ثورات القرون 19 و20 و21... ففترة ستينات القرن الماضي خاصة في نيويورك، شكلت المناخ المتوتر الذي شهد اندلاع هذه الطفرة الفنية، وتكرس الغرافيتي كشكل تعبيري طليعي مع أسماء مؤسِّسة من قبيل داريل ماكراي الشهير بلقب "خبز الذرة"، وقد بوأه نقاد هذا الإبداع الصارخ ريادة أنطولوجيا الكتابة على الجدران. كذلك ديمستروس اليوناني الشهير بـ"تاكي 183"، وساندرا فابارا الإكوادورية ذات النزوع النسوي الشهيرة بالسيدة الوردية، وكيث هارينغ صاحب جدارية "نحن الشباب" الذي قرن الغرافيتي بفن البوب.

صوت الهامش

نشأ فن الغرافيتي بداية في القيعان المظلمة للمدن الضخمة، متمثلا صوت الهامش، صوت الشارع الآخر المعارض للسلطة وسياسة الحكومات الممعنة في الظلم الاجتماعي، وبذلك شكل أسلوبا علنيا صارخا للتعبير عن الموقف المضاد، بخلفية نقدية وجمالية ذات رسائل لاذعة، تنتصر لقيم الحرية في مقابل العنصرية والرقابة والقمع.

وهذا ما فعله الفنان الإنكليزي بانسكي صاحب عمل "الفتاة الصغيرة ذات البالون"، وهو ناشط سياسي ومخرج سينمائي أيضا، إذ جعل من الغرافيتي أسلوبا فنيا ملازما للقضايا الكبرى، ومنها أشكال مناهضة ألاعيب الرأسمالية وتعرية أقنعة السلطة ومجابهة الاستهلاكية المتفاقمة والانحياز إلى تحرر الشعوب، إذ لم يكتف بالرسم على جداريات لندن وبرايتون وبريستول بل غامر بالرسم على جدران الضفة الغربية وغزة أيضا.

وجد الأمر صدى صاخبا في أوروبا، فأقام الفنانان "كونيس" و"فريدي" أول معرض لهذا الفن المشاغب في روما، وهذا ما عززته وكرسته وطورته ضمن نزوع متشعب، ميسمُه التحولات والإبدالات، أسماءٌ جديدة مثل كريس إليس، دوندي وايت، تريسي 168، سامو الذي حققت إحدى لوحاته الفنية زهاء 110 آلاف دولار، وهو أعلى مبلغ على الإطلاق يحققه عمل لفنان أميركي - متجاوزا صاحب الرقم القياسي السابق، آندي وارهول، والتوأم أوس جيميوس، وبرادلي ثيودور، والثنائي بيتشي وآفو، وإدواردو كوبرا، وبامبي، وجي آر، وسامي الديك.

شمل الصدى أيضا تأثيرا في السرد والسينما، كقصة غرافيتي للأرجنتيني خوليو كورتاثار، وفيلم "الخروج من متجر الهدايا" من إخراج فنان الغرافيتي نفسه بانسكي على سبيل المثل لا الحصر.

رسم غرافيتي بالاستناد إلى صورة للمصور الصحفي بلال خالد، 24 أكتوبر 2023

وبعد منجز بانسكي الذائع الصيت والجدال، يعد الفنان الأميركي شيبرد فيري أشهر مبدعي الغرافيتي المعاصرين، الذي مزج جماليات موسيقى البوب ببنائيات الدعائية الروسية، مع توظيف مبتكر لتقنيات دادائية ودوشامبية (مارسيل دوشان)، واعتماد أسلوب طباعة أندي وارهول بشكل مبتكر، فضلا عن تعويم صور إعلانية وإخبارية على سبيل الكولاج.

وقد التحق شيبرد فيري بحركة "أطلقوا صوت غزة Unmute Gaza"، مفصحا عن صدمته من القصف الإسرائيلي العشوائي وتجاهل حقوق الإنسان في غزة، إذ ليس ثمة أي مبرر أخلاقي لحرمان مواطنيها من المياه والكهرباء والضروريات الأساسية فضلا عن تهجيرهم الجماعي.

 كسرت هذه الحركة الفنية جانبا صلدا من جليد الصمت المطبق حول مجازر غزة اليومية

وقد أنجز شيبرد فيري عملا فنيا مستلهما من صورة فوتوغرافية للفنان الفلسطيني بلال خالد، وَسَمَهَا بعنوان: "هل تستطيع سماعنا؟". عن هذا الاختيار كتب في موقعه الإلكتروني: "لقد استلهمت العمل من صورة بلال خالد لصبي صغير يبكي من الألم بسبب جروحه والدم يسيل على وجهه، إن صورة كهذه –وآلاف الصور الأخرى- يمكن أن تزيل الطبقة السطحية للبلد، والعرق والدين، وتسلط الضوء على المعاناة الإنسانية الأساسية التي تحدث في غزة. أنا مضطر إلى تضخيم الرسالة التي تحملها صورة بلال: هل تستطيع سماعنا؟ دعونا نأمل من أجل السلام".

لم تقتصر صرخة "أطلقوا صوت غزة Unmute Gaza " على استقطاب فناني الغرافيتي حول العالم من أمثال: جومي مونتسيرات، ايرون، ألبا فابر، إرنست زاكاريفيتش، راكيل أبارسيو، الإيمان XLVII، نادية جابر، محمد الغشام، باولا دلفين، ماثيو بوميي، ستيفان كريش، ماكوتو تشي، إمليو سيريزو، ماركوس كاسترو، ماز، خالد حوراني، فاتح 47، غونزالو بوروندو.

غرافيتي الفنان الأميركي شيبرد فيري بالاستناد إلى صورة للمصور الصحفي بلال خالد، 8 نوفمبر 2023

بل كسبت تعاطف منظمات فنية أخرى وحقوقية وبيئية كمنظمة السلام الأخضر الإسبانية التي بادرت إلى رفع لافتة تضم عمل الفنان الأميركي شيبرد فيري الموسوم بعنوان "هل تستطيع سماعنا؟" في مدخل متحف رينا صوفيا بمدريد الذي يضم لوحة غيرنيكا الشهيرة لبيكاسو، وبذا اختارت المكان الأمثل لإطلاق نداء وقف الحرب على غزة بالنظر إلى أن الغيرنيكا أمست رمزا كونيا لمأساة الحرب.

بهذه المبادرة المبتكرة، كسرت هذه الحركة الفنية جانبا صلدا من جليد الصمت المطبق حول مجازر غزة اليومية، بإثارة الانتباه العالمي إلى حقيقة ما يحدث في الأرض، مصححة بذلك المغالطات المستفحلة حول مبررات الحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل بمباركة من شركائها في الجريمة من الأميركيين والأوروبيين وغيرهم. وكيفما كان أثر هذه الحركة الخلاقة طفيفا أو متوسط التجاوب والتفاعل، فيشفع لها أنها ضاعفت مرة أخرى بشكل عملي وميداني، حقيقة الرهان أو الإيمان بما يستطيع الفن أن يفعله بشجاعة ضد بربرية الحرب، ووحشية السلطة، والفساد السياسي المستشري، مقابل انتصاره الدائم، بلا هوادة، للقيم الإنسانية والجمالية.

font change

مقالات ذات صلة