يلعب بليغ حمدي في ذهن متعصبيه دور منتج الأغاني الأكثر رواجا والأكثر تطابقا مع أحوال الأجيال، ويمثل كذلك حداثة وقدرة على الاستمرارية لا تتوفر لسواه. يتم الاستشهاد بشبابه وبكونه أصغر من لحّن للست أم كلثوم، ويوظف ما اشتهر به من سرعة الإنتاج وغزارته في سياق البرهنة على عبقرية لا تضاهى.
الحالم والمعلم
تفسير التعصب لبليغ، قد يعود إلى قابلية عدد كبير من الأغاني التي لحنها للتوظيف المباشر والاستعمال الشخصي للتعبير عن أحوال عاطفية محددة، كما أن الصيغة العامة لأعماله تحارب ثقل الواقع العام وتنشئ حالة تنفيس ووعود.
محمد عبد الوهاب
لحن بليغ خطابات حب يمكن تبادلها بين العشاق وحرص -حتى في ألحانه الوطنية- على الابتعاد عن النشيدية وخلق بعدا عاطفيا رومانسيا للوطن والقضايا بأسلوب يعتمد على سطوة الإيقاعات. يمكن القول إن جل نتاجه كان مشخصنا وراقصا واحتفاليا، وعموميته وشيوعه ينبعان من تلك الأبعاد. لقد رقّص الألم والحنين والغربة والوطن فبدا كل ثقل عابرا وآيلا الى الزوال وذلك بغض النظر عن عناصر التماسك الفني والموسيقى وبناء العمل. لقد بنى مناطق هروب وأحلام وعزاء واستجاب لضرورات اجتماعية وسياسية في توقيت مناسب.
عبد الوهاب لم يكن معاديا للخفة والترقيص، ولكنه كان يسعى على الدوام إلى أن تكون تلك العناصر جزءا من التكوين الموسيقي والبنائي للأغنية والعمل الموسيقي وليست حالة تسقط عليهما استجابة لضرورات خارجية. كان يعتبر أن السلطة كل السلطة للفن وأنه قادر على خلق الأحوال والأمزجة وليس مجرد التماهي معها. عناصر التماسك والانسجام التي طبعت جل نتاجه الفني والموسيقى أسست منطق معنى بقي مرتبطا بطريقة العمل نفسها لناحية الدلالات التي لا تدافع عن الهروب بل عن البناء المتواصل والتجريبي والشاق القائم على واقعية حساسة ومنتبهة. عبد الوهاب لم يشأ لعب دور المعزي والحالم بل حرص على أن يكون دائما المنبّه والمعلم.
ولعل اختلاف المناهج بينه وبين بليغ ينعكس كذلك على الشخصية، فبليغ كان بوهيميا فوضويا تلقائيا انفعاليا، بينما كان عبد الوهاب منهجيا ومنظما ومنضبطا وعقلانيا. ولعل الانحياز الى بليغ قد يكون في عمقه رغبة في تمثل شكل حياته على الرغم من نهايتها المأسوية بينما لا تشكل حياة عبد الوهاب تجربة مغرية.
نهاية الإصغاء
في محاولة للتحليل لا تعنى بمعارك التفوق، يمكن القول إن حرص بليغ على إدخال الإيقاعات الراقصة إلى الأغاني واللعب عليها، خلق مدرسة نمت واستمرت وسادت. انتقل معها تلقي الغناء من حالة الاستماع الرصين والهادئ إلى الحالة المهرجانية والصاخبة التي تجعل العمل الفني الغنائي مثيرا لحالة معينة وليس غاية في حد ذاته.
بليغ حمدي
قد يكون تمثل شغل بليغ حمدي -عن قصد أو من دون قصد- فاتحة لعهد سطوة الصورة على الصوت وغناء المهرجانات وغيرها. الجمهور الذي راح من تلك اللحظة يهلل ويصرخ ويرقص، بات مصنوعا بالكامل وبشكل مسبق. تاليا، شرع الملحن بالتحول إلى نموذج سلطة لا تنتظر جماهير ولا تتوقع رد فعل مجهولا مع كل عمل جديد بل بات كل شيء مضمونا وواضحا.
خلق بليغ حالة رواج استثنائية في زمنه ولكن أثرها الأبرز كان في التأسيس للمنتَج الذي لا يحتاج إلى جماهير. ولعل عبد الحليم حافظ الذي حرص على توظيف نجاح بليغ حمدي مع محمد رشدي وسرقة هذا النجاح وتوظيفه في توسيع دائرة جماهيريته قد انتبه إلى أن الألحان الشعبية التي غناها يعود نجاحها إلى سطوة النوع وليس إليه وإلى الحالة التي يمثلها.